أصبح الحديث عن أدونيس، الشاعر والناقد السوري ذائع الصيت، مليئا بالحذر، لا من جهة مقاربته الأدبية والفكرية وحسب، بل من جهة تحوّله لمقياس يُعرف به مدى تقاربك مع ما يُعرف بـ”الربيع العربي”، وخاصة الثورة السورية، أو ابتعادك عنه.

تحوّل الحديث عن الرجل إلى حقل ألغام إلغائي، أي كلمة عنه أو عليه، ستجعل أحد الفرقاء يرميك في هذا الجانب أو ذاك، إن حاولت قراءته من جهة أنه شاعر ومفكّر فقط، سيلغيك الثوريون، ويرموك في حفرة المتواطئين مع أدونيس، أو يعتبرونك شريكا في “طائفيته” أو “علمانيته” أو “تنويريته”؛ وإن انتقدته لموقفه السياسي الضبابي، ستكون مشاركا في إلغاء نتاج أدونيس الكبير في الشعر والنقد العربي، حديثه وقديمه.

هل المشكلة في الجمهور “الثوري” فقط؟ بالطبع لا، بل في تَمثُّل أدونيس وحضوره في الحقل الثقافي والسياسي العربي. قبل الانفجارات العربية، كان تَمثُّل أدونيس على شاكلة شاعر نخبوي ومثقف طليعي، يسعى، وآخرين، إلى تجديد بنية القصيدة العربية، ويحاول عبر أبحاثه النقدية، قراءة الإرث الأدبي العربي، شعرا ونثرا، ونقده.
 
بعد الثورات، تحوّل تمثّل الرجل ليصبح أقرب إلى تمثّل نجم سينمائي أو مغني بوب شهير. الجميع، من قرأ أدب أدونيس، ومن لم يسمع باسمه من قبل، بدأَ يتحدث عنه وعن آرائه، في غمرة موجة إلغائية ضربت المنطقة كاملة، وكان لأدونيس، نصيب وافر منها. لكن فعلا، ما المشكلة تماما مع أدونيس؟ وما حيثياتها؟

من الخميني إلى الأسد

إشكالية أدونيس ليست بجديدة. هُوجمَ سابقا لمحاولة نبشه في التراث العربي. كذلك عدّه بعض النقاد منتحلا في أبحاثه وشعره، ولم يكن حضوره في الحقل الثقافي العربي حضورا هادئا، بل لطالما كان  إشكاليا، ومشاغبا. ولطالما أراد هو ذلك “حينما أفترض أني أرضي الجميع، أول من يشك فيَّ هو أنا نفسي، سأقول: هذا يستحيل، أنا لا أريد أن أرضي جميع الناس، أريد أن أشقّهم لا أن أوحّدهم. التوحيد سهل، أسهل شيء أن نتفق على رأي مشترك، عام، لكن أن تحرّك أعماق الإنسان هو أن تثير فيه الإشكالات، فأنا من جهة الشيطان لا من جهة الملاك في هذا الخصوص”. يقول أدونيس.

بدأ مشكل أدونيس الكبير، إن أمكن تسميته بذلك، مع بداية الثورة السورية تحديدا، اتخذ منذ البداية موقفا مائعا، خشي من أسلمة الثورة قبل أن تتأسلم فعلا. كرر جملته الأثيرة في الانفجار السوري: “لا أثق في ثورة تخرج مظاهراتها من الجوامع”. انهال عليه الجمع الغاضب: كيف يكون موقفك من الثورة كذلك، وأنت الداعي منذ زمن إلى ثورات أدبية ونقدية على التراث العربي؟ وفي ذلك وجه حق، فعندما يقدّم المثقف نفسه على أنه مجدد وثائر في الأدب، سينتظر منه جمهوره موقفا مماثلا في الثورة السياسية. كما أنه عبّر، في مواضع عديدة، أنه على الكتّاب والأدباء أن يكونوا دوما ضد الأنظمة السياسية، في محاولة لإصلاحها وتطويرها. وكان داعيا على الدوام للجديد والتجديد في الحضارة العربية. أليس هو القائل “يجب أن نفكر بمجتمع جديد، وعروبة جديدة، بخطاب جديد، وثقافة جديدة، وتأويل جديد للدين، وليس سلطة جديدة فقط”؟

من المهم الاعتراف أن أدونيس لم يُهاجَم لموقفه الجذري من الدين الإسلامي، بل لأنه وقف ضد “الجديد” الذي تبناه سابقا. وزاد من حدة الهجوم عليه موقفه السابق من الثورة الإيرانية. فكيف لك أن تقف مع ثورة الخميني الدينية، وترفض، بالوقت عينه، أن تجنح الثورة السورية ناحية الإسلام؟

أجاب أدونيس عن هذا السؤال كثيرا، وأوضح أنه وقف مع الثورة الإيرانية بدايةً لأنها ضد “الإمبراطورية”، وشاركه في ذلك عديد المفكرين الأوربيين اليساريين، من أمثال ميشيل فوكو وغيره. وفسّر أيضا موقفه بأنه كان دائما ضد الدولة الدينية، التي أنشأها نظام الخميني في إيران، بعد أن كان داعماً للثورة السلمية التي قادها، وذلك ما وجد أن الثورة السورية افتقدته: اللاعنفية.

