في العام 1998 تأسست في القاهرة دار نشر “ميريت”، لصاحبها “محمد هاشم”. بوصفها  مؤسسة مستقلة. صغيرة نسبياً مقارنة بدور النشر الراسخة حينها. لتمنح مساحة أوسع لأصوات صاعدة في ذلك الحين، لم تكن تمثّل المتن الثقافي القار في الأذهان. في ظل مساحات مغلقة على الكتاب. عدا أسماء بعينها.

وفي عام 2003، أي بعد ست سنوات فقط، تنشر “ميريت ” روايتي ” أن تكون عباس العبد” لـ”أحمد العايدي”، و”عمارة يعقوبيان” لـ”علاء الأسواني”، الاسمين المغمورين آنذاك. تنجح الروايتان بشكل استثنائي. ولا يتوقف أثرهما على شهرة الكاتبين. بل يعيدان صياغة قوانين لعبة النشر نفسها. فتكرر عدد من دور النشر المستقلة والصغيرة نسبيا تجربة “هاشم”. وتنفتح مساحات النشر بشكل أيسر لعدد كبير من الكتاب. وتضطر دور النشر الكبرى، في السنوات اللاحقة، إلى الالتفات إلى أسماء أصغر سناً (روايات “الأسواني” صارت بعدها تصدر عن “دار الشروق”، وهي من أكبر الدور المصرية). ويصير نشر الروايات، بغض النظر عن الأسماء – بل والجودة- عملية مغرية للناشرين.

في العام 2005 وحتى العام 2007 تتحوّل المدونات الإلكترونية إلى ظاهرة تلفت أنظار الصحف ودور النشر، بقدرتها على تقديم إعلام بديل، وكتابة متحررة من كثير من قواعد الرقابة. لتكسر ما تبقى من هيمنة على عملية النشر. عدد كبير من المدونين، اللذين شاركوا في تلك التجربة، ومن بينهم كاتب هذه السطور، صاروا فيما بعد صحفيين وروائيين وكُتّاب قصة وسيناريو. ناشطين في المجالات الثقافية والفنية. وفاعلين سياسيين في ثورة يناير. وأبرزهم “علاء عبد الفتاح”، “أبانا الذي في المدونات”، كما كنا نسميه، والمسجون الآن بالنيابة عنا جميعا. أي الذين ستمثل ثورة يناير وهزيمتها، لحظة فارقة ومؤسسة في وعيهم، ربما إلى نهاية حياتهم.

الخروج من مسخ دولة مبارك

عمّ كان يبحث “العايدي” و”الأسواني” والمدونون، اللذين لم يعودوا كذلك؟

كانت رواية “الأسواني” ترسم ملامح للمسخ الشائخ لدولة مبارك. بفجاجة تعبير لا تتفق والأدب في رأيي. تتخذ الشكل الكلاسيكي دون عمقه وبصيرته.

أما “العايدي” فكان يبحث عن لغة كافرة بحمولات لم نعد نثق بها. بعيداً عن السياسة بشكلها المباشر. تتمرد على الشكل والبلاغة الاعتيادية، عنيفة، لكنها أيضا متلعثمة، تائهة، مرتبكة، وتحمل “بصيص أمل في صحوة أدبية”. كشأن كل ما يبحث عن بداية. تشك في كل ما سبق.

لم يكن “العايدي” يهتم ببنيان مسخ دولة مبارك، بل كيف يكتشف بنياناً جديداً من بين أنقاضه. فذلك المسخ لم يعد مخيفاً في عقله، بل مزعجاً، أقرب لعائق منه لكابوس، ومهزوم سلفاً. وبذلك كان “العايدي” مثلنا جميعاً على ما أظن، نحن الذين تفتّح وعيهم على صدمة أن رواية نظام مبارك، التي يقدمها التليفزيون، صحف الحكومة والمعارضة، كانت رواية فاسدة، كاذبة، تعرض العالم من زاوية ضيقة متحكّم بها سلفاً. ثم اكتشفوا – عبر الصدمة- أن هناك عالم آخر ممكن، أكثر اتساعاً وتنوعاً. وأن الأسماء المكرّسة في الفن، الأدب، الصحافة، السلطة، لم تكن وحدها الأسماء التي تستحق الرسوخ والظهور. في الأمر عملية إخفاء متعمد لهويات متعددة، وأصوات مختلفة.

