تعرض عدة قنوات تلفزيونية مسلسل “الزند ذئب العاصي” من إنتاج شركة “الصبّاح إخوان” اللبنانية، تأليف الكاتب عمر أبو سعدة وإخراج سامر برقاوي. يلعب دور البطولة النجم السوري تيّم حسن، إلى جانب عديد من الممثلين السوريين. وقد يكون هذا أول عمل من إنتاج لبناني كامل طاقم ممثليه من السوريين، على خلاف ما درجت العادة في السنوات الأخيرة، كما أن أحداث المسلسل سورية للغاية، وتم تصويره في عدة مدن ومناطق من البلد، ومنها الساحل وحلب وحماة. منتج العمل قال إنه تعرّض لصعوبات جمّة، منها الطقس، والزلزال الذي ضرب المنطقة، فضلا عن الدمار الذي خلّفته الحرب الدائرة في سوريا منذ عدة سنوات، ما اضطر طاقم العمل إلى ترميم عدة أماكن، منها سوق حلب القديم. كما ذكر المنتج أن ميزانية العمل ليست مدروسة، بل مفتوحة.

منذ عرض حلقاته الأولى أصبح المسلسل حديث مواقع التواصل الاجتماعي، لعوامل متعددة، منها براعة الممثلين وجودة الاخراج والإنتاج، وكذلك القصة التي دغدغت مشاعر كثير من المتابعين، عن البطل الشعبي المتمرّد، الذي يدافع عن المظلومين، ويواجه السلطة بكل الوسائل الممكنة، بما فيها العنف. هذا النوع من القصص لا يفشل أبدا، ويلقى اعجابا و رواجا في كل وقت، وعبر الثقافات المختلقة.

الممارسات العنيفة لـ”عاصي الزند”، والتي تُعتبر في الحال القانوني الاعتيادي جرائم، تصبح عملا اجتماعيا بطوليا في حال التمرّد والثورة على الظلم والتفاوت الاجتماعي والطبقي. يمكن القول إن سلطة الزند، وكذلك أخلاقية أفعاله، تتحقق ضمن حالة استثناء من نوع خاص: رفض القانون، الذي لم يعد يتمتع بهيمنة أخلاقية أو قدرة تنظيمية، واستبداله بسلطة فرد أو مجموعة مسلّحة، تحقق ما تراه عدلا، دون مرجعية مدوّنة، أو مؤسسة يمكن التحاكم إليها. ربما لا توجد ثقافة تخلو من حكايات من هذا الطراز: الشطّار والعيّارون، وسيرة علي الزيبق في الموروث العربي؛ روبن هود في  الثقافة الأوروبية؛ بل حتى أبطال الآداب الجماهيرية الحديثة، مثل آرسين لوبين.  

إلا أن ما يثير بعض التساؤل هو قدرة هذه القصص على البقاء وإلهام المخيّلة في الشرط العربي المعاصر، وخاصة في سوريا ولبنان، البلدان اللذين عرفا كثيرا من “الأبطال الشعبيين” طيلة العقود الماضية، ممن انتهوا في كثير من الأحيان، أو أغلبها، مقاتلي ميليشيات وأمراء حرب. ربما بدأ الميليشياويون ثوارا ومتمردين على الظلم؛ أو مدافعين عن مناطقهم وجماعاتهم الأهلية، ولكن نهاياتهم تكون متشابهة في أغلب الأحيان: محترفي حرب ومرتزقة، يتسببون بكثير من الخراب الاجتماعي، ويتورّطون بعديد من الأعمال الإجرامية وغير المشروعة، وكثيرا ما تعاني منهم جماعاتهم الأهلية نفسها، التي قاتلوا أصلا للدفاع عن حقوقها، أو للاقتصاص من أعدائها. بالتأكيد يتذكّر معظم السوريين واللبنانيين كيف كان المدنيون، في حروب المنطقة التي لا تنتهي، يخرجون مطالبين بقدوم أية دولة أو جيش أو قوة منظّمة لتخلّصهم من “أبطالهم الشعبيين”. الناس في النهاية يطلبون قانونا، أيا كانت نواقصه وسوء استخدامه، بدلا من عدالة “الأبطال” الاستثنائية، التي لا يحددها شيء إلا “شهامتهم”.

