“ماذا؟ القيمة الفنية؟! أتقصد حقا ما تعنيه؟  بمجرد إزاحة الستار عن وجودي في المتحف بدلا من موناليزا، أصبح بمثابة إعلان عن فشل الفن في منافسة صورته المؤسسية عند الجمهور”.

أحمد حسن شوقي، ناقد فني مصري.

يعتبر الفن جزءا من الحوار الاجتماعي والثقافي العام، الذي يؤثّر على مناحٍ مختلفة، مثل الهوية الشخصية والثقافية وقيم الأسرة والمنظورات الجندرية، وهو بالتالي غير منعزل عن الجدالات السياسية الكبرى، وحركة التاريخ، سواء بقضاياه “الكبرى”، أو بموضوعاته الحياتية واليومية، فضلا عن كون الفن راصدا لكل التحولات الفكرية والوجدانية والعقائدية. مما يجعل المعارض الفنية والمتاحف في قلب جدالات الحيّز العام، وميدانا لكل القضايا الخلافية في المجتمع.

لم تكن مقتنيات ومعروضات المتاحف والمعارض ثابتة في يوم من الأيام، فباستثناء بعض الكلاسيكيات شديدة الشهرة، يغيّر القائمون على تلك المؤسسات، بشكل مستمر، ما هو معروض للجمهور العام. سؤال: ماذا نعرض؟ ولماذا؟ ليس سؤالا عاديا، فهو مرتبط بمفاهيم شديدة التعقيد: “القيمة الفنية”؛ “الأهمية الاجتماعية”؛ “الراهنية”؛ “القيمة التعليمية أو التربوية”؛ “الرموز الثقافية والوطنية”؛ “التاريخ”؛ الخ، وبالتالي لا يوجد عمل معروض لمجرد أنه “جميل”، أو ذي قيمة جوهرية لا تتغيّر. لا بد من مراعاة كثير من السياقات المركّبة كي نفهم لماذا يُعرض ما يعرض.  

معارض الفن تقوم على أعمال فنانين نشأوا في عالم متبدّل ومتنوّع ثقافيًا، يعتمدون على مزيج من المواد والأساليب والمفاهيم والموضوعات، الهادفة إلى إثارة الحواس والأفكار، مما قد يضعهم أحيانا في مواجه مع الجمهور، وثقافته المترسّخة. وبمرور الزمن، وتغيّر الشروط والأوضاع، وحتى السلطات السياسية، قد يزداد قبول أعمال فنية معينة، ويتراجع الاهتمام بأخرى. ستتجاوب المعارض والمتاحف بالتأكيد مع تلك التغيرات، بل كثيرا ما تكون مساهمة في صياغتها.

الاحتجاجات في المتاحف والمعارض ليست جديدة، في عام 1969 مثلا، اجتمع أعضاء مجموعة تسمى Guerrilla Art Action Group في بهو متحف الفن الحديث بنيويورك، وغمروا أنفسهم بدماء البقر، وألقوا نسخا متناثرة من بيان لاذع بعنوان: “دعوة للاستقالة الفورية لآل روكفلر من مجلس إدارة أمناء متحف الفن الحديث “، متهمين الأخوين ديفيد ونيلسون روكفلر (حاكم نيويورك آنذاك) بـ”التوّرط الوحشي في جميع المجالات” في حرب فيتنام.

من احتجاجات مجموعة Guerrilla Art Action Group

إلا أن سياسات مؤسسات العرض في الفترة الأخيرة تلاقي نقدا شديدا، ليس فقط بسبب المواقف السياسية، أو الخلاف حول “الفن المعاصر”، والخصائص التي تُعرّف العمل الفني، بل أيضا لعامل ازدادت أهميته بشدة في السنوات الأخيرة: الأخلاق.

تمتد جدالات الفن المعاصر لتتقاطع مع منظومة الأخلاق، وتطرح تساؤلات حول مساحة الحرية المتاحة للفنان: هل يساهم الفن في “التمييز” و”الصور النمطية” و”ثقافة الاغتصاب”؟ هذا من جهة “اليسار” الغربي طبعا، أما اعتراضات اليمين المحافظ والشعبوي فمعروفة للغاية. الجديد أن ما يمكن تسميته “الصراع الأخلاقي” بات عاملا علنيا في تقدير الفن والقيمة الفنية، وله منظروه المعرفون.

