عاد اسم هيفاء وهبي ليصبح “تريند”، بعد حفلها في موسم الرياض، المقام في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي. وهذه المرة ليس بسبب ملابسها وحركاتها “الفاضحة”، وغيرها من الأمور التي تثير خيال المتلقين عادةً. بل بسبب صور لها، تم التقاطها خلال المؤتمر الصحفي الذي سبق الحفل، وتبدو فيها علامات التقدّم في السن واضحة على وجهها. صور الفنانة اللبنانية كانت سببا لحملة قام بها بعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، للسخرية منها و”التنمّر” عليها، ومقارنة صورها بالماضي.

بالمقابل تضامن كثير من الفنانين والناشطين والمحبين مع وهبي، و دعموها. وهي بدورها خرجت إلى الإعلام، وتحدثت عن “حملة ممنهجة” تتعرّض لها. ورغم أنها قالت إن هذا الموضوع تافه وسخيف ولا يعنيها، إلا أنها بعد ذلك قامت بنشر عدة فيديوهات، تبدو وكأنها عفوية، لاستعراض شبابها، ونقاء وجهها الخالي من التجاعيد. 

بدا المشهد غريبا بعض الشيء. بعض النساء تساءل: هل يعقل أن تشير امرأة إلى مؤامرة ضدها، لأن علامات التقدم في السن بدت واضحة على وجهها، وهي التي تجاوزت الخمسين؟ّ وإذا كان من المعلوم أن الجمال هو رصيد هيفاء وهبي الوحيد، ومن المفهوم ربما أن تحارب الطبيعة لتحاول الحفاظ عليه، لماذا  تضطر فنانات بحجم أصالة نصري مثلا، صاحبة الصوت المهم، إلى إجراء كثير من عمليات التجميل ليظهرن أصغر سنا؟ باختصار: لماذا لا يحق للفنانات اليوم أن يكبرن؟ فيما ما مضى كانت صورة السيدة المسنّة، المجيدة في مجالها، والتي صقلتها التجارب والخبرات، مقبولة وجميلة وتتمتع بفائق الاحترام. تقاسمتها رموز بحجم “الست” أم كلثوم؛ سميحة أيوب (سيدة المسرح العربي)؛ وحتى فاتن حمامة، التي لم تفقدها تجاعيدها مكانتها بوصفها سيدةً للشاشة الكبيرة، ولقلوب كثير من المتابعين.   

 لا يقتصر الأمر على الفنانات، إذ تبدو النساء، بل وحتى الفتيات الصغيرات، قلقات جدا بشأن السن. ما أدى لازدهار صناعة خاصة في الإطار التجميلي: محاربة الزمن على الأوجه والأجساد، وقهره.

انتشرت الجراحات والتدخّلات التجميلية بشكل كبير، وتحوّلت الى تجارة تسوّق لها شركات وعيادات، عبر الفنانات والمؤثّرات على وسائل التواصل الاجتماعي، اللواتي يعرضنّ أجسادهنّ المتناسقة، ووجوههنّ الخالية من التجاعيد. وصار الموضوع هوسا، قد ينتهي بمضاعفات صحية ونفسية خطيرة جدا، أو تشوهات يصعب ترميمها، تروح ضحيتها نساء وفتيات شابات، قد يدهش المرء من توجههن لهذه الصناعة.   

ربما يصبح التساؤل عن سبب الضغط على النساء، كي لا يكبرن، أكثر إشكالية بالارتباط مع مواقف التيارات النسوية المتعددة من المسألة. ففي عصر يُقال إنه يشهد “مدّا نسويا”، لا يمكن أن تبقى قضية التدخلات التجميلية مجرد “خيار فردي”، بل قضية سياسية بالعمق. أليس “كل شخصي سياسي” بالمحصلة؟

الخريطة السياسية للتجميل

تذكر دراسة، نشرها موقع plos one، أن “الكمال الجسدي والنجاح المهني مرتبطان ارتباطا وثيقا ببعضهما، ويُنظر إليهما علي أنهما رمزان جوهريان للهوية الأنثوية المثالية. وبالتالي فإن النساء اللواتي يؤيدن القيم المادية، يملنّ أكثر إلى السعي وراء جسد مثالي، والاستفادة من الجاذبية الجنسية. أي اعتبارها أثمن الأملاك، التي يمكن الاستفادة منها لتحقيق نتائج إيجابية في الحياة. وهذا يمكن ربطه برغبة النساء وحتى المراهقات بالخضوع للعمليات التجميلية”.

وتشير الدراسة إلى أن الصين كانت في العام 2011 في المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة والبرازيل في سوق الجراحة التجميلية، إلا أنها تصدّرت العالم في العام 2018.