يمكن القول إن العالم العربي لم يتوقف يوما عن إنتاج هذا النوع من “الأبطال”، وقصصهم ليست مجرد تراث كما في الحالة الأوروبية، بل واقع معاش، ما يجعل النبش في تاريخ القرن الماضي لسرد قصة من هذا النوع أمرا مستغربا بعض الشيء. فلننظر حولنا في أي دولة عربية، تعاني من الحروب الأهلية أو انهيار الدول، وسنجد كثيرا من عاصي الزند، وإن كان أبطال الواقع أقل وسامة وجاذبية من أبطال المسلسلات. وفي مجتمعات قابلة دائما للانخراط في الحروب الأهلية، بل تصبح دولها نفسها طرفا في تلك الحروب، ما ينتج عددا لا متناهيا من الميليشيات، لا بد من التساؤل عن سبب شعبية هذا النوع من القصص. لماذا ينبهر الناس بأشخاص يرتكبون أفعالا إجرامية، قد تنعكس عليهم سلبا يوما ما؟ وما القيم الفعلية التي يعبّر عنها مسلسل “عاصي الزند”؟ ولماذا يبدو نموذج أمير الحرب أو فتى الميليشيا هو الأنسب للخيال الثقافي في المنطقة؟   

عدالة الميليشيا: السلاح في “ثورات مجيدة”  

ليست سوريا أو لبنان أو ليبيا البلدان الوحيدة التي انتجت كثيرا من أبطال الميليشيات الشعبيين، في أميركا مثلا، إبان الحرب الأهلية 1861-1865، اشتهرت في ولاية ميسوري ميليشيات مثل “عصابة جيمس يونغ” و”بولد نوبيرز” Bald Knobbers، التي ظهرت لملء فراغ السلطة. واختلفت وجهات النظر حول مقاتليها، البعض اعتبرهم ابطالا، وآخرون رأوهم مجرد بلطجية وقتلة (1).

نموذج لأقنعة عصابة “بولد نوبيرز”

إلا أن الميليشيات، وغيرها من التنظيمات العنيفة، لم تظهر فقط لسد فراغ السلطة، بل أحيانا لعبت دورا مقوننا لحماية مصالح مجموعات ما، ونجد في القوانين الأنغلوساكسونية بالتحديد كثيرا من الاجتهادات القانونية لربط الحالة الميليشياوية ببنية النظام السياسي القائم. في بريطانيا مثلا، عقب ما يُعرف بـ”الثورة المجيدة” 1688، التي اندلعت بعد اضطرابات طائفية بين الكاثوليك والبروتستانت، وأدت لعزل الملك المُتكثلك جيمس الثاني، تم تدوين تعديل قانوني عام 1689 يسمح للرعايا البروتستانت بامتلاك أسلحة “تتناسب مع ظروفهم” للدفاع عن أنفسهم. وهكذا أصبح بالإمكان مواجهة أي محاولة لفرض المَلَكية الاستبدادية من خلال تسليح البروتستانت البالغين، الذين لن يشهروا سلاحهم إلا في حالة استثناء يشرعنها القانون.

انتقل هذا المنظور القانوني إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث صدرت كثير من القوانين والمشاريع الدستورية التي تجيز للمواطنين حمل السلاح، والتدرّب عليه، بهدف “إنشاء ميليشيا منظّمة جيدا”، وذلك لعرقلة أية محاولة لـ”الاستبداد الفيدرالي”، وما زال هذا الموضوع إشكاليا في الولايات المتحدة حتى يومنا هذا. (2)

بهذا المعنى يمكن اعتبار الميليشياوية حالة أهلية، قد تكون مرتبطة بالطائفة والمنطقة، ولكن قد تعبّر في كثير من الأحيان عن “حرية المواطنين” ومواجهة الاستبداد. وهي ليست ضد قانونية دائما، بل يمكن أن يكون وجودها في عمق التنظيم الدستوري لأمة ما. إلا أن التأطير القانوني الأنغلوساكسوني للميليشياوية كان يحرّكه هاجس الدفاع عن “المجتمع المدني” في وجه السلطة الاستبدادية، أي العالم البرجوازي بملكياته الخاصة وتنظيماته الاجتماعية والنقابية والمهنية، وثقافته وتقاليده المستقلة، والأصل القانوني في شرعنة الميليشيا هو “مدنيتها الديمقراطية” المشتقة من مجتمعاتها. ولذلك فقد يكون الميليشياويون أبطالا لمصالح جماعتهم، وحريصين على الحفاظ على ازدهارها، وبالتالي استمرار “المدنية” بأخلاقياتها وثقافتها.      