بعض الفنانين يعترض على كل ذلك، ويعتبره طغيانا للأخلاق والسياسة على الفن؛ فيما يراه البعض الآخر طبيعيا للغاية، فلطالما خبّأ الفن كثيرا من الانحيازات والأحكام الأخلاقية، التي تم اعتبارها “بديهية”، وآن الأون لإنتاج قيم وأخلاقيات وجماليات جديدة. ولكن ألا يجعل هذا الفن يقوم بأدوار أخرى، غير الدلالة الأستطيقية (الجمالية)، وهي أدوار قد تقوم بها منظومات أخرى، مثل الأحزاب والجامعات و”المنظمات المدنية”، بكفاءة أكبر؟ هل سيقع الفن  تحت طائلة الحكم المجتمعي؟ ألا يهدد ذلك بأن يصبح الإبداع الفني تحت سيطرة الممولين والناشطين والقائمين على المتاحف والمعارض، والقادرين على فرض أجنداتهم الجاهزة؟

يتصاعد هذا النوع من الأسئلة منذ فترة طويلة، ما يجعل المعارض والمتاحف أحد أهم الجبهات الأخلاقية في عصرنا.

“اغتصاب أوروبا”: جماليات العيب الأخلاقي

بالنسبة لدارسي الفن من زاوية علم الأخلاق، فإن العمل الجدير بالثناء أخلاقيا قادر على تعزيز قيمته الفنية. يعتقد الفيلسوف والناقد البريطاني بيرس غوت أن حجة “الاستجابة المستحقة” يمكن أن تثبت ذلك، إذ أن العمل الجدير بالثناء أخلاقيا، يوفّر أسبابا لتبنّي الاستجابة التي يتوقعها منتجو العمل. وبالتالي فإن الموقف الأخلاقي المناسب، أو الاستجابة المتوقّعة، جزء مما قد يجعل العمل ذا قيمة.

يشكك بعض النقّاد بدور الأخلاق في العمل الفني، إذ يرون أن المواقف والتصورات، التي تتجلى في الأعمال الفنية، غير قابلة للتقييم أخلاقيا، إذ كانت موجهة نحو الأشياء والموجودات الخيالية، وليس الواقعية، وبالتالي من غير المناسب اعتبارها جديرة بالثناء أو الشجب من الناحية الأخلاقية. يرفض بيرس غوت هذا الرأي، لأنه يعتقد أن المواقف تجاه الأشياء الخيالية قد تكون قابلة للتقييم أخلاقيا. على سبيل المثال: من المؤكد أننا نعتبر التخيلات الجنسية لشخص ما تستحق اللوم، إذا تم تشكيلها بالكامل من خلال التفكير باغتصاب النساء. بالطبع، يوضح هذا المثال فقط أن بعض المواقف تجاه الأشياء الخيالية يمكن تقييمه أخلاقيا، ولكن لا يمكن تعميم المثال على جميع المواقف.

من المهم التأكيد أنه حتى بالنسبة لأنصار القيمة الأخلاقية للفن فإن العمل المعيب أخلاقيا ليس بالضرورة معيبا فنيا، والعكس صحيح. يلتزم المنظور الأخلاقي ببساطة بفكرة أن المواقف المعبّر عنها في العمل تؤثّر في تقييمه الفني. وقد يظل العمل، الذي يظهر موقفا غير أخلاقي، مستحقا للثناء من الناحية الفنية. فمثلا ما زالت لوحة “اغتصاب أوروبا” للفنان الإيطالي تيتسيانو فيتشيليو، الشهير بـ”تيتيان” (1488 – 1576) عملا فنيا عظيما، على الرغم من الموقف المتحيّز ضد المرأة الذي يروّج له، بحسب رأي النسوية المعاصرة.

“اغتصاب أوروبا”

 إلا أن بعض النقّاد المعاصرين لديهم موقف أكثر تشددا من الإيتيقيين (علماء الأخلاق).

غالبًا ما يتم الإشادة بـ”اغتصاب أوروبا”، باعتبارها إنجازا فنيا من الدرجة الأولى، يجعل تيتيان من “آباء” الفن التشكيلي الغربي بمعنى الكلمة. لكن الناقدة آن دبليو إيتون تجادل بأن المزايا الفنية للوحة يشوبها عيب أخلاقي، فتيتيان لا يمثّل مشهد اغتصاب فحسب، ولكنّه  يجعله ملحميا ومثيرا للشهوة، ويصوّر “أوروبا” مستمتعة وراغبة باغتصابها الوشيك، على الرغم من مقاومتها الواضحة.