يتردد كثيراً بنبرة، تتراوح بين التشفي وجلد الذات، وأحيانا بسبب مصالح لها علاقة بترويج الكُتّاب لأعمالهم في السوق العربي، أن مصر فقدت ريادتها على مستوى الرواية العربية. وأي صوت سيناقش تلك المسألة بموضوعية سيتم إرهابه بتهمة “الشوفينية”. لكن من قال إن الكتاب المصريين الأصغر سناً كانوا مشغولين بالحفاظ على نوستالجيا الريادة أو مهمومين بها؟ في ظل إدراكهم أن الأدب لغة عالمية في الأساس، جنسيته عابرة للقوميات الضيقة. فكرة المركزية المصرية، في العموم، من الأفكار التي ثار عليها هذا الجيل، أو لا تمثل له وسواساً.

الجيل الشاب (الذي ربما لم يعد الآن كذلك) كان مشغولاً حينها بشيء آخر: أرض العدم التي اكتشفها تحت قدميه. لذا بحمى، بارتباك (دافعه رغبة في البحث عن أصالة ما) وبغرور أيضاً (صنعه سهولة النشر، التدوين، الاشتباك والعمل بالصحافة، السوشيال ميديا، عصر الجوائز المحلية والعربية، وكل ما يمنح مكافآت سريعة، وهو ما تم تداركه بأعمال أكثر إتقاناً فيما بعد)، كانوا يبحثون عن لغة جديدة تصلح للإيمان. وعن مسارات بديلة.

كانت الرواية المصرية” الشابة” تجرّب بكل وسائلها، تراهن، تشك في الوسائل الكلاسيكية للتعبير. والتجريب يعني احتمالية الخطأ، الرهان يحتمل الخسارة. لا أدّعى أن دافع البحث عن أصالة ما كان حقيقياً لدى الجميع، فسهولة النشر في الدور المصرية كان وراء سيل لا يستهان به من الروايات الرديئة، والأسوأ المنتحلة لنبرة الشك والتجريب، أو حتى الاتقان بشكله الكلاسيكي. لكن دعني ألتفت إلى تجارب بعينها كمثال.

لغة المرايا المهشمة

قبيل الثورة، في نهاية 2010، ينشر “يوسف رخا” روايته “كتاب الطغرى”، بكل نزقها الجمالي، لغة مشروخة عصبية، ومشوهة عن عمد، تتكئ على اليومي وتستوعب ركاكته بذكاء. وكذلك التراثي، بروح الانتقام ربما. موضوعها هو حصار بطلها، الذي لا فكاك منه، داخل نسق الحضارة الإسلامية. في 2016 سيصدر “رخا” روايته “باولو”، التي يحاصر فيها البطل داخل كابوس من نوع آخر: الثورة بوصفها نسقاً استبدادياً.

بينما يلجأ “طارق إمام” إلى العوالم التجريبية للخيال، يعتنق المجاز ويحوله إلى آلة تحرّك السرد وترسم الشخوص. في مزج بين عوالم ألف ليلة وبورخيس والكوميكس والشعر. كأنه يبعث باللغة من مرقدها بين شقوق، يدفعها إلى أقصى مدى ممكن. ويبعث ظلال شخوص عالمه الروائي بوصفهم أشباحاً ومسوخاً.

 يصدر “إمام” في العام 2009، روايته ” هدوء القتلة”.  في صلبها هي رواية عن القاهرة بوصفها مدينة أشباح. يجوب فيها قاتل متسلسل، ليخفف عبر القتل من آلام المعذبين الذين قهرتهم المدينة (تيمة ستكرر لاحقا في روايات أخرى). لكن في النهاية ثمة ما يختبئ وراء عملية القتل: إعادة اكتشاف المدينة أو بالأحرى إعادة خلقها.