لكن حينما يُسأل أدونيس عن سلمية الثورة السورية في بداياتها، وعن العنف المفرط المستخدم من طرف النظام، وأن هذا العنف كان سببا في تصاعد عنف الثورة، تراه ينأى بنفسه ويجيب: “لا أعرف من الداخل كيف تطوّرت سوريا”. فيعيد دائرة الهجوم عليه إلى البداية.


نوبل، أدونيس، ميونخ

إحدى أهم نقاط النقد المتهكّم، الذي يوجّه لأدونيس، ما يقال عن “تهافته” على جائزة نوبل للآداب، التي يُحرم منها كل عام، في علاقة حب من طرف واحد.

يظن البعض أن ارتباط الشاعر بجائزة نوبل ارتباط جديد، بدأ مع العقد الأخير. وهذا يجانب الصواب، فارتباط أدونيس بنوبل بدأ منذ مطلع التسعينات. وفي النظر إلى مقابلة أجراها منتصف التسعينات مع الإعلامي محمد رضا نصر الله، نلحظ أن المُحاور يسأله عن مسألة نوبل، وأنه متهم دوما بأنه يسعى وراء هذه الجائزة. وكان رد أدونيس آنذاك منطقيا، إذ قال إن جائزة نوبل هي جائزة لا يمكن السعي إليها “يستحيل على أي شخص أن يسعى للحصول على جائزة نوبل، لأنه من شروط الجائزة أن لا يسعى إليها أحد”.

مهاجمو أدونيس لا يقيمون لهذا الكلام وزنا. ومع كل دورة للجائزة العالمية، تظهر أصواتٌ شامتة، بعضها لم يقرأ لأدونيس يوما، ولا يعرف من نوبل إلا اسمها، رغم ذلك يتشفّى بفشل أدونيس بالحصول عليها. باختصار، كيف يمكن للجموع أن تُنزل لأدونيس من عليائه العاجي، وتعيده إلى الحياة اليومية، وتجعل منه، بلغة اليوم ، “تريند” للتندر. الطريقة الأسهل والأكثر “رخصا”، إن صح التعبير، هي مسألة ترشيحه لجائزة نوبل، وعدم نيله لها، مع أن الترشيح بحد ذاته تكريم لأي أديب، وليس مأخذا عليه.

وبعيدا عن تريندات “فيالق الحمقى”، حسب تعبير أمبيرتو إيكو في وصفه لفعل “الجمهور” على وسائل التواصل الاجتماعي، يشير الكاتب التونسي منصف الوهايبي، في شهادته عن أدونيس، إلى أن أحد الأسباب الرئيسية لعدم حصول أدونيس على الجائزة، هو موقفه من عملية ميونخ الشهيرة عام 1972، حين قامت مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين باحتجاز رياضيين إسرائيليين في المدينة الأولمبية بميونخ. وبحسب الوهايبي فإن موقف أدونيس حينها كان واضحا لا مراء فيه، وقف مع العملية ودعمها، لا بل وكتب عنها أيضا دون مواربة. أي ما منع أدونيس عن الجائزة، ربما لا يكون رثاثة أدبه، أو الأصوات المناوئة له، غير المسموعة عند أولي الجائزة بالطبع، بل موقفٌ سياسي، لم يسمع نقاد أدونيس ومهاجموه عنه أي شيء.

من الأسئلة التي يمكن طرحها في هذا السياق: هل يريد أدونيس فعلا نوبل؟ الجواب سهل، لا يوجد أديب في العالم لا يتمنى الحصول على الجائزة الأشهر في مجال الآداب في العالم. هل سيتأثر حضور أدونيس ورأسماله الرمزي إن لم يحصل عليها؟ الإجابة لا، فموقع أدونيس في الحقل الثقافي العربي قائم على شعره، وعلى أبحاثه في التراث الأدبي العربي، وعلى رأسها كتابه “الثابت والمتحول”، وموسوعتيه في الشعر والنثر العربي.

الشريط الأخير لأدونيس

لدى البحث على الإنترنت، يبدو أن آخر حضور مصوّر لأدونيس، هو لقاء مع طلاب إحدى الجامعات اللبنانية، وفيه يلتقي أدونيس مع جمهوره عن بعد، ويلقي عليه محاضرة حول مفهوم “الأمة”، تحت عنوان عريض: “في البدء كانت الأمة، لكن لا أحد يتساءل ما الأمة، ومن هي الأمة”.

