الصورة والحركة: هل ستلغي الشاشات المسطحة “إحساس السينما”؟

<strong>الصورة والحركة: هل ستلغي الشاشات المسطحة “إحساس السينما”؟</strong>

“الفوتوغرافيا هي الحقيقة لثانية واحدة، والسينما هي الحقيقة 24 مرة في الثانية”

هذه العبارة للمخرج الفرنسي الشهير جان لوك غودار تلخّص، بتكثيف فلسفي وتقني، ما يمكن تسميته “إحساس السينما”، أي الانطباع المميز الذي نشعر به عندما نرى صورة سينمائية، أيا كان مضمونها، ويجعلنا نميّزها عن الإنتاجات التلفزيونية، وبقية التسجيلات المصورة. 

ما يقصده غودار برقم 24، الذي يحدد “الحقيقة السينمائية” برأيه، معيار 24 صورة في الثانية، الذي اتفق عليه السينمائيون منذ عشرينيات القرن الماضي. فقد قامت السينما على نظرية الصورة المتحرّكة ببساطتها، والصورة المتحركة ما هي إلا مجموعة من الصور الثابتة، تُعرض بالتوالي لتعطي إيهاما بالحركة. قبل عام 1927 لم يكن هذا المعدل ثابتا، بعض السينمائيين كان يصوّر الأفلام بنظام 16 صورة في الثانية، آخرون اعتمدوا نظام 30، وأحيانا 40 صورة في الثانية. ثم استقر الوضع على 24 صورة، تحديدا مع ظهور السينما الصوتية والسينما الناطقة، حين أصبح الشريط المرئي مرتبطا بشريط آخر صوتي، ومفروضا عليهما الاندماج بتزامن معيّن synchronisation. ومنذ ذلك الحين، بات ذلك المعدل ثابتا في معظم الأفلام، حتى تعوّدت عليه الأعين البشرية، وارتبط شرطيا بـ”إحساس السينما”.

هكذا قدّمت السينما لنا العالم من خلال معادلة خاصة للصورة/الحركة، لا تتفق بالضرورة مع “الواقع”، أي الطريقة التي نرى فيها الأحداث الفعلية في عالمنا، ولكنها تعبّر عن طريقة السينما الخاصة في التعبير عن الحياة، وصياغة الخيال والأحلام، وهي الطريقة التي يمكن اعتبارها “الحقيقة” الخاصة بالسينما. 

اليوم يبدو “إحساس السينما” مهددا بجديّة، ليس فقط بسبب تطوّر أدوات ووسائط العرض المنزلي، وأزمة صالات العرض السينمائي، التي تصاعدت بشدة خلال انتشار وباء كورونا، بل لتحديات تقنية وفنية، تفرض نفسها على صانعي الأفلام الأكثر جماهيرية.

أكثر من مخرج خرقوا معيار 24 صورة/ثانية، منذ نهاية العقد الماضي، إلا أن هذا كان مجرّد ظاهرة محدودة، لم تنل استحسان الجمهور والنقّاد، إلى أن جاء فيلم Avatar: The Way of Water في عام 2022 للمخرج الشهير جيمس كاميرون، ليتجرّأ بقوة على “إحساس السينما”، مازجا بين معدلات مختلفة للحركة. فاعتمد على المعدل التقليدي (24) في المشاهد الساكنة والهادئة، والمعدل العالي (48) في مشاهد الحركة والمعارك. والنتيجة نجاح تجاري مذهل.

من جهة أخرى ما يزال صنّاع أفلام جماهيرية آخرون، وعلى رأسهم النجم الأميركي توم كروز، مصرّين على المعايير السينمائية “السليمة”. لم يكتف كروز بالتمسّك بمعيار 24 صورة/ثانية في فيلمه Top Gun: Maverick الصادر أيضا عام 2022، رغم كل إبهاره الحركي، بل عبّر أكثر من مرة عن موقف معارض بشدة لكل تعديل لذلك المعيار.

