الصور الطاهرة: كيف “ضربت” الأخلاق السينما العالمية؟

الصور الطاهرة: كيف “ضربت” الأخلاق السينما العالمية؟

ما الذي وصل بصناعة السينما العالمية عموما، وهوليوود خصوصا، لحالة لم يكن يتوقعها أشد المتشائمين؟ عدد الأفلام الجيدة سنويا في تناقص واضح؛ حفلات الأوسكار لم تعد جاذبة للمشاهدة؛ مهرجانات السينما تتقوقع حول نفسها؛ معظم الأفلام تحوّلت لدروس مملة عن التعايش وتطبيع وجود الفئات المهمشة؛ منظومة صناعة النجم تراجعت، فانقرضت الهالة وتلاشت الكاريزما، بعد تميّز نجوم جيل التسعينيات؛ الجنس والحميمية في الأفلام اختفيا تقريبا، لصالح “سينما نظيفة” أبطالها من “الخارقين”؛ والكوميديا باتت مصطنعة أو غير موجودة. السينما لا تعيش اليوم سوى على الاستثناءات والفلتات.

المؤكد أن عوامل عدة ساهمت في الوصول لهذه الحالة، ومنها تغيرات عظمى في عادات المشاهدة، وثورة رقمية بدلّت طبيعة الوسائط الصوتية والمرئية. لكن من المؤشرات التي لا يمكن تجاهلها العامل السياسي-الاجتماعي، وبالتحديد صعود ثقافة الصحوة الأخلاقية Woke Culture، بالمصطلح الذي يتبنّاه مؤيدو تلك الثقافة، أو الصوابية السياسية Political Correctness، وهو المصطلح الذي يتبنّاه المعارضون. فـ”الصوابية السياسية” لفظ ملغّم، ينتقد نفسه، لأن “السياسي” فيه معطوف على “الصوابي”، ما يعني أنه صواب مزيّف بزيف السياسة والدبلوماسية. نستخدم المعنى نفسه في بلداننا العربية، حين نقول: ذاك الشخص دبلوماسي، فنعني أنه يخفي وراء لباقته وتهذيبه بعضا من الكذب، لتمرير مصالحه. وهذا اتفاق ضمني بأن الكذب والحساسية الخطابية لو كانا مقبولين في السياسة، فهما مجرد ادعاء غير مرغوب في المجالات الأخرى، خاصة الإبداعية.

ذلك التيار “الصوابي”، بتوجهاته الجديدة، وهيمنته الواضحة على الثقافة والإعلام، ومحاولته فرض تلك التوجهات، ليس على المجتمع الأميركي وحسب، بل على كل سكان الكوكب، من خلال أدوات الثقافة الشعبية العابرة للبلدان، بات يشار له بأصابع الاتهام، لشروعه في إفساد مجالات الفن والثقافة والتعليم والبحث العلمي، تحت شعارات الأخلاق. ما يهدد، بنظر كثيرين، الأسس الأهم والأفضل للحضارة الغربية: الحريات، وتكافؤ الفرص، والحياد، وتعظيم المنفعة، بالمعنى المجرد لكل كلمة، وذلك مع تنامي سلطة أخلاقوية جديدة، ترتدي ثوبا تقدميا، ومدفوعة بعقدة ذنب على جرائم تاريخية، ارتكبها من يوصفون بـ”الذكور البيض الأوائل”، فأصبحت منسحقة تماما أمام كل ابتزاز قيمي تتعرّض له بأثر رجعي.

يمكن تقسيم أثر الصوابية السياسية على الفن إلى خمسة محاور: أولا سياسات الهوية (التمثيل العرقي والجندري واللوني)؛ ثانيا لغة خطاب مفرطة الحساسية؛ ثالثا محاولات طمس بعض الإرث التاريخي، لارتباطه بزمن مأسوف عليه؛ رابعا ثقافة الإلغاء، التي حلّت محل السلطات القضائية؛ وخامسا بيوريتانية جديدة، ترتد لما قبل الثورة الجنسية في نهاية الستينيات. كيف يظهر فعل هذه العوامل؟ وأي سينما قد تُنتج؟  

سياسات الهوية: لماذا يجب أن تكون كليوبترا سوداء؟

يُقال إن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة، هذا ينطبق جدا على المحور الأول من  المحاور الأخلاقية، التي أفسدت الفن مؤخرا، أي سياسات الهوية Identity Politics، المفهوم الذي نشأ بغرض تجميع الفئات المهمشة، من أجل فرض أجندات معلنة أو خفية، تحاول إعادة الاعتبار لتلك الفئات بعدّة وسائل، أبرزها التمثيل الهوياتي داخل المنتجات الثقافية، وهو هدف نبيل في ذاته، إذ سيجعل الأفلام والمسلسلات تحتوي على شخصيات رئيسية، من الأعراق والأجناس والألوان والتوجهات الجنسية الأقل تمثيلا، لكن المبالغة في فرض ذلك التوجه أتت بنتائج مجحفة من النواحي الفنية، وعواقب عكسية من حيث القضيتين السياسية والأخلاقية نفسيهما، لأن الناس بدأت تشعر أنها تلقّن قيما جاهزة، على هيئة فن.

