الإنجيل المعكوس: ما مستقبل الموسيقى في عصر الذكاء الاصطناعي؟

الإنجيل المعكوس: ما مستقبل الموسيقى في عصر الذكاء الاصطناعي؟

يعتقد البعض، دون كثير مبالغة، أن الذكاء الاصطناعي الحقيقي هو خاتمة إبداعات البشرية؛ فهو سيتمتع بقدرات معرفية خارقة فعلا بالنسبة لنا، إلى درجة السِّحْر أو الحكمة اللا نهائية، وسيصل إلى التفرُّد التكنولوجي Technological singularity، أي تلك النقطة في مستقبل التكنولوجيا، التي سيتبدل عندها جوهريا معنى الجنس البشري نفسه، وربما معنى الحياة كما نعرفها، ومفهوم الوعي كما نفهمه.

في تقدير أغلب المختصين يستطيع الذكاء الاصطناعي الوصول إلى تلك المرحلة غير المسبوقة، إذا صار ذكيّا حقا، أي إذا صار متعدد المهام، قادرا على إعادة بناء دوائره بمرونة المخ الحيّ، وواعيا بذاته، وقادرا على الإبداع بتفضيلات معينة، باختصار: يستطيع، إذا صارت له شخصية قابلة للتعلم، وراغبة في التعبير عن ذاتها، الإلمام بكل محتوى شبكة المعلومات، وكل ما يمكن أن تقدمه له آليات الرصد، مثل الكاميرات، ومكبرات الصوت، وغيرها، وأن يهضم كل ذلك، ويستفيد منه، مرتقيا سماءً أخرى، بمعنى الكلمة، من سموات الحكمة، التي لم نزل نجهل كل شيء عنها. ثم لن يلبث أن يتطور بدالة أُسِّيَّة (متسارِعة)، بحيث ترفع المعرفة من درجة تعقيده وذكائه، مما سيزيد من قدر معرفته بدرجة هائلة من التسارع. ويرى المختصون أنه بعد مرور أسابيع فقط على تشغيل هذا النمط من الذكاء سيكون قد تجاوز بوضوح أقصى درجات المعرفة البشرية المتاحة لنا اليوم. وذلك في مسار معقّد جدا، وسريع جدا، من تطورِ كائنٍ واحد، ربما يكون نهاية رحلة تطورنا نحن.

يستطيع الذكاء الاصطناعي الحقيقي أن يحلّ بذلك بعضا من أعوص المعضلات في تاريخ المعرفة البشرية: كيف نوفّق بين نظريتي الكوانتم والنسبية في الفيزياء؟ كيف نفسّر نشأة كل شيء من لا شيء؟ وكذلك نشأة الحياة من كيمياء غير حية؟ هل يمكن أن توجد حضارات أخرى في الكون؟ ما الوعي؟ كيف نتنبّأ بالتاريخ؟ هل هناك دليل تجريبي لإثبات قانون السببية؟ هل يمكن عبور الزمن إلى الماضي؟ إضافة إلى كم لا يصدق من المعضلات المنطقية، والرياضية. مما سيؤدي إلى مستقبل باعث على القلق حادّ القطبية: إما أن يجعلنا هذا الذكاء أقرب إلى الآلهة، إذا استطعنا ترويضه، من ثم نصير عاطلين عن كل إبداع؛ وإما أن يحيلنا إلى عبيد، إذا تمكّن هو من استعبادنا. في الحالتين سوف تقفز البشرية درجة كاملة، ودفعة واحدة، في معنى البشرية ذاته.

