إشكالية “الأختية”: هل يمكن للنساء التضامن لأنهن نساء فقط؟

إشكالية “الأختية”: هل يمكن للنساء التضامن لأنهن نساء فقط؟

بدأ مصطلح “الأختية” أو “إخاء النساء” Sisterhood بالظهور في منتصف القرن الثالث عشر، وتطوّر عن أصله اللاتيني (swesor)، الذي كان سابقا يشير إلى الشقيقة الأنثى، أما في أواخر القرن الرابع عشر فقد أشار إلى رفيقة المرأة، التي تتشارك معها حالة إنسانية أو النشاط نفسه. ليُطلق بعد ذلك على مجتمع الأخوات في النظام الديني منتصف القرن الخامس عشر، وبات في القرن التاسع عشر يدلّ رسميا على الأخت في الدير. استخدامات المصطلح، بشكلها الحديث، ظهرت مع بدايات القرن العشرين في الولايات المتحدة الأميركية، ليشير بشكل خاص إلى الرفاقية بين النسويات؛ وفي العشرينيات، بات رمزا للشراكة بين النسويات السود.

 ذكرت الباحثة الاسترالية زون فيفان، في بحث لها، تناقش فيه تعريفات موسوعة “وايلي بلاكويل لدراسات النوع الاجتماعي والجنس”، أنه بالرغم من كون مصطلحي النسوية والأختية يبدوان قابلين للتبادل في بعض السياقات، إلا أن لكل منهما دلالاته المميزة، فبينما تشير النسوية إلى الاهتمامات السياسية والاجتماعية المشتركة للنساء، فإن الأختية تؤكد على الانتماء القائم على الجنس فقط.

البعد السياسي لكلمة “الأختية” تصاعد مع الموجة الثانية للحركة النسوية، التي انطلقت في الستينيات، عندما امتد ليشير إلى التضامن الواسع بين جميع النساء، انطلاقا من مبدأ أن تفاصيل الحياة الشخصية لها بعد سياسي كبير، وبالتالي فإن حياة النساء ليست خيارات أو قرارات فردية، إنما نتيجة قمع أبوي ممنهج. لم تتضمن “الأختية” قضايا الاضطهاد المشترك بين النساء فقط، بل توسّعت إلى التفاصيل اليومية لسلوك النسويات. “لا توجد حلول شخصية في هذا الوقت، لا يوجد سوى عمل جماعي من أجل حلّ جماعي”، بحسب الناشطة النسوية كارول هانيش، في مقالها الشهير “الشخصي سياسي” The Personal Is Political.

خلق شعار “الشخصي سياسي” عددا من الإشكاليات السياسية، وأعاق الجدل العام بين تيارات وفئات الحركة النسوية، فقد اعتُبرت النساء، اللواتي لديهنّ تجربة في التعرّض للتمييز العرقي أو الجندري، مالكات حصريات للسلطة والموثوقية في الحديث عن تلك القضايا، وكانت آراؤهنّ مسموعة ببساطة بسبب وضعهنّ الاجتماعي، بغض النظر عن موقفهنّ السياسي، مع محاولة لمنع أي شخص من انتقاد أية ظاهرة ليست لديه تجربة شخصية مباشرة فيها. واستُخدمت وقتها عبارة “تحقّق من امتيازك”، التي صار يرمز لها بالاختصار SYP. فمثلا ليس لديكِ الحق في انتقاد الحجاب إذا كنتِ امرأة غير مسلمة؛ أو “سياسات الإعاقة” إذا لم تكوني معاقة. ومن هنا برزت مشكلة “الأختية”. كيف يمكن أن تكون النساء جميعهن أخوات، ما دمن لم يعشن الظروف نفسها، ولم يتعرضن لتجارب اضطهاد متماثلة؟

ربما كان تطور شعّار “الشخصي سياسي” في السياق الأميركي قلبا كاملا لغاياته المبدئية، فلم يكن المقصود منه أصلا محاولة فهم السياسي انطلاقا من الخاص، أو جعل التعبير عن الرأي محتكرا لفئات نوعية محددة، بل كانت غايته تسييس القضايا الشخصية، وجعلها من قضايا الحيز العام، لما يتداخل فيها من عوامل سياسية وسلطوية واقتصادية. رغم هذا فإن إشكالية الأختية لا تتعلق فقط بمصاعب تسييس الشخصي، وعدم تماثل تجارب الاضطهاد، وإنما أيضا بأسئلة أكثر بساطة ومبدئية: هل يكفي أن نكون نساء لكي نتضامن، وتجمعنا مصالح موحّدة؟ وهل النساء فئة اجتماعية تتسم بخصائص مشتركة؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن للنوع الجنسي أن يصبح هوية سياسية؟