يقوم أدونيس في هذه المحاضرة بمناقشة الوضع الثقافي العربي عامة. يقدّم نقده المعتاد للإسلام الحديث، ويرى باختصار أن العالم العربي اليوم يقف بين ديكتاتوريات دينية وأخرى سياسية، وأنه في حال لم تخرج الذات العربية من هذه الثنائية، فإن ذلك قد يعود عليها بالفناء، حالها حال الأمم الغابرة. “لا يجوز أن يُحشر الشعب العربي بين ضفتي ديكتاتورية عسكرية وديكتاتورية دينية”. يقدّم في هذه المحاضرة نقدا أركيولوجيا (اذا استعملنا مصطلحات يحبها أدونيس) لمفاهيم “الهوية، الأنا، الأمة”. يناقش مع الطلبة الموقف من الذات العربية، ويجد أننا نعيش في زمن لا رأي فيه للفرد العربي، إنما هو “محض غصنٍ في شجرة الجماعة”.

يشير إلى أنه “لا يوجد ذات عربية متفرّدة، بل يوجد جموع فقط”، ويجد أن عدم تمايز هذه الذات هو الإشكال الأكبر الذي تواجهه الأمة العربية. لأن الجماعية محو للذاتية، وتحديدا في حالتنا العربية. كذلك يعيد قراءة التراث العربي بوصفه تراثا حمل عبر تاريخه الطويل ذوات فردانية، ولم يعد قادرا على حمل مثيلها الآن، وكأنه بذلك يشير إلى أدونيس ذاته، وإلى فورة الإلغاء التي طالت الجميع في زمن الانفجار العربي. بعد ذلك ينتقل لقراءة مفهوم “الهوية” وتمثّلاتها، ويحددها بمحددات ثلاث “الأرض، العرق، الدين”، ويشير في معرض حديثه أنه على العربي أن يستبدل سؤال “من نحن؟” بـ”من أنا؟” ويبحث عن هويته الفردانية بمعزل عن هوية الأمة ومحدداتها.. جٌمل وأفكار أدونيسية بامتياز.

بعد تلك المحاضرة، التي يظهر فيها أدونيس بهيئة حميمة قريبة من الجيل الجديد، يُفتح الباب لأسئلة المشاركين. وفي لمحة سريعة على نوعية الأسئلة الموجهة له، يظهر مدى ضحالة اطلاع الطلبة أنفسهم على أدب وفكر ضيفهم. تدور جلّ الأسئلة حول علاقة أدونيس بالإسلام، وتطفو كلها على السطح. يُظهر السائلون خلطا واضحا بين العمل على حرق الإرث الفكري العربي، وبين إحداث القطيعة معه. ولعل هذه مشكلة أدونيس دائما مع ما يفترض أنه جمهوره، وربما كان السؤال الأفضل: ما مدى مسؤوليته هو نفسه عن ذلك؟

 لم يطالب أدونيس، في نقده للتراث العربي، بدفن هذا التراث والقضاء عليه، بل طالب بإحداث “قطيعة معرفية” معه، والبحث عن بنية جديدة لتمثّل التراث العربي والإنسان العربي. وهو بذلك يعيد إنتاج مفهوم القطيعة الابستمولوجية، الذي كان سائدا يوما في الفكر الغربي (بالعودة لغاستون باشلار، مؤسس المفهوم). قد تكون أفكارا عتيقة من زاوية ما. لكن هل نلغي أدونيس لأنه طالب بـ”القطيعة”؟ النقاش مع من لا يعرفون الفرق بين الإلغاء والقطيعة، ويتحدثون عن أدب أدونيس في الوقت نفسه، غير مجدٍ.

أخيرا، لا يمكن مناقشة إشكالية أدونيس، دون المرور بإحدى أهم التهم التي يُقذف بها، وهي أنه “أقلي”. ويعني المتّهِمون أنه ينتمي إلى الأقلية العلوية في سورية، وهذا الانتماء هو دافعه لتبني وجهة النظر المعارضة للثورة السورية. لكن مهلاً؟ هل أدونيس فعلا أقلي؟ نعم أدونيس أقلي، لكن ليس على الشاكلة السالفة، إنما أقلي بالمعنى الذي قدمه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز. أي حينما يأتي كاتب ما بنصوص يهدّ بها حدود اللغة، ويشوّش مفهوم الهوية، ويزيد من ارتباكاتها. ذلك بالضبط ما فعله أدونيس، حينما حفر في كامل الخطاب الفكري العربي، بكل طوائفه وجوانبه، وقدم قولا فكريا متينا، قد تتفق معه أو تختلف، لكن لا يمكن أبدا محوه أو إلغاؤه.، لأن ذلك سيلغي تراث فاعل ومؤثر مهم في الفكر والشعر العربي المعاصر، دعا دائما إلى الحرية، على طريقته، فـ”العبد هو الوحيد الذي يخاف من الحرية ويخشاها”، وأدونيس دائما ما رفض أن يكون عبدا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.