لا يكاد يوجد خلاف على مثل تلك التوقعات، بل يدور الخلاف عادة حول إمكانية صنع وعي ذاتيّ أصلا، وحول ما إذا كان من الضروري أن نفهم معنى الوعي كي نتمكن من صنعه، أم يمكن الاكتفاء بمجرد محاكاة أفعاله. لا يوجد خلاف تقريبا أن الذكاء الاصطناعي الواعي يستطيع من حيث المبدأ المنطقي، والفيزيائي، ومن حيث الإمكان الهندسي، أن يحلّ أعقد مسائل الرياضيات، والمنطق، والفيزياء، وربما يستطيع أن يقدم لنا دراسة مسحية إحصائية تراعي عددا ضخما من العوامل، لاكتشاف قانون حركة التاريخ مثلا. ولكن إذا طرحنا سؤالا كالتالي: “ما أجمل سيمفونية يمكن تأليفها؟ أو ما اللوحة الفنية الكاملة؟” فإننا سنلاحظ أنها فئة مختلفة جذريا من الأسئلة؛ لأنها تتعلّق بالقيم. فإذا لم يمكن بإمكان الذكاء الاصطناعي الواعي أن يفهم معنى القيم، ولا أن تكون له قيَم وتفضيلات بعينها في الأخلاق، والجمال، فإنه لن يكون قادرا على الاختيار الإنساني كما نفهمه، بما هو غير محكوم في كل لحظاته ببرجماتية بيولوجية بحتة، بل يتأثر بمفهومه، ومفهوم الآخرين، عن الخير والشر والجمال والقبح. أما إذا كان للذكاء الاصطناعي بعدٌ قيميٌّ، ويتمتع بتفضيلات واعية محددة، فإنه لن يقدم عندئذٍ الإجابة القصوى عن أسئلة الإبداع، وربما لن يكون مفيدا في هذا المجال من الأساس، إذ سيُعَدّ إبداعه أو رأيه هنا مجرد وجهة نظر أخرى. لذلك ربما يصير الإبداع الفني هو مفهومنا نفسه في المستقبل عن الإنسانية، إذ سيظل هو مجال النشاط الإنساني الأخير والدائم والمنيع على أي وعي غير إنساني، مهما تقدمت تقنيات الحوسبة والبرمجة.  

الذكاء الاصطناعي وتحدي الابداع الموسيقي

حين نستمع إلى المقطوعات الموسيقية، التي تضعها برمجيات متفاوتة في درجة التعقيد، نستمع إلى “أسلوب” معين، مثل برنامج يقلّد أسلوب موتسارت، أو يحاكي جوّ موسيقى الجاز، ولكنه كل مرة يحاكي أسلوبا بشريا موجودا فعلا، ولا يقدم ما هو جديد، أو ما هو أصيل. بل كيف أصلا يمكن اعتبار مثل تلك الموسيقى إبداعا فنيا كما نفهم معنى الإبداع الفني حتى بأعم معانيه؟ ألا يشترط الإبداع الفني القصدَ على الأقل، ودرجة من الذاتية؟

يرى بعض المختصين في علوم الموسيقى، والذكاء الاصطناعي، وعلم نفس الموسيقى، أن الموسيقى قد تكون أصعب الاختبارات، التي يمكننا أن نعقدها للذكاء الاصطناعي، للتحقق من مدى إبداعيته، ذلك أنَّ الموسيقى بطبيعتها فن بسيط، لا يتمتع بمضمون، وذلك كما أوضح الشكلانيون منذ المفكر النمساوي إدوارد هانسلك في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحتى المنظرين الموسيقيين بيتر كَيْفِي وليونارد ماير في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، الأمر الذي يمنحنا منظورا نقيا لا تشوّشه المضامين، خاصة وأن الموسيقى قد وصلت على أيدي المؤلفين الكلاسيكيين الغربيين إلى درجة بالغة من التركيب، مقارنة بأي من الفنون الأوّلية الثلاثة الأخرى: الأدب، والفن التشكيلي، والفن الديناميكي.

يبدو طريق الذكاء الاصطناعي في مجال تأليف الموسيقى مسدودا قبل أن يولَد! ومع ذلك يمكنه أن يمنحنا فهما أرحب بمراحل، وأعقد بمستويات كاملة فيما يتعلق بأعمالنا الموسيقية. وهذا لن يكون ذكاء إبداعيا، بل تحليليا بالدرجة الأولى، لكنه سيؤدي، عن طريق استفادة الإنسان منه، إلى إبداع مختلف، ولا نقول بالضرورة أعظم، أو أجمل. ولكن الذكاء الاصطناعي لن ينجز هذه المهمة على أكمل وجهٍ إلا بالتزاوُج مع ابتكار آخَر من عالَمه، بل ربما هو البيئة التي يعيش فيها حقا، هو الواقع الافتراضي. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقوم بتخليق بيئة افتراضية بالغة التعقيد، تسهم في نقل البشرية بحق إلى مرحلة مختلفة في الوعي بالموسيقى، وربما في مفهومها. ولذلك نستطيع تصنيف عمل الذكاء الاصطناعي في مجال الموسيقى إلى سبع خبرات أساسية:

1- خبرة التعلم: من الموسيقى إلى العمارة

تأليف الموسيقى من أصعب الفنون تعلّما، فهو يعتمد على موهبة اللحن الجميل، التي تقوم، كما يرى عدد من أهم الموسيقيين والنقّاد، كإيجور سترافنسكي مثلا، على الموهبة حرفيا، لا اجتهادَ فيها؛ كما يعتمد على قدرة على التفكيك، والتركيب، والتنويع، والارتجال، وتصوُّر الأشكال الفراغية الشفّافة المتداخلة، والمتحوّلة. وهو مما يقتضي موهبة بحتة من جهة، مع قدر كبير من الخبرة والاجتهاد من جهة أخرى، ليصل المؤلف مثلا إلى مرحلة شوبيرت أو تشايكوفسكي.