ما بعد المرأة: محاولات إنقاذ “الأختية”

حاولت النسوية التقاطعية أن تجيب عن كل الإشكالات السابقة، بتصوير الأختية بوصفها رابطة بين جماعات نساء، يأتين من خلفيات متشابهة، أو يتشاركن في اضطهاد معين، ولهذا يجب مراعاة تقاطع عوامل الاضطهاد على كل فئة من فئات النساء، ومنها العوامل العرقية والطبقية والثقافية، لإنشاء جبهة موحدة ضد الاضطهاد الجندري، إذ أن مشاكل النساء، على اختلافها، تنبع في النهاية من مصدر واحد، وهو النظام الأبوي. إلا أن هذه المنظور أدى بدوره إلى إشكاليات جديدة، لأنه بنى الأختية على أساس الضعف والاضطهاد، وهو بناء سلّط الضوء على الفوارق فقط، وزاد الانقسام بين النساء. لن تتنافس النساء في هذه الحالة على المساواة مع الرجال فقط، بل مع نساء أخريات أيضا، يعتبرنهن ذوات امتياز أكثر، ومستفيدات من أوضاع اجتماعية معيّنة، لا مصلحة لهن بالتخلي عنها، وبالتالي تعاني الأختية من تناقض بنيوي أساسي، إذ سيؤدي استحضارها للغرق في الحديث عن الامتيازات والاضطهاد والفروق بين النساء أنفسهن.  

من المحاولات الموازية لحل إشكالية الأختية فكرة الأداء التي صاغتها جوديث بتلر في التسعينات، بالتعاون مع منظرين مثليين آخرين، والتي تفترض أن الجندر، بوصفه بناءً اجتماعيا، ينشأ من خلال الأداء المتكرر لأنماط معينة من الممارسة الجنسية، بدلا من اعتباره حالة بيولوجية أو جوهرية، وبالتالي فإن الأختية قد تكون استجابة مشتركة، تقوم بها كل اللواتي يقمن بنمط معين من الأداء، الذي ينسب عادة للنساء، سواء كن موافقات عليه أو مرغمات. إلا أن هذا المنظور يعاني بدوره من تناقض أساسي، فإذا كان المطلوب تحرير الأداء الجنساني للنساء، وعدم سجنهن في دور جندري معيّن، فمن غير المنطقي مطالبتهن بالتضامن على أساس الدور والأداء، الذي يجب أن يرفضنه لأنه يؤدي إلى التمييز ضدهن. وإذا كانت الناشطات الكويريات، من أنصار باتلر، ينبذن كثيرا من التصورات والأداءات والرموز، التي تنسب عادة للنساء، فما معنى أن يكن “أختويات”؟

وسواء تحدثنا عن التقاطعية أو الأدائية أو الكويرية، وغيرها من التيارات النسوية الأكثر حداثة، فغالبا سنصل إلى أن مفهوم “المرأة” قد أُفرغ من كثير من مضامينه، بحيث لا يمكن أن يؤدي، إذا أردنا أن نكون متسقات نظريا، إلى الأختية. ولن يبقى إلا العودة لمفاهيم نسوية قديمة، ترجع إلى الموجة الأولى ومطلع الثانية، لإضفاء المعنى على الأختية، إلا أن تلك المفاهيم ربما لم تعد صالحة ومقنعة، بعد كل النقد الذي وجّه لها، بسبب جوهرانيتها، أو عدم ملاحظتها للاختلاف بين النساء.

ضائعات في الترجمة: كيف يمكن للنساء العربيات ممارسة “الأختية”؟

بدأ مصطلح النسوية يستخدم في الدول العربية بشكل أكثر كثافة بعد ثورات الربيع العربي، وشيوع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، التي رفعت صوت النساء أكثر، وسمحت بهامش أكبر في التعبير والتضامن. أما مصطلح الأختية، فيبدو جديدا نسبيا، لدرجة أنه لا توجد له ترجمة متفق عليها حتى الآن. إلا أنه خرج مؤخرا من دوائر النخب النسوية، وباتت فكرة التضامن غير المشروط بين النساء منتشرة بين كثير من السيدات والفتيات، خاصة من مستخدمات وسائل التواصل، والمقرّبات من المنظمات غير الحكومية.