في عام 2021 تصدر روايته “ماكيت القاهرة”، التي يطوّر فيها “إمام” مشروعه إلى مداه. يصير التجريب أكثر إتقاناً. ويحرّكه وعي ونضج أكبر. وما بدأ سؤالاً يتحوّل إلى ذروة من الألعاب والأسئلة المهمة. القاتل يتحوّل هنا إلى الضحية المشوهة الممسوخة، التي على عكس ضحايا “هدوء القتلة”، تواصل الحياة بوصفها عذاباً. يتحوّل الضحايا، على حد تعبير “إمام”، من موتى إلى علامات ذنب. في وقت تستعد فيه القاهرة كما نعرفها للاندثار. في ظل إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة. يستنسخ الكاتب المدينة المضمحلة عبر فكرة الماكيت. ربما ليمحوها بدوره، أو يحتفظ بها في ذاكرة ضحاياه. عبر الرواية التي تنطلق من عام 2011 وحتى اللحظة الراهنة والمستقبل البعيد.

عبر الخيال الجامح، أي الكذب الفني، تتضاعف الذوات الروائية بالانتباه إلى أشباحها وظلالها في نصوصه. ويتضاعف معها ثرائها الممكن والمستحيل في آن. عبر تهجين واع.

على العكس من “إمام”، الذي يعتمد على المجاز واللغة الشاعرية في خلق عوالمه، يسعى “نائل الطوخي” إلى تجريد اللغة من حمولاتها البلاغية. يحتفي بالعامية والركاكة والسخرية. ويصنع منها مادة أدبه. كأنه يعرّي عنها كل كذب. أو كأن الهدف أن الجملة لا ينبغي أن تعكس أكثر مما تقول، لأن ما خدعنا تحديداً كان ظلال البلاغة القديمة.

يبدو “إمام” و”الطوخي” مختلفين في الظاهر. كل منهما على طرفي نقيض. لكن في رأيي يجمعها ما هو أكثر: حس التجريب، المغامرة مع اللغة، والبحث عن بلاغة الجديد والخيال، أصالة الدافع.

في 2009 يصدر “نائل الطوخي” روايته ” الألفين وستة”، التي يعثر بها على صوته السردي الخاص. متخلّياً عن مشروع أكثر رزانة وميلاً إلى الفلسفة. كان قد طرحه من قبل في روايتين سابقتين: “بابل مفتاح العالم”، و”ليلى أنطوان”. ينشئ “نائل الطوخي” واقعاً متخيلاً لخلاف وهمي حول الأنواع الأدبية. تتخلله ثورة من أجل نصرة الشعر. ومشاهد قتل على خلفية “العرقية” الأدبية، ليعري أيضاً نشأة العنصرية، التعصب، وهم اليقين، ويمسخر معه مؤسسات ثقافية ودينية وسياسية قائمة.

في “نساء الكارنتينا”، التي صدرت في العام 2013، يختار “الطوخي” الإسكندرية، التي طالما صوّرت بطريقة أسطورية، وبديلاً عن القاهرة الميتة، مدينةً للأمل، ولو على مستوى الجمال البصري. لكن الكاتب يعيد بناء ملحمة المدينة على نسق أسفار العهد القديم. في دوائر زمنية تتكرر في فانتازيا للحركة، دون  حركة حقيقية. محض موات وعبث. فالإسكندرية، التي طالما اعتُبرت في مخيال محبيها مدينةً كوزمبوليتانية. لا وجود لها في أرض الواقع ولا المستقبل.

في رواية “الخروج من البلاعة”، الصادرة عام 2018، يخطو “الطوخي” خطوةً أكثر نضجاً. يتخذ المجتمع مجاز البلّاعة ويتصارع أعضاؤه كحشرات. كإفراز للوعي القديم السابق على الثورة والكاره لها. وتُسرد الرواية من وجهة شخصية مضادة لكل ما أنتجته الثورة. ورغم ذلك ندرك، في حرب الشخصية ضد الكذب والنفاق والشيطان، شيئاً بالغ الإنسانية. كأنها أخيرا محاولة للفهم، خارج الصراخ الثوري الذي حوّل الجميع إلى كليشيهات. في استعادة لدور الأدب الأصلي. أو بمعنى آخر، ربما يكون في قدرة الأدب على الرؤية خارج التصنيفات نجاة ما من الثورة وأعدائها.