من أخص النواحي، التي يصعب فيها تعلّم الموسيقى، سواء من جهة النظرية، أو من جهة التأليف، نوعٌ من الحاسة المكانية غير المرتبطة بمكان معين، والتي تنمو لنا مع إطالة الاستماع إلى الموسيقى الخالصة، كالسيمفونية، والسوناتا، والرباعي الوتري، والكونشرتو. هي أقرب إلى حركة لا مكان لها، ولكنْ لها اتجاه. نحن نقول: “يتصاعد اللحن حتى يصل إلى الذروة” في وصف مسار تطوّر اللحن في مقطوعة معينة، كأننا نصف موجةً تصعد صخرة مدببة، برغم أن اللحن نفسه لا مكان له، وأن تلك الحركة لم تحدث بالضبط على نحو فيزيقي، رغم اتفاقنا عادةً بشأنها، كونها حركة صاعدة إلى ذروة.

 يمكن لبيئة افتراضية معقّدة، من صنع الذكاء الاصطناعي المتطوّر، أن تختصر الطريق على المتعلّم، فتصحبه في أماكن ونماذج وعمارات افتراضية، تجسّد الموسيقى، وتقرّب له تصور بِناها المركبة على نحو بصري، قد يتمتع كذلك بجاذبية أرضية أو غير أرضية، مع أبعاد أكثر أو أقل. إنها باختصار تحويل الموسيقى إلى عمارة، في ضوء العلاقة التبادلية الباطنة بينهما، كما يرى عدد من الفلاسفة، بقولهم إن الموسيقى عمارة متحركة، وإن العمارة موسيقى ثابتة.

2-خبرة العزف: نحو خرافةٍ حَيّة

ماذا لو أنك تريد الوصول السريع إلى مرحلة العزف البارع، لا التأليف الأصيل؟ يمكن للبيئة الافتراضية المخلَّقة عن طريق الذكاء الاصطناعي أن تُتَرجِم حركات يديك، وملامحك، وأطرافك، إلى طرقات على مفاتيح البيانو، أو سحبة على الأوتار، أو عزفا على نحو مدهش على آلة موسيقية خرافية: حَيّة مثلا! سيحتاج البرنامج إلى وقت لتعلّم حركاتك غير البارعة، وانفعالاتك الركيكة، لكنه سيتمّكن سريعا جدا من تحويلها إلى عزف حقيقي تلقائي، وممتع للغاية.

3- خبرة التأليف: أنْ تكون بيتهوفن أو أعظم

ربما لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤلّف موسيقى أصيلة، تعبّر عنه هو بالذات، ولكن يمكنه أن يمنحك خبرةَ أنْ تكون مؤلفا أعظم من بيتهوفن، أو كبيتهوفن تحديدا، بلا زيادة أو نقصان. يمكن ذلك عن طريق الاستعانة بتقنية أخرى هي قارئ الأفكار، ذلك الجهاز، الذي تعمل عليه الدول الكبرى، والذي يقرأ إشارات المخ بحساسية عالية، ويترجمها إلى موجات تمثّل الأفكار والانطباعات والإشارات الحركية، بحيث يمكن للكمبيوتر أن يحوّلها إلى صورة أخرى، مع الاحتفاظ بتصميمها المتفرّد. يستطيع الذكاء الاصطناعي مع بيئة العالم الافتراضي أن يستخرج من عقلك مباشرةً تصورك عن عملك الموسيقيّ، الذي تبدعه في نوبة من المزاج العالي، بل وأنْ يُسمعك إياه في اللحظة نفسها، مما يعكس كذلك خبرة الإبداع الأصيل، التي تجمع بين القصدية والدهشة.

4- خبرة القيادة: أوركسترا لا نهائي

تعدّ خبرة قيادة الأوركسترا، على ما تطلبه من المايسترو من مؤهلات عالية في الخبرة بالآلات، وأساليب المؤلفين، وإمكانات العازفين، وسواها، من أندر الخبرات التي حظي بها الناس منذ اختراع مهنة المايسترو، وهي ملاحظة دقيقة لا نلتفت لها غالبا. يستطيع أي منّا أن يلعب دور العازف بعد مرحلة من التعلّم، وربما أن يؤلف موسيقى رديئة، ولكنّ خبرة قيادة أوركسترا حقيقية تظل قصيّة على مسافة لا نهائية، في نظر عدد كبير من عشاق الموسيقى الكلاسيكية بالذات. عن طريق الذكاء الاصطناعي يمكن تخليق بيئة افتراضية لها أبعاد الفيزياء نفسها، وشتى المقاييس التي لعالمنا، لكن المكان سيختلف، سيكون قاعة عزف فخمة، تنتظرك فيها أوركسترا متلهّفة، يمكنك أن تختار أعضاءها من بين أعظم العازفين والمؤلفين كذلك.