فيما يؤكد تقرير، نشرته الجمعية الدولية للجراحة التجميلية، أن عدد عمليات التجميل في العام 2019 بلغ أكثر من أحد عشر مليون عملية. كانت البرازيل في مقدمة الدول، وتركيا في المرتبة السادسة، وفيما يتعلق بالعالم العربي فإن لبنان احتل المركز الأول في عدد عمليات التجميل عربيا. لكن في السنوات الأخيرة شهدت غالبية الدول العربية إقبالا شديدا على تلك العمليات، وخاصة في الدول التي تعاني من الأزمات، مثل سوريا والعراق.

ارتباط اللجوء إلى عمليات التجميل مع الأزمات السياسية والاقتصادية يطرح أسئلة عديدة. من المعروف، بحسب عدة دراسات أكاديمية عن سلوك المستهلك، أن نساء كثيرات يلجأن بشكل أكبر، في أوقات الأزمة، لشراء مستحضرات التجميل البسيطة والرخيصة، لتعويض عجزهن عن شراء سلع الرفاهية المرتبطة جندريا بالأنوثة (الملابس الأنيقة، العطور، الحقائب، الخ)، ولكن أن تصبح التدخلات الجراحية سلعة “شعبية” لبلدان الأزمات، فهذا عامل مستجد يجعل “سلوك المستهلك” هذا مرتبطا بأبعاد ثقافية وسياسية شديدة التعقيد، لعلها تجد دارسيها مستقبلا.

ولكن ما موقف التيارات النسوية من تلك الأبعاد والسلوكيات المعقدة؟ هل قدمت مداخلات مهمة، على مستويي التفسير والنقد؟

المخزن النسوي

بالتوازي مع ارتفاع معدلات عمليات التجميل ومحاربة الشيخوخة يبرز تيار نسوي، مترسخة جذوره في الموجة النسوية الثانية، يرفض “تسليع المرأة”، والضغط عليها لملاحقة معايير الجمال المفروضة من قبل المعلنين والأطباء والشركات الكبرى. ويعتَبر هذا التيار أن تركيز المرأة على شكلها ما هو إلا تشيئ لذاتها، وقبولها بدور تقليدي جندري، وهو أن تكون سلعة جنسية، هدفها الاثارة وإمتاع الرجال.

من جهة أخرى هنالك تيار، له منطلقات أكثر “حداثة”، يبرّر الخضوع لعمليات التجميل، وغيرها من “تقنيات الذات” القاسية، على أنه حرية شخصية، تتعلق بعلاقة المرأة مع جسدها وسلطتها عليه، وزيادة ثقتها بنفسها. وقد استخدم كثير من الفنانات والمؤثرات مفاهيم، مثل “الرِضا عن الذات”، و”الثقة بالنفس”، و”التناغم مع الجسد”، لتبرير مبالغتهنّ في عمليات التجميل.

وطالما أن “النسوية” صارت تُستخدم مثل المخزن، الذي يتسع لكل الافكار والأفعال، ويهبها الشرعية، بات يمكن لكل فتاة، فنانة، مؤثّرة، أو حتى كاتبة ومفكرة، أن تستخدم شرعية “النسوية” لتبرير موقفها حول الموضوع، تأييدا أو رفضا. 

بالنظر للنصوص النسوية الأكثر نخبوية سنجد أراءً متنوّعة. الكاتبة عُنيزة وحيد مثلا، في مقال لها بعنوان الأخلاق، النسوية وعمليات التجميل“، تقول إن “الجسد هو الصلة بين العقل والعالم الخارجي، فهو يشكّل الطريقة التي نقدّم بها أنفسنا، ويؤثّر على تفاعلاتنا مع الآخرين، وبالتالي يمكن أن تكون الجراحة التجميلية، التي تغيّر الجسم من أجل المظهر الجمالي مصدرا لتمكين المرأة. لا تُجبر النساء على الخضوع لعمليات تجميل، ولكن هناك عوامل خارجية تؤثر على قراراتهنّ. تمارس وسائل الإعلام تأثيرا هائلا على المرأة لتبدو بطريقة معينة على أنها جميلة”.

وتؤكد وحيد أن الجراحة التجميلية “قد لا تشكل بالضرورة ضررا جسديا، إلا أن الخطر ينشأ إذا أدت إلى استمرار الشعور بالنقص، والصناعات التجميلية لها مصلحة في تعزيز حاجة المرأة الواعية إلى معالجة عيوبها، وبالتالي فإنها تشجّع على تدهور وضعها وتحدّ من إرادتها، وتجبرها بشكل لا شعوري على القيام بدور أدنى. يتم تفسير هذه النقطة من خلال النساء اللواتي يسعين إلى الجراحة التجميلية من أجل الشعور بمزيد من القوة”.

قد يلخّص هذا الرأي كثيرا من أوجه الارتباك، التي تواجهها التيارات النسوية تجاه التدخلات التجميلية.