يعتبر توم كروز وجيمس كاميرون من أشهر صانعي السينما المعاصرين، وهما من أنتجا الفيلمين الأهم بالنسبة لصناعة السينما العالمية في حقبة ما بعد كورونا: “توب غان” و”أفاتار”، الفيلمان الأعلى إيرادا العام الماضي، واستطاعا إعادة الجمهور بكثافة لدور العرض بعد الوباء. وبالتالي فإن تعارض منظورات المخرجين يشير إلى نوع من الخلاف السينمائي، لن يؤثر فقط على مستقبل صناعة السينما، بل على مفهوم الفن السينمائي نفسه.

ولكن ما المشكلة حقا في أي يخرّق فيلم ما معيارا تقنيا عتيقا، موضوعا في العشرينيات؟ وما الذي يدفع صانعي السينما أصلا لهذا الخرق؟ وكيف سيكون مستقبل السينما، في حال لم يعد صانعوها مهتمين بـ”الإحساس” و”الحقيقة” المترسّخة لفنهم؟

ضد “الواقع”: لماذا نفضّل صور السينما؟

في البداية يمكن أن نتساءل: لماذا استقرّ السينمائيون تحديدا على 24 لقطة/ث؟

لأن هذا أقل معدل حركة مرئي يمكنه أن يحافظ على اتزان الصوت، بناء على نظرية الترددات السمعية، والنزول أدنى من هذا الرقم سيحدث تشويها في طبيعة الصوت، عندما يتزامن عنوة مع الصورة. ومن ثم اتفق صنّاع السينما على معيار 24 لقطة بالثانية، باعتباره حدا أدنى، يوفّق بين جودة الصوت، وبين الاقتصاد في تكاليف شريط الخام السليوليد، توفيرا للنفقات. أي أن هذه العادة نابعة أساسا من توجّه تقشفي، وليس لأن 24 لقطة/ث نظام أفضل مرئيا بشكل موضوعي.

لكن مع ظهور كاميرات الفيديو الأنالوج والديجيتال، لم تعد هناك حاجة للتوفير. وباتت المسلسلات والبرامج والنشرات التلفزيونية وبث المباريات الرياضية والمواد الوثائقية يعتمد على معدلات أعلى لحركة الصورة من السينما، وكان 30 و48 و60 لقطة في الثانية المعدل الأكثر شيوعا.

هذا الفيديو يوضّح الفارق بين معدل الحركة التقليدي (24) ومعدلات الحركة الأعلى. اختر مشاهدة الفيديو بأعلى جودة، ولاحظ الفارق في إحساس الصورة.

في الفترة نفسها انتشر شكل للدراما التلفزيونية بمسمى السوب أوبيرا (soap opera)، وهو عبارة عن مسلسلات درامية مبتذلة وفقيرة إنتاجيا، لكن تعتمد في صورتها على معدل حركة كبير بشكل ملحوظ، ربما يذكر منها جيل الثمانينيات مسلسلا أميركيا ذاع صيته بعنوان The Bold and The Beautiful.

الملاحظ أنه كلما زاد معدل الحركة كلما زاد الإحساس بواقعية الصورة، لكن مَن قال إن “الواقعية” دائما مرغوبة؟ هذا الأمر محل شك، خاصة بعدما ارتبطت تلك الواقعية بصريا بالمحتوى الترفيهي التلفزيوني الرخيص. جعل هذا صنّاع السينما أكثر تمسكا بمعدل الحركة التقليدي (24)، حتى مع زحف تقنية الديجيتال، والتي وفّرت كثيرا من نفقات المواد الخام. تغيّرت الكاميرات وبقى معدل الحركة السينمائي المتوارث ثابتا. والسبب واضح: الحفاظ على ما يسمى “إحساس السينما” ضد الواقعية المفرطة، أو ما بات يعرف بإحساس السوب أوبيرا (soap opera effect) غير المرغوب فيه.