الديستوبيا

في 2010 يصدر الروائي “محمد ربيع”  روايته الأولى “كوكب عنبر”. وفيها تظهر ملامح مشروع، لا يشيح بوجهه عن السياسي، وهو في ذلك مفارق لبضع أفكار سابقة، رسخها جيل التسعينات الموهوب، والذي بلغ ذروة نضجه الأدبي حالياً.

وإن كان في “كوكب عنبر” فكرة بسيطة، تتناول المسخ من زاوية البيروقراطية القادرة على إماتة أي محاولة فردية، إلا أن الفكرة عينها تنضج أكثر في “عام التنين”. لتصبح ترسانة القوانين البيروقراطية، لأقدم دولة مركزية في التاريخ، قادرة على الإطاحة بشيء فاعل وديناميكي بحجم الثورة.

في الرواية الثالثة “عطارد”، الصادرة عام 2014، وكانت وطأة ما حدث في اعتصام “رابعة العدوية” ما زال ثقيلاً، يدفع “ربيع” الجحيم إلى مداه. في عالم بلا حب ولا كراهية ولا انتماء ولا تعاطف، والناس في حالة من فقدان الوعي الدائم. بعدها بعام تصدر رواية ديستوبيا أخرى هي “أغسطس” لـ”أسامة الشاذلي”.

في “عطارد” و”أغسطس”، مع فارق الحمولة التأملية لـ”عطارد”، واستعانة رواية “أغسطس” بآليات الصحافة الإلكترونية، من حيث الخفة والربط السريع، بوصفهما إشارة موفّقة لهشاشة وعبث الواقع، يستعين “ربيع” و”الشاذلي” بمجازين ساخرين، تم تداولهما على الإنترنت قبل صدور الروايتين: الأول أننا في الجحيم الفعلي. وأننا نحاسب الآن على ما اقترفناه. وإلا ما معنى انتهاء الأمل والقتل المجاني ومطاردة السلطة للجميع؟ والثاني أن أغسطس/آب، أكثر شهور العام حرارة، شهر لن ينتهي. وأن السنة كلها قد تصبح أغسطس.

كما تستلهم الروايتان واقعتين حدثتا بالفعل. في رواية “أغسطس”، يتعرّض مكتب البطل المريض للسرقة خمس مرات. بنفس الطريقة من نفس العصابة، في خمسة أيام. في “عطارد” تبدأ الرواية بمشهد آخر مستلهم من صفحات أخبار الحوادث: الأب يقتل عائلته بالساطور ويأكل أجسادهم . في الروايتين، لا خلاص إلا بالموت، الضابط يخلّص المصريين بقتلهم. وبوابة السفر الوحيدة من مصر هي مشرحة “زينهم”. الزمن متوقف، الأحداث الجسام تقع دون أن يبالي أحد، حتى لو تعرّضت المدينة للاحتلال. ثم غادرها المحتل من تلقاء نفسه.

يمكن لنا أن نرصد تيمة متكررة في روايات ما قبل “يناير” وما بعدها. تحديداً استعانتها بالكيتشات المتداولة وخرافات القومية والدولة القديمة عن نفسها. ثم إعادة تدويرها عبر جنوح الخيال. بلاغة مصاغة من قلب جحيم وهراءات المسخ.

الرقابة

في 2015 قُدّم “أحمد ناجي” للمحاكمة بتهمة ” البذاءة”. بعد نشره فصلا من رواية “استخدام الحياة” في جريدة “أخبار الأدب”. فيما عرف بقضية “خدش الحياء العام”، ليصير ما وراء الكتابة نفسها كابوساً أكثر من الكوابيس التي يصورها الأدب.

يطرح “ناجي”، مثل “طارق إمام” لاحقاً، سؤال فناء القاهرة (المسألة الملحة في أدب هذا الجيل). وفي 2020 يعود برواية “والنمور لحجرتي”، التي تتوقع أن تؤدي التغيرات لمدينة بديلة. لكن ما يبحث عنه “ناجي” يظل الخلاص الفردي. وسط ركام المدينة المنتهية، مدينة ما بعد الجحيم.