وثائقي “الملكة كليوباترا” الأخير، الذي أنتجته الفنانة الأميركية جادا سميث، وعرضته منصة نيتفليكس، ليس إلا الحلقة الأحدث، في سلسلة طويلة وفاضحة لتطبيق سياسات الهوية في الأفلام، ليس فقط باختيار ممثلة من أصحاب البشرة السوداء، لتجسيد دور ملكة مصرية من أصول مقدونية يونانية، ولكن بتحويل الفيلم ذاته من قصة عن حياة كليوباترا، إلى قصة نقد (تصويب) عرقي لشكل كليوباترا المتوارث في السينما، أي بروباغاندا مباشرة عن تاريخ الأعراق، استنادا على فرضيات العلم الزائف، التي تتبناها حركة المركزية الأفريقية.

وهنا نعود لأصل المشكلة: الشطحة الفنية، التي شطحتها جادا سميث في فيلمها، جاءت أساسا مدفوعة بخطاب إعلامي ونقدي وصحفي يبارك ويغذي أية أفعال مماثلة في حقل سياسات الهوية. ليس ذلك فحسب، بل أيضا يمارس إرهابا على الأعمال التي لا تلتزم بالكود الجديد، الذي أقرته مجتمعات الصوابية السياسية، وكان آخر ضحاياه فيلم Super Mario، إذ أن فيلم الرسوم المتحركة هذا، المبني على شخصيات كارتونية مأخوذة من ألعاب الفيديو، لم يقدم لنا إلا شخصيات بيضاء غيرية الجنس، فتعرّض للهجوم الصحفي.

المزايدات نفسها تتكرر سنويا، مع إعلان ترشيحات الجوائز السينمائية المختلفة، وعلى رأسها جائزة الأوسكار، إذ تنشط أسئلة من عيار “لماذا كل المرشحين في هذه الفئة من البيض؟” و”لماذا كل المرشحين في ذلك التصنيف من الذكور؟” بدلا من التساؤل عن الأفضل أو الأحق أو الأجدر. لدرجة وصلت بالأكاديمية المانحة لجوائز الأوسكار بإصدار قواعد جديدة، تمنع الأفلام من الترشّح إذ لم تراع كوتا محددة من التمثيل العرقي واللوني والجندري.

لو كنا نتساءل عن سبب التدمير الحاصل لما عُرف قديما بمنظومة النجم، فالإجابة هي سياسات الهوية، أساليب الكاستينغ (اختيار الممثلين) الجديدة باتت معنيّة بكيفية توزيع الأدوار وفق ضوابط الصوابية، وتجنّب المزايدات الصحافية والهجوم الإعلامي، لا وفق الموهبة والتميّز والكاريزما.

إلا أنه من الملاحظ أن كل تلك الهوياتية، وإعادة الاعتبار لـ”المهمشين”، تبقى محدودة بحدود أميركا وأقلياتها. لم يفكر القائمون على فيلم كليوباترا مثلا بالمصريين، وأساليبهم في النظر لهويتهم.

حساسية الخطاب: فلنصفع المضحكين!

نصل إلى المحور الثاني في تكبيل الفن المعاصر من قبل الصوابية السياسية، وهو حساسية الخطاب، كل شيء تقوله الآن قد يخضع لتأويل يغضب فئة ما، وآراؤك العادية في الحياة قد تستخدم ضدك، لذلك ربما عليك أن تؤثر السلامة فلا تقول شيئا. أشهر ضحايا ذلك كانت جي كي رولينج، مؤلفة روايات هاري بوتر، بعد أن كتبت تغريدة تنتقد فيها هوس الضمائر والمصطلحات الجندرية الجديدة، فقوبلت بهجوم صاخب، واتهامات بالهوموفوبيا والترانسوفوبيا.

لكن اذا كنا نتحدث عن حساسية لغة الخطاب، فبالتأكيد أبرز الضحايا سيكونون من فئة الكوميديانات، فالنكات أصبحت أصعب من أن تحتمل اليوم. صفعة ويل سميث الشهيرة في حفل الأوسكار ضد كريس روك  لم تكن حدثا عابرا أو استثنائيا، بل تعبيرا صادقا عن ضيق صدر المجتمع تجاه النكات والكوميديا بشكل عام. مضايقات من نوع مشابه استهدفت كوميديانات على غرار ريكي غيرفيز وكيفن هارت، اللذين تعرّضا في نكاتهم للفئات “المهمشة”، فلم يسلما من الهجوم، الذي وصل حد إلغاء العروض والحفلات، وخسارة بعض الأدوار والأعمال.