ترى إيتون أن القيمة الفنية للوحة تتضاءل، بسبب حقيقة أن كثيرا من سماتها الفنية القيّمة تعتمد على قبولنا لمنظور معيب أخلاقيا. وتلاحظ كيف تساهم عديد من السمات الجمالية البارزة في اللوحة في تزيين ذلك المنظور: الألوان مبهجة، وأجواء اللوحة هادئة. وغالبا ما يتم تفسير تعبير “أوروبا” في اللوحة باعتباره ممثّلا للنشوة، أكثر من الألم أو الخوف، وتوجه تركيبة اللوحة أنظارنا إلى منطقة العانة في جسدها.

بمقابل وجهة النظر الأخلاقية هذه توجد وجهة نظر معاكسة، ترى أن الخلل الأخلاقي قد يؤدي في بعض الأحيان إلى تعزيز القيمة الفنية للعمل الفني، فالفن لا يكون فنا إذا لم يأخذ مسافة عن الأخلاق السائدة، ويؤدي لـ”خلل” فيها. رغم هذا فإن الموضوع شديد التعقيد: لوحة تيتيان في زمانها كانت متماشية مع الأخلاق السائدة، ونقدها اليوم قد يكون “خلخة” للأخلاق الأبوية.

 ولكن هل “الأبوية” هي السائدة اليوم حقا؟ ألا يمكن أن تكون “أخلاق السلطة” في عصرنا هي أخلاق الملتاعين من لوحة “اغتصاب أوروبا”؟

أخيرا ترى الناقدة سينثيا فريلاند أننا يجب أن نكون منفتحين على احتمال أن يتبدّل حكمنا من خلال تأثير العمل الفني على حساسيتنا الأخلاقية، وبالتالي يصبح الفن منتجا للقيمة الأخلاقية، وليس العكس. مما يزيد الموضوع تعقيدا.

ولكن من الذي يتخذ القرار الأخلاقي بخصوص الفن فعلا؟

“الوحوش العادية”: هل الأخلاق تساعدنا على فهم الجمال؟

يتم أخذ القرارات حول ما يجب تضمينه أو استبعاده من المتاحف والمعارض من قبل الـ “art directors” (المدراء الفنيون) الذين يؤثّرون على ذائقة الجمهور بعده طرق، فتعكس المعارض قيمهم وافتراضاتهم الأخلاقية. والموضوع بات متداخلا بالاقتصاد والسياسة بقوة، فمؤسسات العرض تجذب كثيرا من الاهتمام، وهي تلعب دورا رئيسيا في صياغة التصورات الجمالية للجمهور، التجّار، الحكومات، هواة جمع الأعمال الفنية، الناشطين، وغيرهم.

هذا يعطي الفنانين والمدراء الفنيين قوة غير مسبوقة في  التأثير على المجتمع. يجادل البعض بأن ذلك يضعهم في مكانة القدوة الأخلاقية، ويلزمهم بالتصرّف و فقا لذلك، ولكن ماذا إذا كان لدى الفنانين آراء والتزامات أخلاقية خاصة، لا تتفق مع مفاهيمنا عن الأخلاق؟ هل يحب أن نقصيهم من الصدارة، ولا نعرض إلا أعمال الفنانين “الأخلاقيين”؟ هل يحب أن نحكم على الفنان من خلال موقفه الأخلاقي ام من خلال اعماله؟

الفنانون مجرد بشر، قد يكون لديهم و جهات نظر أخلاقية غير جذّابة، كما يرى الناقد كريستوفر باترل، في بحثه “الوحوش العادية: النقد الأخلاقي وحياة الفنانين”، مؤكدا أن الفنانين ليسوا مميزين عن بقية البشر، ويجب أن ننظر إلى إخفاقاتهم الأخلاقية كما ننظر إلى إخفاقات أقراننا من الناس العاديين، والتي من الممكن أن نتسامح معها، أو ننتقدها بنديّة، أو نقرر قطع علاقتنا مع من ارتكبوها. داعيا إلى  نزع القداسة عن الفنانين وأعمالهم، من خلال توسيع نظرتنا الفنية، لتشمل الأهمية الجمالية للأفعال الاخلاقية الخاصة للفنان. فعندما نربط مواقف الفنانين بتقييمنا لأعمالهم، سنفهم جيدا وجهة نظرهم في العمل، وسيساعدنا ذلك في اتخاذ الموقف تجاهه. وبالتالي فإن فحص أخلاق الفنان جزء من تلقي العمل الفني. وهي وجهة نظر أثارت استغراب كثيرين، ممن رأوا أنها قد تؤدي إلى نوع من “محاكم التفتيش” الأخلاقية على ضمائر كل متعاطي الفن، وإلزامهم بإبداء “عقيدة سليمة”، لكي يجدوا لأعمالهم مكانا في معارض الفن، وبالتالي للدخول في الدورة الاقتصادية للفن المعاصر.  