في حالة الميليشياوية في منطقتنا لا يبدو “الأبطال الشعبيون” مدافعين عن مجتمع مدني ما، وإنما عن جماعات عضوية، لا تمتلك تمثيلاتها المنظّمة بشكل مؤسساتي، وإنما مجرد مجموعة من القيم الشعبية، الأبوية غالبا. ولذلك فلا يكتسب فتى الميليشيا حيثيته إلا من تمثيله، بذاته وجسده، دور الأب المسيطر. ومع انحدار نموذج الدولة العربية، خاصة في سوريا ولبنان، إلى حالة ميليشياوية، تُعتبر طرفا في حرب أهلية، تصبح المواجهة ضد “الاستبداد” أقرب لمشاجرة دموية لا تنتهي بين “قبضايات”. كل منهم قادر على نيل انبهار عاطفي غير ممأسس لدى مجموعة ما، تنقل أخباره عبر التواتر الشفوي، حتى في القرن الحادي والعشرين، إذ يصعب إيصال هذه الحالة الأهلية إلى مرحلة التأسيس القانوني أو الأخلاقي أو الأيديولوجي المدوّن. ربما الفن وحده يستطيع التدوين.

يعرف مسلسل “الزند ذئب العاصي” من يخاطبهم حقا، وكيف يخاطبهم، إذ تمتلك البنى الاجتماعية المنتجة للحالة الميلشياوية موروثا حيّا وحافلا بالخيال القابل للاستثمار فنيا، وهو ما نجح به برقاوي وحسن وفريقهما.  

إلا أن الموضوع قد لا يكون مجرد استثمار في موروث أبوي، بل له وظيفة اجتماعية أساسية، تزداد أهميتها في زمن الحروب والأزمات.   

المُستضعف البطل: لماذا يُحبّ الرجالُ المجرمين؟

في بحثهما المعنون “المستضعفون، المتمردون والأبطال” تتحدث الباحثتان ونيكا سكرينجار وتوف بيترسون، من جامعة ستوكهولم في السويد، عن الأسلوب الذي تعيد به السِيَر الذاتية للرجال المشاهير إنتاج الذكورية المهيمنة، عبر ما تسميانه “روايات الإساءة”، معتمدتين على دراسة سير ثلاثة من مشاهير السويد، وصفوا في مذكراتهم وتصريحاتهم قيامهم بارتكاب مجموعة متنوّعة من الأفعال، يرقى بعضها لمستوى الجنح والجرائم. وهم لاعب كرة القدم زلاتان إبراهيموفيتش، ولاعب الوثب العالي السابق باتريك سيوبيرغ، والبروفيسور ليف بيرسون، أشهر عالم جريمة في السويد. إلا أن الرجال الثلاثة يحظون باحترام كبير في البلد، ولا يُعتبر أي منهم “مجرما” في أوساط الرأي العام.

البروفيسور ليف بيرسون

يوصف كل من إبراهيموفيتش وسيوبيرغ وبيرسون بأنهم أولاد من الطبقة العاملة، نشأوا في ظروف صعبة، وقضوا وقتا في رفقة مشكوك بأمرها، وشاركوا في “مقالب صبيانية”، وفي بعض الأحيان جرائم خطيرة. ولكنهم، بفضل موهبتهم وعملهم الجاد والمركّز، استطاعوا أن يرفعوا من شأنهم، وكسبوا مبالغ كبيرة من المال، وأصبحوا أثرياء ومشهورين.

ترى الباحثتان أن الجريمة يمكن أن تكون مصدرا أساسيا لممارسة الذكورة، حتى بالنسبة للرجال المشهورين والناجحين، والذين يحظون باحترام كبير. من المسموح للرجال ارتكاب أفعال “تُعتبر” جرائم من الناحية القانونية، ولكنها لا “تُصوَّر” كذلك في الثقافة الشعبية. هذا الرابط بين الجريمة والذكورة، والذي يعمل على تطبيع الجرائم والتخفيف من تبعاتها، هو مصدر أساسي لإعادة إنتاج البنى الأبوية، بما تتطلبه من مساحة “مقبولة” من العنف. وبالتالي فإن الأبطال الشعبيين المتمردين يلعبون دورا جندريا ضروريا، تتقاطع فيه عوامل كثيرة، ومنها السن والعرق والطبقة والطائفة (3).