في العام الماضي ينشر “بلال فضل” روايته “أم ميمي”. وهي رواية سبق له أن كتب مسوداتها الأولى في جريدة “الدستور” المصرية في عهد مبارك. وهي ترصد العالم بالغ الانحطاط، الذي خلّفه النظام السابق وراءه. يعيد “فضل” كتابة النص، بعد اضطراره لمغادرة مصر بعد 2013، بتركيز أكبر. متجاوزاً مغريات الصحافة ومنتبها إلى خصوصية عالم الأدب. بل وفي رأيي يقدم إضافة هامة للغة المحكية.

 يستفيد “فضل” من نشره الرواية في دور نشر خارج مصر. فيصبح أكثر حرية في استخدام لغة عارية. لا ترهبها رقابة الأخلاق الدينية والسلطة، التي تحيل الكلام إلى المحكمة. ولا المعايير الجامدة للثقافة. والمتنمرين باسم اللغة. ولا إدانات الصوابية السياسية، التي تحولت إلى رقيب إضافي على أذهان الكُتّاب. لا يخضع بلال لكل دعوات التعمية على الحقيقة عبر اللغة، فالرواية لا ينبع فيها الألم مما يحدث، بل على حد تعبيره من «إدراك انحطاط هذا الألم».

شخصيات معذبة، أسئلة قلقة

في عامي 2013 و2016 يصدر “طلال فيصل” روايتيه “سرور” و”بليغ”، اللتين يستلهمان سيرة الشاعر “نجيب سرور” والملحن “بليغ حمدي”. وكلتاهما تحملان التيمة نفسها: كيف تطارد مصر أبنائها، وتقمعهم حتى تدفعهم إلى الجنون أو النفي.

ومن حادثة “الكوين بوت”، أشهر قضايا القبض على المثليين جنسياً في مصر، يتحدث “محمد عبد النبي”، في روايته الجريئة “في غرفة العنكبوت”، عن حياة المثليين جنسياً، بوصفهم مختبئين ومدانين.

من جهته يستعير الكاتب “أحمد سمير” لعبة رواية “المرايا” لنجيب محفوظ، راصداً أثر هزيمة الثورة على طيف واسع من الشخصيات.

تطرح الروائية “منصورة عز الدين” في روايتها “بساتين البصرة” التوتر الأزلي ما بين رفض “تراث الأسلاف” برمته وبين رفض “العلمانية الغربية”. ثمة نقطة حائرة، بين مصيرنا القدري وبين مسؤوليتنا عن أفعالنا ومصائرنا. طريق ثالث، منزلة بين منزلتين كما تخبرنا فرقة المعتزلة، وتعيد رواية “بساتين البصرة” تأويله في رؤية مركبة. غير منسحقة تجاه عبادة التراث أو رفضه. منطلقة إلى أسئلة أكثر تعقيداً عن الذاكرة والهوية.

يجد “عزت القمحاوي” نجاته في “النوفيلا”، بوصفها شكلاً أدبياً قادراً على تكثيف لحظات بعينها. ورصد العنف من لحظات بالغة الهشاشة. فيرصد الدولة البوليسية عبر أضعف حلقاتها وأشدها انحطاطاً: المخبرين. ويرصد هزيمة الثورة عبر شخصية لم تعد تسعى إلا إلى إيجاد الحب ومقاومة الوحدة. وتفشل رغم ذلك بسبب مخبر.

الرواية الأبرز والأكثر نضجاً، التي كان حضور ثورة يناير وهزيمتها رئيسياً فيها. لا مجرد محفّز أو خلفية، هي رواية “جوائز للأبطال” لـ”أحمد عوني”. وتأتي أهميتها من أنها تجاوزت أغلب ما يخيف الكتّاب من كليشيهات ثورية. ونجت مما تفعله الثورة تحديداً: تحويل الناس إلى كاريكاتير ثنائي الأبعاد. الرؤية القاصرة التي لا تفهم أو ترى إلا عبر نقطة عمياء. وهي نقطة خصام الحدث الثوري مع الأدب.