يمدّنا بحث جديد، منشور في مجلة “الشخصية وعلم النفس الاجتماعي” الأكاديمية، بنتيجة مثيرة للاهتمام إلى حد كبير. إذ يشير إلى أن “إجراءات التجميل المرهقة والمكلفة ، تعبّر عما هو أكثر من مجرد رغبة النساء في التعبير عن الذات.  إذ يكون الضغط على النساء، للسعي وراء الجمال، أكبر عندما نعتقد أن المرأة لديها فرصة لتحقيق المساواة مع الرجال. وكلما زادت “الفرصة” اعتقد كثيرون أن النساء يجب أن يقضين وقتا أطول في السعي وراء الجمال”.

بهذا المعنى هل يكون الإقبال على جراحات التجميل، في جانب منه، نتيجة لإمكانيات المساواة المتزايدة، وصعود التيارات النسوية نفسها؟

أساطير الحب والجمال


ولكن ماذا عن الرجال؟

يرى كثيرون أن المجتمع نفسه، الذي يقّدم الاحترام للرجل الذي يتقدم في السن، ويصف الرجل الخمسيني بأنه مكتمل الرجولة، جذاب وذي هيبة، يضطهد المرأة ويقمعها بناء على سنها، ويغلق أمامها أبواب الحياة العاطفية والعملية، فتضطر الى رفض عمرها، وتحاول جاهدة إخفاء معالم التقدّم في السن.

هذا ما تحدثت عنه باستفاضة الكاتبة الأميركية نعومي وولف، في كتابها “أسطورة الجمال”، والذي أشارت فيه إلى الطريقة التي “يتم فيها تدريب الرجال منذ الطفولة على أن يثاروا بصريا من خلال جسد المرأة، وأن  يكونوا أقل حساسية تجاه  شخصيتها، بينما يتم تدريب المرأة على أن تكون إثارتها عاطفية. وهذا التفاوت في التربية الجنسية يحافظ على قوة الرجال في الأسطورة، إذ ينظر إلى أجساد النساء، ويتم تقييمهن من خلالها، بينما لا يخضع الرجل لهذه التقييمات”.

وتضيف وولف أن “الثقافة، التي تركز على نحافة الأنثى، هي ليست في الواقع هاجساً بجمال الأنثى، بل هاجس طاعة الأنثى، إذ أن الريجيم (النظام الغذائي) هو أقوى مسكنات سياسية في تاريخ المرأة”. آخر شيء يريده مؤشر الاستهلاك، برأي وولف، هو أن “يعرف الرجال والنساء كيف يحبّون بعضهم، إذ تعتمد صناعة مبيعات التجزئة، البالغ قيمتها أكثر من خمسة ترليونات دولار، على القطيعة الجنسية بين الرجال والنساء، التي يغذّيها الاستياء الجنسي”.

 ساندرا لي بارتكي، أستاذة الفلسفة ودراسات النوع الاجتماعي في جامعة إلينوي في شيكاغو، تقول في كتابها “إعادة تشكيل جسد الأنثى: معضلة جراحة التجميل” إن “النساء في مجتمع اليوم يتعرّضن للرقابة، ليس فقط من خلال نظرة الرجل، ولكن من خلال نظرتهنّ الداخلية لأنفسهنّ. قد يُنظر إلى الجراحة التجميلية على أنها أداة لهيمنة الذكور، إذ تطبّق النساء معايير الجمال التي يضعها الرجال. وإذا قامت النساء بتعديل أجسادهن، من أجل الارتقاء إلى المعايير التي تهيمن عليها توقعات المجتمع الأبوي، بوصفها أداة للمراقبة، فإن معايير الجمال لم تعد جمالية الفائدة، ولكنها أداة قوة، مما يجعل مفهوم الإرادة الحرة في الجراحة التجميلية شيئا من الوهم”.

نلحظ هنا أيضا، أنه حتى على المستوى الأكاديمي النظري، يوجد كثير من الارتباك. فعندما نقول إن التدخلات التجميلية، يمكن أن تكون أداة لاكتساب القوة، حتى لو بمعايير ذكورية، فهذا يعني أنها قد تكون سلاحا نسويا، يمكن للسيدات والفتيات استخدامه لتحسين أوضاعهن، بل حتى توجيهه ضد من أرادوه وسيلة لإخضاع ورقابة النساء.

إلا أن السؤال يبقى مطروحا: ألا يحقّ للنساء أن يكبرن؟ وبغض النظر عن كل معادلات القوة، لماذا يجب أن يبقين مسجونات في الصورة الاستهلاكية للفتاة العشرينية، التي ستفتح لها جاذبيتها كل الأبواب؟ إنها في النهاية مجرد “صورة”، فالزمن سيطال الجميع، بمن فيهن هيفاء وهبي ومثيلاتها، اللواتي امتلكن “القوة”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.