رغم كل هذا فإن الأختية تعاني عربيا بدورها. كثيرات من النسويات العربيات لم يدخلن في الجدل النظري المعقّد حول الأختية، الذي خاضته نظيراتهن الغربيات، إلا أنهن يدركن، بالتجربة الحياتية، صعوبة بناء التضامن بين النساء على اختلاف فئاتهن وميولهن ومواقعهن الاجتماعية. هنالك مبدئيا من يمكن تسميتهن “نسويات المنظّمات”، اللواتي يتحدثن بلغة بعيدة عن اللغة التي تستخدمها غالبية النساء العاديات، ممن قد يواجهنّ قهرا وتمييزا أكبر مما تتعرض له ناشطة في منظمة غير حكومية، غالبا ما تكون ذات مستوى تعليمي وطبقي أفضل.

إلا أن الانقسام ليس فقط بين”الناشطات” و”العاديات”، وإنما يتطابق مع الانقسام الاجتماعي التي تشهده المجتمعات العربية: هنالك الفقيرات والغنيات وبنات “الطبقة الوسطى”؛ المتدينات والعلمانيات؛ المحافظات والمتحررات. دعك من الانقسام الطائفي، الذي لا يمكن تجاهل أثره على أنماط حياة النساء وتفكيرهن. وبالتأكيد هنالك الانقسام السياسي: هل يمكن اعتبار امرأة، مؤيدة لنظام حكم دكتاتوري ما، أخت امرأة أخرى، تم اعتقالها أو اغتصابها أو تهجيرها على يد النظام نفسه؟

شكّلت حركات الإسلام السياسي “أختياتها” الخاصة، التي كثيرا ما اضطهدت نساءً وفتيات أخريات، وأجبرتهن على تغيير سلوكهن، فضلا عن تأثيرها السلبي على أنظمة التعليم والإعلام. كذلك كان لكثير من الميليشيات والأحزاب السياسية المسلّحة، في الحروب الأهلية العربية، تنظيماتها النسائية، التي ساهمت أحيانا في جرائم الحرب والتطهير الطائفي. هل يمكن تجاهل كل هذا باسم الاختية؟ ربما لا يكفي أن تكون المرأة “امرأة” لكي تصبح لها مصلحة بإزالة جميع بنى الاضطهاد والقهر والاستبداد، فالنساء بالنهاية بنات مجتمعهن، ومتوزعات بحسب انقساماته الأساسية، الطبقية والأيديولوجية والطائفية والمناطقية، وليس حسب قسمة مبسّطة وتجريدية بين “نساء” و”رجال” أو “آباء”.

عموما كثيرا ما تكون المعارك الأولى لأي امرأة “متحررة” ضد نساء أخريات، وليس فقط ضد ذكور المجتمع الأبوي. إلا أن هنالك نوعا آخر من النزاع قد ينشأ بين النساء المتحررات أنفسهن، ونعني به النزاع بين النسويات والناشطات، وهو نزاع قد يطرح مزيدا من علامات الاستفهام حول مفهوم الأختية.

“التكتيك الإرهابي”: ما الذي يشقّ صفّ النسويات؟

ناقشت نسويات غربيات وفندنّ كل ما مرت به الموجات النسوية الأربع من خلافات ونزاعات، واعترفنّ أن بعض النسويات تعادينّ بعضهنّ، وبوجود صدام بين النساء بشكل عام، وليس فقط بسبب الاختلاف الفكري أو النظري، بل أحيانا بسبب الغيرة والتنافس، وأشرنّ إلى تقليل بعض النساء من قيمة أو شأن أو إنتاج نساء أخريات، ودرسن أسباب هذا كله، وحددنّ الظروف الثقافية والاجتماعية والنفسية والتاريخية التي تنشأ فيها مثل هذه الصراعات. إلا أن هذا الوعي والتحليل لم يعد في صدارة الخطاب النسوي المعاصر، وتندر بالتالي ترجماته العربية.   