بعبارة أخرى قد تكون معركة الفن والأخلاق في عصرنا هي التالي: المدراء الفنيون يفتّشون في ضمائر الفنانين؛ والفنانون يضغطون على المدراء الفنيين أخلاقيا لعرض أعمالهم.

ولكن ماذا عن العالم العربي، حيث تزدهر دائما “الأخلاق الحميدة”؟

“هاتي بوسة”: هل يجب أن يكون الفن أكثر أخلاقا من الشارع؟

كان عمل الفنانة المصرية سارة أيمن، عن ظاهرة التحرّش اللفظي في الشوارع المصرية، دمجا بين الفن المناهض لأفعال غير أخلاقية، وبين الجدل الاستطيقى حول ماهية الفن. لم تُعرض صورة العمل في أي جريدة او موقع إلكتروني أو وسيلة إعلامية مصرية إلا بعد تمويه العبارات الأساسية فيها، أي العبارات المتداولة بين المتحرشين في الشوارع المصرية، مثل”كسم اللي يزعلك، لبوة، تعبان نيك، عسل اوى، ما تيجي تلعبي، هاتي بوسة”.

عمل سارة أيمن

المفارقة أن كثيرا من تعليقات المعترضين على العمل حوت ألفاظا أكثر بذاءة مما أظهرته أيمن. وكأن الرفص لا ينصبّ على الألفاظ نفسها، في حال قيلت في الشوارع، أو كتبت على مواقع التواصل الاجتماعي، وإنما على عرضها في صالة فنية. وهذا يعني أن كثيرين ما يزالون يعتقدون أن المنابر العامة تتمتع بحرمة أخلاقية ما.

على الجانب الاخر يجادل الناقد الفني المصري ياسر سلطان المحتجّين على العمل، مؤكدا عدم انحيازه لسارة أيمن، وإنما للفن وطبيعة ممارسته، التي يجب أن تتحّمل الاختلاف وحرية التعبير. وهو بذلك يعبّر عن مفهوم كلاسيكي للحرية الفنية، لم يعد موجودا حتى في الدول الغربية.

إلا أن سلطان يعود إلى المستوى الأخلاقي والسياسي، عندما يقارن بين عمل أيمن وبين بعض أعمال الفنان المصري المعروف محمود سعيد، التي تظهر فتيات عاريات مجهولات الهوية، من طبقات فقيرة، يتفنن في اظهار مفاتنهن، على عكس لوحاته، التي صوّر فيها فتيات طبقته الارستقراطية. وقد اعتُبرت أعماله عموما فنا راقيا وحسّاسا، يخضع للقواعد الكلاسيكية. يقول سلطان إن “عمل سارة أيمن ذي فكرة أهم، فالشكل ما هو إلا ترجمه بصرية، وغاية العمل فضح الأخلاقيات زائفة، وكشف سلوكيات مجتمعية بالغة القسوة”.

من أعمال محمود سعيد

من جهته يرى الكاتب عادل مصطفى، في كتابه “دلاله الشكل”، أن “تمسّك المثقفين بنمط معيّن من المعروضات في المتاحف والمعارض، يرجع إلى رغبتهم في الانزواء والقبول داخل طبقتهم، فلكي يصير أطفالهم في الكبر من ضمن تلك الطبقة، لابد أن يُلقّنوا ويتبنّوا الآراء الصحيحة، أي لابد ان يتعرّفوا على المعايير. ومعايير الذوق هي جوهر الثقافة. وهذا هو السر في كونهم دوما أنصارا للقديم. لقد نشأ في الماضي تصنيف تقليدي للروائع القياسية، يستطيع به أولئك الذين لا يملكون حساسية أصلية أن يميزوا بين الأعمال الفنية، وهذا  بالضبط ما تريده تلك الثقافة”.

لا يبدو أن ما يصفه مصطفى مقتصر على فئة أو طبقة أو ثقافة بعينها، فسواء في الشرق والغرب؛ المعارض الكبرى ذات المنظور “المعاصر” أو المتاحف الكلاسيكية المحافظة، هنالك صراع على معنى “الجميل” و”القيّم”، وهو صراع سياسي/أخلاقي. فهل من المستحيل تحرير الفن من سلطة الأخلاق؟ أم أننا نعيش عصر أخلاق مفرطة، قد تكون مهمة الفن الحقيقي تجاوزه؟  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.