وعلى الرغم من محدودية منظور الباحثتين، واعتمادهما فصلا جندريا مبالغا به، تفترضه النظرية التقاطعية التي تعملان ضمن أطرها، فضلا عن تجاهلهما كثيرا من العوامل البنيوية الأساسية، خاصة على المستوى الطبقي والاقتصادي، إلا أنهما تقدّمان مدخلا جيدا لفهم إحدى الوظائف الاجتماعية لسِيَر “الأبطال الشعبيين”، فمع الفرق الشاسع بين السويد المعاصرة، الرائدة في كل المجالات النسوية، والمجتمعات العربية، إلا أن لشعبية هذا النوع من السير دورا متماثلا في إعادة ترميم تصورات وقيم اجتماعية، تبدو في موضع التهديد.

في العالم العربي، حيث اضمحلت المجتمعات الأبوية التقليدية، دون نشوء “مجتمع مدني” أو بنى سياسية وحيز عام على النمط الحديث، يتوق كثير من الناس إلى نوع من التعويض القيمي والخيالي لما لا يستطيعون ممارسته واقعيا، ويعتبرونه الصواب، فيأتي “البطل الشعبي” ليعطيهم بعض الإشباع. ويمكن ملاحظة هذا في أعمال فنية عربية عديدة، من مسلسلات محمد رمضان في مصر، مرورا بـ”باب الحارة” في سوريا، وصولا إلى “الزند ذئب العاصي”، المشترك بين سوريا ولبنان. مجددا، عند “الممارسة العملية” غالبا ما تؤدي محاولات “ترميم القيم” الأبوية إلى ظواهر شديدة الإجرامية، تتم ممارستها ضمن شرط من الفوضى الاجتماعية، مثل قتل النساء، التطرّف الديني، وبالتأكيد الميلشياوية. لا يعني هذا أن الأعمال الفنية هي من يصنع تلك الظواهر، أو أن المجرمين يقومون بأفعالهم تقليدا لما يرونه في الفن، بل أن تلك الأعمال تعبّر بشكل مكثّف عن حالة من الاضطراب الاجتماعي والقيمي، بعد أن غاب النظام الأبوي نفسه، الذي كان يقدّم إطارا مضبوطا للممارسة الاجتماعية والجندرية.   

مع ذلك، فربما كان اعتبار سِيَر الأبطال الشعبيين مجرد ممارسة ذكورية أمرا محدودا وقاصرا من الناحية النظرية والبحثية، فكثير من حكايات المتمردين والأشقياء كانت تحدّيا مباشرا للمجتمع الأبوي، بكل قيمه، فهل يمكن تمييز مثل هذا التحدي في مسلسل مثل “الزند”؟

جاذبية المارق: سرد نقيض المدينة

ربما كان ما يسمى “الشكل البيكاريكي للسرد” واحدا من أفضل نماذج سير الأبطال الشعبيين المتحدية، بدرجات متفاوتة، للأبوية. وقد ظهر في إسبانيا بالقرن السادس عشر، معنيّا أساسا بسرد قصص المارقين (“بيكارو” Picaro تعني المارق الأفّاق بالإسبانية) الذين يعيشون ويواجهون المخاطر بذكائهم وحيلتهم وشجاعتهم، ويمضون بسلسة من الرحلات، غالبا ما يقومون فيها بالسخرية والمحاكاة الساخرة، وكشف ادعاءات العوالم الاجتماعية المتنوّعة التي يجدون أنفسهم فيها.

انتشر هذا النوع الأدبي في جميع أنحاء أوروبا، مع كتاب الأديب الإنجليزي توماس ناش “المسافر التعيس” 1594، في حين كان كتاب “المارق الإنجليزي” لريتشارد هيد، المنشور عام 1665، يمثّل التحقق الكامل لهذا الشكل السردي، الذي قام بوضع ما هو غير مشروع وغير قانوني بشكل خيالي في قلب المدينة الحديثة الناشئة. وصوّر حياة الفقراء والمنبوذين والمتمرّدين بوصفها ساحة إجرامية واسعة من النقابات المنظمة، واقتصاد المقايضة المتماسك داخليا، واللغات السرية، وجماعات ممارسي الدعارة، وكل ما هو مثير لحفيظة السادة البرجوازيين والأرستقراطيين من أصحاب الفضيلة. (4) وصفت البيكاريكية ما هو نقيضٌ تام لـ”المجتمع المدني” البرجوازي الناشئ، وقدّمته بصورة مسلّية وذكية، وكذلك بطولية في كثير من الأحيان. يرفض المارقون القيود الاجتماعية التقليدية، والمنظورات الأبوية عن الفضيلة والأخلاق، ويسعون لتحقيق رغبات مادية وخيالية وجنسية لا تشبع، وربما كان أقرب شكل عربي للسرد البيكاريكي هو سيّر الشطّار والعيارين.