الأدب غير الروائي

شهدت مصر في السنوات الأخيرة طفرة في مجال الكتابة غير الروائية. بلغت ذروتها في نص “إيمان مرسال” البديع “عن أثر عنايات الزيات”، الحائز على جائزة “الشيخ زايد”، والذي تضع في ثناياه كهان الأدب في مواجهة مع أديبة مهمّشة. أنهت حياتها بالانتحار، وكذلك في كتاب “أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة” لـ”محمد شعير”، الذي يرصد جذور الرقابة على الأدب من كافة السلطات: الدينية والسياسية. بل ورقابة المجتمع ذاته.

 يكتب “أحمد ناجي” نصه البديع “حرز مكمكم”، الذي يعدّ تطويراً لأدب السجون، بعيداً عن كليشهاته المستهلكة. ويحوّل فيه روايته، التي سجن بسببها، من “حرز يدينه” إلى “حرز يفضح هشاشة من سجنوه”.

 يستدعي “عمر طاهر” في كتابه “صنايعية مصر”، عبر قصص ممتعة، العلامات المضيئة لشيوخ المهن، أو من كانوا وراء أهم الإنجازات في مصر. في بحث عن “الحرفة والاتقان”، الروح المفقودة في البلاد. ويعيد “عمرو عزت” طرح سؤال الأب من زاوية التصالح، في كتاب “غرفة 304: كيف اختبأت من أبي العزيز خمسة وثلاثين عاماً”. إلا أن زاوية تصالحه لا تعني الخضوع للسلطة. لأن  النضج يبدأ من التصالح مع “تروما” العائلة. أو اعتبارها جزءاً حيوياً، صاغ ما نحن عليه، بما فيه من خير وشر,

اللافت أن تلك النصوص، التي صدر معظمها مؤخراً، لم تكسر فقط هيمنة الرواية وإغرائها للناشرين منذ عام 2003, بل كان أغلبها على قوائم الأكثر مبيعاً، رغم جديّة موضوعاتها. وربما كان من بينها الكتب الأهم في السنوات الأخيرة.

رغم أن موضوعي هو الرواية إلا أن نجاح الكتابة غير الروائية بشكل لافت، يقترح سبيلاً يتخذه الأدب المصري حالياً بعيداً عن هيمنة الرواية. وربما رداً على تلك الهيمنة مصرياً وعربياً. خاصة مع سهولة نشر الرواية دون تمييز بين الجيد والرديء. ومع ترسيخ الجوائز العربية لشكل واحد من أشكال الرواية.

خاتمة

في النصوص المطروحة أعلاه بوصفها أمثلة (لا أدعي عبرها الدقة أو الشمول) كانت ثورة يناير وهزيمتها حاضرة في الذهن، دون أن يُكتب عنها بشكل مباشر. لأن الأدب لا يعمل بتلك الطريقة، لكنها ستظل محفّزاً لصراع، وسبباً لمناقشة أسئلة جذرية. وهذا مكسب الثورة الحقيقي والوحيد على أرض الواقع.

هناك حالة نضج أدبي في السنوات الأخيرة، سببها في رأيي التروما ومحاولات التعافي والتوازن. فالمجتمع المحروم من السياسة، أو المتوافق مع استبعاده منها، أجبر الأدباء على النظر إلى نقاط عميقة داخل أنفسهم، بحثاً عما هو جوهري في الأدب.

ربما كان استقرار الاستبداد، بهيئة وحش منتصر، في مقابل مسخ السلطة في الأيام الأخيرة لحكم مبارك، وحالة السيولة التي استمرت حتى عام 2016،  مفيداً للأدب المصري – مع الأسف-  فقد استفادت الرواية المصرية من مغامرتها، وبدأت في حصد الثمار مع نضج كتّابها.  كما أن الكفر بكل ما سبق لم يعد الهاجس الحالي للكتاب المصريين في ظني. بل صار السؤال: ما الذي يستحق الإيمان؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.