ومع نهضة المحتوى التلفزيوني، والطفرة الملحوظة التي طرأت على الدراما الأميركية في السنوات العشرين الأخيرة، بفضل بروز منصات العرض المنزلي، باتت المسلسلات أيضا تفضّل استخدام المعدل السينمائي التقليدي (24 صورة/ث) في أعمال شهيرة، مثل Breaking Bad و Game of Thrones وغيرها.

وعلى النقيض من ذلك، قامت بعض التجارب السينمائية بخلخلة الربط بين إحساس السينما وبين معدل الحركة (24). أبرز تلك التجارب كان فيلم Gemini Man (2019) للمخرج آنغ لي، وسلسلة The Hobbit للمخرج بيتر جاكسون. اللذان اعتمدا على معدلات حركة عالية، لكن التجربتين قوبلا بهجوم من النقّاد، ولم تنل الحالة المرئية فيهما رضا واسعا من الجمهور العام.

ويظل التساؤل: إذا كانت روائع المسلسلات التلفزيونية نفسها صارت تميل  نحو الصورة السينمائية، فلماذا على الأفلام أن تنحدر لصورة الفيديو؟ ما الدافع الفني الحقيقي ليلجأ سينمائيون كبار مثل لي وجاكسون وكاميرون إلى معدل الحركة العالي، رغم “لا سينمائيته” المزعومة؟

السبب تقني بحت: معدل الحركة التقليدي (24) يظلم مشاهد الحركة السريعة، ويحدث فجوات بصرية، ربما لا تميّزها العين بسهولة، لكنها موجودة. ومن ثم فإن معدلات الحركة الأعلى (30) و(48) و(60) قد تكون الأنسب لتصوير مشاهد الحركة تحديدا.

هذا الفيديو يشرح مزايا معدلات الحركة العالية بشكل بصري وتجريدي مقنع.

تلك هي المعضلة إذن، يجب التضحية بشيء لكسب شيء آخر: إما إحساس السينما مقابل مشاهد حركة أقلّ تفصيلا، وإما كثير من التفاصيل التي تنال من “إحساس السينما”.

“الواقعية المفرطة”: هل “يصلح” الذكاء الصناعي السينما؟

نجاح تجربة كاميرون في فيلم “آفاتار” ليس السبب الوحيد الذي يهدد بإنهاء معدلات الحركة التقليدية لصالح الواقعية المفرطة مستقبليا، هناك سبب أهم وأخطر، وهو الشاشات المنزلية المسطّحة حديثة الصنع.

لو أنك حصلت على إحدى الشاشات بنقاء عالي (High Definition) أو نقاء فائق (4K-UHD) في السنوات الخمس الأخيرة، فاعلم أنك بمجرد تجهيز شاشتك للعمل، وعرض أفلامك المفضلة عليها، ستلاحظ إحساس “السوب أوبيرا”، وربما لن تفهم السبب، أو تظنه تطوّرا جديدا، أو أحد الأعراض الجانبية للنقاء العالي والفائق، الذي لم تجرّبه من قبل. لكن هذا ليس بحقيقي.

الأمر يتلخّص في خاصية مشاهدة، تفرضها عليك إجباريا كل مصانع الشاشات الكبرى في العالم، ولا علاقة لها بالـHD. الخاصية تأتي بمسميات عديدة، مثل motion smoothing أو motionflow أو  trumotion أو video interpolation بحسب العلامة الخاصة بكل مصنع، من سامسونج إلى سوني إلى إل جي.