ناقشت الكاتبة النسوية بيل هوكس، في كتابها “الشراكة”، قضايا حساسة تقع في صلب الخلافات بين النساء، وتحدثت عن الغيرة والحسد، وعن حروب القتل المعنوي التي تشنّها نساء ضد بنات جنسهنّ، وأرجعت سبب ذلك إلى النظام الأبوي نفسه. إذ تتعلم الإناث منذ الطفولة النضال والتضحية من أجل الحصول على الاعتراف الأبوي، وهذا الاعتراف لا يمكن الحصول عليه إلا عبر إزاحة نساء أخريات، والمنافسة على الفرص، التي قد تصل حد الإيذاء، وربما تتطلب الحط من شأن بقية النساء، من أجل الحصول على القيمة والاعتراف. مشيرةً إلى أن الفتيات “تتعلمنّ منذ الصغر كيفية استخدام تكتيكات إرهابية، تتمثل في الإقصاء والنبذ والتجاهل، لمعاقبة بعضهنّ البعض”.

 تحاول هوكس تتبّع الجذور الثقافية لكل ذلك في الحكايات الخيالية “التي تعلّمنا أن أنثى واحدة فقط يمكن أن يتم اختيارها من قبل الأمير، أو يمكن أن تفوز”. معلّقةً بالقول: “عدد النسويات اللواتي يهاجمنّ النساء الأخريات صادم بالنسبة لي، إذا أرادت النساء تغيير العالم، فعليهنّ أولاً تغيير أنفسهنّ والارتقاء عن التنافسية، التي تعلمناها، وأن يتعلمنّ أن يصبحن أخوات حقيقيات”.

في الحالة العربية هناك أيضا تنافس بين النساء على الفرص، بسبب محدوديتها وصعوبة شروط الحصول عليها. وفي المؤسسات النسوية، التي غالبا ما تكون تابعة تمويليا لجهات غربية، ذات برامج ومفاهيم جاهزة، كثيرا ما يتصاعد الصراع بين الناشطات، للحصول على فرص المنح والتمويل، فيصبح تكرار شعارات الجهات الممولة، في حالات ليست بالقليلة، أقرب للمزاودة الفردية، بدلا من أن يكون همّا اجتماعيا ونسويا فعليا.

بكل الأحوال، يبدو أن انتقاد ظواهر سلبية معيّنة في النشاط النسوي، نظريا وعمليا، يقترب من أن يصبح تابو جديدا، خاصة بالنسبة للنساء والفتيات، اللواتي قد يتهمن بشق صف “الأختية”، إن عبرن عن رأي مخالف. وهذا يذكّر بحديث عدد من النسويات الغربيات، ومنهن هوكس، عن أن الأختية كثيرا ما استُخدمت لمصلحة النساء البيضاوات البرجوازيات. لا توجد نساء “بيضاوات” بالمعنى العرقي في العالم العربي، ولكن يبدو أن الصراع على الامتياز يخلق تلقائيا البيضاوات والسمراوات والسوداوات.

تقول الكاتبة اليابانية الأمريكية جانيس ميريكيتاني: “التغيير ليس سهلاً لمعظم الناس. غالبا ما يكون الواقع السيء أفضل من فكرة التغيير، نحن نفضّل احتضان الشياطين التي نعرفها على القوة الإيجابية التي لا نعرفها”. لا يمكن القول بثقة إن كانت “الأختية” من “الشياطين التي نعرفها” أم “قوة إيجابية”، بالتأكيد باتت مقولة مكررة، تخبّئ وراءها كثيرا من المصالح وعلاقات القوى، ولكنها بالتأكيد صيغت في البداية لغاية نبيلة، وربما كان الأجدى البحث عن أشكال أخرى للتضامن الاجتماعي، تتجاوز الإشكاليات النظرية والعملية التي تؤدي إليها الأختية.

المراجع:

1-Sisterhood, Online Etymology Dictionary. available at: https://www.etymonline.com/

2-The personal is political. Rahila Gupta, Open democracy. available at: https://www.opendemocracy.net/en/5050/personal-is-political-journey-of-feminist-slogan/

3-The Personal Is Political. Carol Hanisch, University of Victoria. Available at: https://webhome.cs.uvic.ca/~mserra/AttachedFiles/PersonalPolitical.pdf

4- Sisterhood Built on Compassion and Empowerment. Sarah Dale, Medium network. Available at: https://medium.com/applied-intersectionality/sisterhood-built-on-compassion-and-empowerment-565bee37ee1a

5-Sisterhood. Son Vivienne, Researchgate. Available at: https://www.researchgate.net/publication/315786531_Sisterhood

6-The Roots of Sisterhood. Virginia Vigliar, Atmos. Available at: https://atmos.earth/the-roots-of-sisterhood-reproductive-justice-feminism/

7-bell hooks, Communion: The Female Search for Love. New York, NY, Perennial, 2003.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.