غلاف “المارق الإنجليزي”

عاش المارقون في ظروف انهيار الأبوية الإقطاعية، وبروز أبوية برجوازية، لمّا تفرض بعد هيمنتها الكاملة وفضيلتها المدنية، وإذا قارنا هذا باضمحلال البنى الأبوية العربية، فربما يكون من المنطقي توقّع بروز نوع من السِير والحكايات التي تمجّد حياة المارقين في ظروف الفوضى العربية. إلا أن هذا لا يحدث.

في كل مسلسلات الأبطال الشعبيين، وسير مقاتلي الميلشيات وقادتها، يعود المتلقي دائما إلى القيم الأبوية “الأصيلة”، التي تثبت صحتها في النهاية، مهما كانت التقلبات والأخطاء التي يرتكبها بطل الحكاية. وكأن تلك المسلسلات والاعمال الفنية تريد القول: “لا يصحّ إلا الصحيح، مهما حدث”.

قد يكون لهذا أسباب عديدة، منها أن أدب المارقين هو بالنهاية منتج ثقافي لـ”الأندرغراوند” بمعناه الفعلي، أي قاع أو نقيض المدينة الحديثة، فيما مسلسلات الأبطال الشعبيين العرب منتجات “مينستريم”، بالتأكيد لن تلجأ جهاتها المنتجة إلى تمجيد المجون أو الدعارة أو التمرّد على القيم، وطبعا لا مشكلة في العنف إذا كان ضمن الإطار الخيالي والقيمي المقبول. من ناحية أخرى فمن الصعب توقّع أن تحقق أدبيات وأعمال بيكاريكية أرباحا في سوق التلقي العربي، حتى لو رُفعت عنها القيود الرقابية، لما ستثيره من سجالات وجدل ومعارك ثقافية. كذلك يمكن القول إن الثقافة العربية المعاصرة مالت دوما لقيم ما يسمى “الطبقة الوسطى”، المرتبطة بجهاز الدولة. وركزت على شؤون “الأمة” بأكملها، ضمن سياق التحرر الوطني، ما جعلها تبتعد كثيرا، حتى في أكثر أشكالها يسارية وتمردا، عن وصف حياة المارقين في قاع المدينة العربي، رغم محاولات مهمة، ولكن غير كافية، لوصفها في مدن مثل القاهرة ومراكش وبغداد.

ربما لا توجد فرصة لنشوء سرد بيكاريكي عربي رغم أن الشرط التاريخي مؤاتٍ لذلك. خاصة أن منتجي الثقافة المعاصرين، ممن يعلنون انتسابهم لـ”الأندرغراوند” أو الثقافة المستقلة والبديلة، تبنّوا قيما قريبة لأخلاقيات “المنظمات غير الحكومية” والمؤسسات الثقافية الممولة لأعمالهم، وهي أخلاق لا تقبل البيكاريكية بالتأكيد، ولا تقلّ رفضا لها عن الأبوية العربية.

يبقى أن مسلسل “الزند” ابن مكانه وزمانه أكثر بكثير من معظم مشاريع “التمرّد” القيمي والفني التي نعرفها في “الأندرغراوند” العربي المعاصر. الناس يمكن أن يقعوا بسهولة في حب “ذئب العاصي”، فهو أحد الأسلاف التاريخيين/الأسطوريين، الذين بإمكانهم إعطاء المعنى لما يمكن تسميته “حربا أهلية دائمة” في أغلب المشرق العربي. وإذا كان تغيير الواقع غير ممكن، أو حتى مرغوبا ومفكرا به فعلا، فربما كان إضفاء المعنى عليه هو الفعل الأمتع فنيا.

مصادر

1 – LISA HIX، Were the Bald Knobbers Law-and-Order Folk Heroes or Murderous Thugs?

2- Patrick J. Charles، Origins and historical antecedents

3-Monica Skrinjar & Tove Pettersson، Underdogs, rebels, and heroes Crime narratives as a resource for doing masculinity in autobiographies

4- Eamonn Carrabine، Historical Representations of Crime and the Criminal

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.