تلك التقنية تقوم بتعديل معدلات الحركة الأصلية للمواد المعروضة، لتتوافق مع المعدلات العالية لكل شاشة. المعدل الشائع الآن في شاشات العرض المنزلية هو 48 صورة/ث. وتعمل تلك الخاصية عن طريق خوارزمية ذكاء اصطناعي متطوّرة، تقوم بتوقّع الصورة التي تتوسّط المسافة بين كل صورتين، لتزرع صورة مُخلّقة آليا بينهما، وبالتالي يتضاعف عدد الصور المعروضة في الثانية الواحدة من 24 إلى 48. الأمر الذي قد يجعلك لا تميّز بين فيلم The Godfather ومسلسل The Bold and The Beautiful. وستصدم أنك دفعت أموالك في شاشة متطورة، كي تشاهد التحف السينمائية بصورة المسلسلات الرخيصة. قد تتعوّد الأمر، وقد لا تلاحظ المشكلة بالأساس، ولعلك تلاحظها لكن تتكاسل عن حلها. وهنا مكمن المشكلة: أنت تشاهد عملا فنيا بطريقة مغايرة لما أراد صانعه.

مقاومة “التشويه”: هل يستمع الجمهور للتحذيرات؟

غاب كل من توم كروز وجيمس كاميرون عن حضور حفل الأوسكار الأخير، رغم ترشّح  فيلميهما للجوائز، ربما لأنهما ما يزالان منشغلين بالفن أكثر من التتويجات المرتبطة بالصوابية السياسية. وما يجمعهما أيضا أن كليهما له موقف معلن في قضية “إحساس السينما”، لكنه موقف متناقض بعض الشيء.

فبينما سارع كاميرون للاستفادة من تقنيات الصورة/الحركة الجديدة، كان كروز من أوائل صنّاع السينما الذين انتبهوا لخطورة ما ذكرناه حول الشاشات المسطحة، التي تباع في الأسواق بخواص مرئية معدّلة. فظهر سنة 2018 بصحبة كريستوفر مكواري، مخرج فيلمه “توب غان: مافيريك”، وحذّرا الجمهور من تلك التقنية، التي تشوّه رؤية الصانع الأصلية، وتجعل الأفلام تبدو كمحتوى الفيديو.

ورغم كل تلك التحذيرات فلا بد من التأكيد أن مصانع الشاشات الكبرى لم تفرض تلك الخاصية بهدف شرير، بل على العكس، لتقديم  “خدمة” للمشتري، تعبّر عن وجهة نظر صانعي وسائط العرض المعاصرين في أسلوب المشاهدة الأفضل، خاصة للاستخدامات المتعلّقة برؤية مباريات كرة القدم، وألعاب البلاي ستيشن، التي تكون فيها معدلات الحركة العالية أفضل بكل تأكيد. إنما الأفلام أمر آخر، ولا يمكن فرض معايير صناعة الترفيه المبسّطة عليها.

الخبر الجيد أن تلك الخاصية يمكن إلغاؤها ببساطة من أي شاشة، بمراجعة سريعة للكتالوج. لكن لإصلاح المشكلة ينبغي إدراك وجودها من الأساس، وهو أمر مشكوك فيه، فكثير من المشاهدين في بيوتهم قد لا يهتمون بتلك التفاصيل، أو يعتبرونها من شأن المختصين. وهذا أمر محبط فعلا.

سيظل الموضوع محل جدل في السنوات القادمة، وأيا كان موقفك أو تفضيلاتك البصرية لمعدلات الحركة الأنسب، أو ما سوف يتم تعميمه في الصناعة مستقبلا، تظل بعض الاعتراضات وجيهة وفي محلها. تعديل معدل الحركة لأفلام تم إنتاجها في الماضي، وعرضها بشكل مختلف عما أراده صانعها الأصلي، لا ينبغي أن يسمى تعديلا أو تنعيما أو تحسينا، بل تشويها!

وإذا كان غودار فيما مضى قد أكد أن “الحقيقة” تحتاج إلى 24 صورة فقط، فإن مصانع الشاشات المسطحة قررت أن تضيف 24 صورة إضافية لـ”الحقيقة”، ولكن من منظور الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته، ما سيعني أن معايير أخرى ستفرض نفسها على وعينا للصورة/الحركة، وإحالاتهما إلى العالم، وبالتالي على “الحقيقة” نفسها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.