الإلغاء والتابو: هل نواجه المحرّمات أم نقدّم ما يناسب “الجمهور”؟

<strong>الإلغاء والتابو: هل نواجه المحرّمات أم نقدّم ما يناسب “الجمهور”؟</strong>

لا نعرف زمنا دقيقا أو تاريخا محددا لظهور صرعة الكتابة عن “التابو” في الإعلام العربي الموصوف بـ”البديل”. ونقصد هنا المنابر التي تتيح تناول المواضيع، التي يُقال إنها لا تنشر عادة ضمن الصفحات والمنصات الثقافية التقليديّة، كونها ممولة من دول، وتعدّ جزءا من خطابها الرسمي. لكن يمكن القول إنه مع بداية الربيع العربي، أخذت كثير من المنصات “المستقلة” على عاتقها دور “كسر التابو”، خصوصا الجنسي، أي أصبح بالإمكان الكتابة بمقابل مادي عن المواضيع الجنسية، وامتد الأمر لذكر كلمات بعينيها، مثل “كس” و “أير” و”شرج”، هكذا كما هي، مع التأكيد المتكرّر أنها واردة بهذه الصيغة في كتب التراث، ومنها الكتب الدينية.

 الأمر ازداد مع زخم سياسات الهويّة، وتعميم ما يسميه بعض النقّاد بـ”دراسات التظلّم”. فانتشرت الشهادات والتجارب، التي “تبوح” بالخيالات والممارسات الجنسية المختلفة، سواء كنّا في سياق الرغبة، أو في سياق أكثر حساسية، تتحدث فيه “الضحيّة” عما عايشته.

تلك النصوص، بلغتها “الجريئة”، كان لها بريقها. جذبت بعض القراء، وأثارت حفيظة البعض الآخر، ولكن الفريقين قرآها بشغف. خصوصا حين تكون العناوين جذّابة، وتحوي من الكلمات ما يدفع القارئ للنقر. فتخلق الـ traffic (ربما أفضل ترجمة للكلمة “عجقة”) المطلوب حول النص المكتوب، والموقع الذي يستضيفه.

تُستخدم كلمات “تابو”، “الممنوع”، “المسكوت عنه”، أو “الجريء” بكثرة. لكن وراءها لا نقرأ نقاشات جديّة، أو طرحا لمفاهيم وأفكار إشكالية. نحن أمام تدفّق من النصوص “الذاتية”، المرتبطة بصاحبها وتجربته الشخصية المحدودة، أي أنها مساحة تتحوّل فيها تلك التجربة، بلغتها اليوميّة، ودون معالجة فكرية، إلى أداة من أجل “العلنية” و”البوح”. تجارب مثل فقدان البكارة؛ أول انتصاب؛ الدورة الشهرية؛ ومضاجعة الجارة سرا، كلها تصنّف بـ”الجريئة”، وتندرج تحت مسميات التعبير عن الذات، وسياسات الجندر والصحة الجنسيّة والنفسية، دون أن نتذكّر منها شيئا بعد قراءتها، أو نصل إلى أية نتيجة، سوى تلبية رغبة الكاتب بمصارحة “العالم”، ورغبتنا بالتلصّص.

لكن هل تمسّ هذه النصوص “التابو” فعلا؟ هل تخوض بمساحة “مسكوت عنها”؟ تعالوا نرى كيف كسر آخرون، لهم “تجاربهم الذاتية” أيضا، التابو.

ثورة البذاءة والقابلية للجنس

كانت المانيفستوهات النسوية والكويرية، خاصة في القرن الماضي، نموذجا ممتازا لكسر التابو. نختار منها بيانا من أحد أكثر الأعوام صخبا في ذلك القرن، أي 1968، ونعني “مانيفستو الشرموطة”  The Bitch Manifesto.

في نص البيان، تدعو المفكرة النسوية جورين فريمان النساء إلى تملّك تلك الكلمة/الشتيمة، والاعتزاز بها، بوصفها تعكس القوّة، والشخصية المتماسكة. تنفي عنها الصفة السلبيّة، فهي رغم كونها مُصاغة للانتقاص من النساء، ونفيهن خارج ملكوت المجتمعات الأبوية، بمفاهيمها عن الشرف، فإن استخدامها من قبل النساء أنفسهن يعني السخرية من “الملكوت”، وعدم المبالاة بمعاييره. ما يفقده سلطته الأخلاقية، وقدرته على الحكم. هكذا توجّه النساء سلاح الخصم إلى صدره.

 بمعنى آخر، لم يتم التركيز على فضح الدلالات الذكورية للشتائم فقط، ومحاولة إلغائها، بل كان الهدف إعادة امتلاكها من طرف يفترض أنه يتعرّض للعنف بسببها، واستخدامها لمواجهة المؤسسة نفسها، وأساليبها في توظيف الشتيمة بوصفها خطابا مُهينا ومهيمنا. أسلوب الامتلاك هذا لا يراهن على “إخفاء” الكلمات و”منعها”، بل على العكس، نشرها في سبيل مصادرة معانيها. وهنا بالضبط يتم كسر التابو، عبر لفظه، ونطقه، وتفكيك معانيه وخفاياه، ثم السيطرة عليه وعلى عملية تداوله.