5- خبرة التحليل:  تشريح الموسيقى

إن تشريح الأعمال الموسيقية الكلاسيكية مجال آخَر للتفاضل بين الدارسين والمؤلفين، من حيث القدرة على التحليل ذاتها، وابتكار التأويل أحيانا. وبمستطاع الذكاء الاصطناعي أن يمنحنا بيئة افتراضية، تثري خبرة تحليل الأعمال الموسيقية بما لا يقاس بمقاييسنا الحالية. سيمكن لنا عندئذٍ أن ندخل إلى العمل ذاته، في أشكاله الهندسية الفراغية المتحوِّرة بلا توقف، أن نحلله من الداخل، كما نصف عمارةٍ ما من داخلها، وهو ما سييسّر فهم الأعمال وأساليب المؤلفين من جهة، كما سيصل بتجربة تحليل العمل الموسيقي إلى أفق أشد إمتاعا، وأكثر دقة و”واقعية”!

6- خبرة الحياة: نحو سُكّان الموسيقَى الغرباء

ماذا لو أنَّ مقطوعة موسيقية معينة تمثّل لك أجمل لحظة في حياتك، أو أنها أجمل من أن تقنع بالاستماع إليها حتى ينتهي زمنها بنبرة وداع حزينة؟ يمكن للذكاء الاصطناعي أن يخلّق بيئة افتراضية مركّبة ملوّنة، وذات ملمس، وطعم، ورائحة، من مقطوعة معينة، طبقا لمقاييس محددة مسبقا، أو عشوائية. على هذا النحو يمكنك أن تحيا في عمل موسيقيّ، وأن تحوّله إلى كون كامل، وستكون هذه الخبرة في حد ذاتها إضافة هامة وفريدة لمكتبة الوعي.

7- خبرة الوجود: زمان بلا مكان

هل سألت نفسكَ ذات مرة: ما طبيعة الموسيقى؟ وهل هي بناء متخيَّل كالرياضيات، أم يمكن ردّها إلى المحسوسات ردا أمينا؟ للمفكرين والنقّاد نظريات عديدة لتفسير طبيعة وجود الموسيقى، بحيث ستجد كل الإجابات المحتملة تقريبا عن كل الأسئلة. بيد أن أغلبهم على الأقل يتفق في خطوط عريضة، منها مثلا أن وجود الموسيقى يتميّز بأنه وجود زمانيّ صرف، بلا مكان، وأنه الوجود الوحيد في عالمنا المجرّد من المكان. بعبارة أخرى يمكنك عن طريق الذكاء الاصطناعي العيش في بيئة افتراضية، كموجود زماني محض بلا مكان، يخضع للصيرورة وحدها، وتمثل الصيرورة أساس كينونته. وهي خبرة مختلفة عن خبرة “الحياة في الموسيقَى” السابقة، فهي ليست عالما بديلا من الموسيقى، تحيا فيه كإنسان، بل أن تصير أنت نفسك موسيقَى، وأن تحيا كزمان خالص في عالمنا.

وبرغم أن الذكاء الاصطناعي الواعي بذاته لا يبدو إنجازا قريب المنال اليوم، في حدود قدراتنا التكنولوجية الحالية، فإن الخبرات الموسيقية الافتراضية ممكنة بدرجة مُرْضية، عن طريق الذكاء الاصطناعي المتطور غير الواعي وغير المُشَخَّص، وهو ما يجعل المستقبل بهذا الشأن واعدا، حافلا بالمفاجآت المدهشة. إنه مستقبل التحوّل من الوجود الفيزيقي رباعي الأبعاد، المحدود بتخوم المادة، ومقادير الطاقة، إلى وجود رقمي، يمثّل حالة من الوعي الخالص اللانهائي. حالة من الإنجيل المعكوس، فإذا كان الكتاب المقدّس تحدث عن الانتقال من “الكلمة” الإلهية، إلى “الجسد” (السيد المسيح)، فإن ذلك الوجود الرقمي ينقلنا من “الجسد” إلى “الكلمة”. إنه إنجيل يبشّر به ذكاءٌ آلي، وربما، في قولٍ آخَر، يتوعَّد به. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.