أن نلفظ كلمات “شرموطة” أو  “عرص” أو “منيوك” بكل وضوح، ليس فقط في اللغة المحكية في الشارع والمقالات العابرة، بل أيضا ضمن السياق الأكاديمي والرسمي، هو التحطيم الأكبر لكل آليات التابو المتخفّية فيها. وهنا تظهر المفارقة: المنع والإلغاء يرسّخ التابو، بعكس مواجهة الكلمات وإعادة النظر بها، لإكسابها تاريخا لغويا وتداوليا جديدا.

لم ينته كسر التابو، لحسن الحظ، في القرن العشرين، صدر في العام الماضي، 2021، كتاب “الحق بالجنس” للباحثة اميا سريفيناسان، التي تستخدم فيه بوفرة كلمة fuckability، وأفضل ترجمة لها “القابليّة للنيك”، لتشير إلى الحد الأدنى من الجماليات الجسدية، التي يستحق بفضلها الإنسان أن “يُناك”، في حال كان حق الجنس مضمونا من قبل السلطة.

تفترض الكاتبة أن الجنس حق إنساني. وفي ظل عالم محكوم بسياسات الاستعراض، وهرمية الأجساد، والجمال الاصطناعي، يصبح هذا الحق مثيرا للجدل. وهنا يظهر السؤال: إذا افترضنا أن السلطة تضمن الحق بالجنس، ضمن شروط وقواعد معينة، فما هي أشكال وخصائص الأجساد التي يجب أن يمارس معها هذا الحق؟ أي هل السلطة، قانونية كانت أو ثقافية، قادرة على رسم خصائص لأجساد ذكور أو إناث يمتلكون سمات جنسية شرعية؟ الإجابة قد تكون مرعبة في زمننا، وتابو ضخما في الشرق والغرب، يتداخل مع كل المنظومات المهيمنة: الإعلام والطب وصناعة الترفيه وتجارة المواد التجميلية وسلع الرفاهية، بل الدولة وأجهزتها الأيديولوجية برمتها.  

إشكالية السؤال أنه يعتبر الرغبة بناء ثقافيا وسياسيا. ويعمل على انتقادها بالوقت ذاته، عبر افتراض نموذج من “اللحم القابل للنيك”، ذاك الذي يصلح للجميع، لكنه يقع بمواجهة مفارقة أساسية: اللذة شأن فردي بحت وفي  الوقت نفسه بناء ثقافي، فهل هناك نموذج صالح للجميع؟ أم الحق بالجنس محتكر لفئات معينة، وتُحرم منه فئات أخرى؟ وما هي تلك الفئات؟ والأهم، كيف يمكن بناء أو تبنّي نماذج تراعي الحساسيات الجندرية، والهيمنة الثقافية (الغربيّة) والتقاليد المحليّة؟

ولكن دعونا من النصوص الكويرية والنسوية الغربية النخبوية. هنالك مساحة أخرى “عامية”، وغير مستكتشفة بجديّة، هي البورنوغرافيا العربية، التي يبدو أنها محتقرة حتى من قبل “كاسري التابو”. في ذلك العالم الواسع سنجد كل الفئات والبيئات واللهجات؛ نساءً مهيمنات وذكورا خاضعين، أو العكس؛ أشكالا غير محدودة من اللعب والرغبة والمتعة، التي لا تنصاع لأي من التابوهات العربية المعروفة. هذه التسجيلات، المليئة بالأجساد الشبقية، تتيح لنا مستويات جديدة من التفكير، من وجهة نظر سياسية وثقافيّة، كونها تكشف عن “مجتمع” كامل. نحن لسنا أمام تسجيلات للهواة فحسب، بل أمام حفلات منظّمة، وأبدان تعيد النظر في اللذة، وأسلوب أدائها وإنتاجها. وإذا كان لا بد من الحديث عن التابو وكسره فلماذا لا توجد “دراسات بورنوغرافية” للمنطقة العربية؟ لم تجاهل اللذة في تلك المساحة والاكتفاء بالفئات المحددة مسبقا، التي ترسم مسارات السوائل وقنواتها، وتستغرب وتنفي أحياناً من يخالفها؟

هل نكسر حقا تابو الدين؟

الحديث عن التابو الجنسي هو الأسهل لجذب الانتباه، لكن هناك تابوهات أخرى أقل جاذبية نسبيا. هل نكتب عن تابو الدين حقا؟ بالطبع بالإمكان شتم الدين ضمن مقال أو نص ما، دون أن يكون ذلك تابو. الدين يُشتم ويُفكك ويُنتقد منذ أن نشأ، سواء كنا نقصد العقائد، أو الفقه بتنويعاته، وصولا للدين السياسي وأحزابه. لكنّ التراث هو المنيع على القراءة، ويبقى أسير رسائل الدكتوراه، والمؤلفات الفرنسية والانكليزيّة والألمانية.

 إحدى أهم كاسرات التابو العربيات الباحثة التونسية هالة الوردي، صاحبة كتاب “الأيام الأخيرة لمحمد” الصادر عام 2017 باللغة الفرنسية، ولم يبصر النور بالعربيّة. صحيح أن الكاتبة استُقبلت على المحطات التلفزيونيّة “الدولية”، لكن في العالم العربي لم نجد مراجعة علمية لعملها. ما نقرأه هو ردود متشنجة، ومحاولات بدائية لانتقاد منهج الكاتبة نفسه.

متى ولد النبي محمد بالضبط؟ ومتى توفي بالضبط؟ سؤالان بسيطان، وإجابتهما رقم وتاريخ، لكن الإشارة إلى التناقضات في هذه التواريخ، ومحاولة بناء قراءة، ولو “متخيّلة”، بناء عليها، قد يُشعل الفضاء العام، ويغيّر كثيرا من المنظورات المستقرّة. يختلف هذا كثيرا عن سيل النصوص التي تكتفي بعرض معاناة كتّابها من التزمت الديني، أو تُظهر “شجاعتهم” بشتمه.

لا يقتصر الأمر على تاريخ الإسلام، إذ لا نجد أي نص بالعربية يناقش فرضية كتاب “الفطر المقدس والصليب” لـجون أليغرو، رغم أنه ظهر منذ أكثر من خمسين سنة، وبالتحديد في عام 1970. أنجز الباحث دراسة إيتمولوجية، تقارن بين اللغات العربية والعبرية والسريانيّة وتاريخ تدوين العهد الجديد، ليصل إلى نتيجة مفادها أن الديانة المسيحية بأكملها ليست إلا مجموعة من الشيفرات، التي تحيل إلى أعشاب وفطور محددة، كانت تستخدم للتداوي من قبل طائفة يهودية، وجدت نفسها بمواجهة السلطة الرومانية، ويسوع نفسه ليس إلا معالجا بالنباتات لا أكثر ولا قل. هذا مساس خطر بالتابو. الدين نفسه، بكل عظمته، قد لا يكون أكثر من طب أعشاب، تضخّم مع الزمن لغايات أيديولوجية.

المتآمرون يتكلّمون

من الخطأ التفكير أن التابو مجرد شأن عربي تجاوزه الغرب منذ زمن. تتكاثر التابوهات حاليا في بلاد “الرجل الأبيض” و”الصوابية السياسيّة” و”الفردانيّة المفرطة”، ما دفع كثيرا من الأكاديميين هناك إلى ابتكار صيغة جديد، تمكّنهم من القول والتعبير، ومواجهة التابوهات المستجدة، وهي “الاعتراف” بكل التهم التي يمكن أن توجّه لهم بناءً على رأيهم، قبل قول رأيهم نفسه.

 الصيغة الأطرف هي التآمر أو المؤامرة، يتبنّى فيها الكاتب أو الكاتبة، منذ مقدمة نصه، وضعية المتآمر، لطرح أفكار ومفاهيم ومقاربات ممنوعة. نرى هذا بوضوح في المانيفستو المؤامراتي لمؤلف مجهول، الصادر عام 2022؛  وكتاب “كراهية الجنس“، الصادر في العام نفسه لأوليفر دايفس وتيم دين؛ وكتاب “الحق بالجنس” المذكور أعلاه. أي بعبارة أخرى: التآمر مساحة تبيح طرح السؤال وفتح النقاش.

هذه الوضعيّة تتيح لمتبنّيها تجنّب حملات التخوين والتشهير. الاعتراف بالتآمر هو إثبات للتهمة التي تنزع الشرعيّة عن صاحبها، لكنه في ذات الوقت أسلوب يتيح مناقشة الحالة السائدة، دون الغرق بمحاولة ردّ التهم التي ستنهال على الكاتب/ الكاتبة، والمتعلّقة أساسا بجسده/ها وهويته/ها: لون البشرة، العمر، الجنس، الدين، الخ.

 ربما يجب أن نصبح متآمرين إذا أردنا أن نكسر التابو فعلا، لا أن نكتب ما هو متوقع منّا، دون أخذ مسافة نقدية من  موقعنا نفسه، ومن الأدوات التي نتبناها. والأهم، أن لا نسلّم بتقسيم العالم إلى “ضحية” و”جلّاد”، الأول “يبوح” والثاني “يقمع”، بل أن نقف، متآمرين، على عتبة السؤال.. لا أن نشير من بعيد، بل أن نسأل: هل فعلا نكسر التابو؟ أم نصنع “المحتوى”؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.