ووصل الأمر لذروته مع الكوميديان ديف شابيل، الذي تعرّض لحادث مشابه لصفعة ويل سميث، حين صعد أحد حضور عروضه الكوميدية إلى المسرح، وحاول الاعتداء عليه بالضرب، وبسؤال الجاني عن الدافع وراء هجومه، قال إنه يشعر بالإهانة من نكات شابيل، التي تستهدف “مجتمع الميم”. الجدير بالذكر أن آخر عروض ديف شابيل، لصالح منصة نيتفليكس، تعرّض لنقد عنيف، واتهامات باحتقار مجتمع الميم. وتظاهر عشرات من موظفين نيتفليكس ضد إدارتهم، بسبب سماحها ببث هذا العرض، وطالبوا الشركة بوقف التعاون مع شابيل.

حوادث تعرّض الكوميديانات للتعنيف والاعتداء، ومحاولة تكميم أفواههم، لأن المجتمع الأميركي بات حساسا تجاه النكات، أدى لاختفاء الأفلام الكوميدية جيدة الصنع. من الصعب  تذكّر فيلم مضحك بحق في السنوات الأخيرة. الكُتاب خائفون والنجوم متوترون، والتابوهات تتضاعف وتشلّ حركتهم. هذا ما عبّرت عنه النجمة جينيفر أنيستون، في تصريح حديث عن مسلسلها الشهير Friends، والطريقة التي يتم تقييمه بها من الأجيال الجديدة، المتأثرة بخطاب الصواب السياسي، إذ دخل المسلسل ضمن دائرة الأعمال المسيئة، لأن نكاته عن الفئات المهمشة لم تمرّ عبر فلاتر الصحوة الأخلاقية بشكل كافٍ. “الاقتراب من الكوميديا اليوم بات صعبا، لأن الكوميديانات باتوا ممنوعين من السخرية من أمور الحياة”، تقول أنيستون.

لا يمكن لكوميديا بلاستيكية، مراعية للحساسيات، وتتصرّف وفقا لضوابط “شرعية” ما، ان تكون مضحكة، لأنها ببساطة قد انتزعت من الحياة، وقُيّدت بالأيديولوجيا.

طمس التاريخ السينمائي: احذر من الأفلام القديمة!

إعادة تقييم الأعمال الفنية القديمة، على ضوء المستجدات القيمية للمجتمع، هي المحور الثالث من آثار التدمير الثقافي للصوابية السياسية، الأمر لم يتوقف عند الكوميديا ومسلسلات من عيار Friends و Seinfeld، اللذان تلقّا معظم الضربات. بل وصل إلى العصر الذهبي للسينما. إذ اعتمدت منصات المشاهدة الرقمية أسلوب عرض تنويهات قبل بعض الأفلام الكلاسيكية، مهمتها التحذير من محتوى تلك الأعمال. وقد بدأت تلك السياسة بعد الاضطرابات التي أثارتها حادثة مقتل جورج فلويد على يد الشرطة الأميركية، مع تصاعد حملة “حياة السود مهمة”.

هذا مثلا كان نص التنويه الذي استخدمته منصة ديزني العالمية، قبل عرض أفلامها الكلاسيكية، مثل “دامبو” و”بيتر بان”: “هذا الفيلم قد يحتوي على بعض الأفكار المسيئة لجماعات أو ثقافات. هذا السلوك كان خطأ في الماضي، وما زال خطأ إلى الآن، وبدلا من أن نحذف المحتوى قررنا عرضه للتعلّم منه، وبدء نقاش مثمر، بهدف صنع مستقبل أكثر تسامحا”.

في الوقت نفسه، الذي قررت فيه منصة ديزني عرض مثل تلك التنويهات الأخلاقية، قامت منصة “HBO Max” بإزالة بعض كلاسيكياتها، وبدأت بفيلم ذهب مع الريح (1939)، المصنّف ضمن أهم عشرة أفلام في تاريخ السينما الأميركية، والذي اختفى فجأة من المنصة، بعد نشر مقال نقدي لاذع في جريدة لوس انجلوس تايمز في عام 2019، يتّهم الفيلم بترويج العنصرية. وبعد أسابيع من رفعه، اضطرت المنصة إلى إعادة الفيلم مرة أخرى، وذلك بسبب حملة مضادة، شنها جمهور الفيلم وبعض النقّاد، الذين ما يزالون يقدّرون الأهمية التاريخية البالغة للفيلم. صحيح أن “ذهب مع الريح” عاد إلى المنصة مرة أخرى، ولكن HBO قررت أن تسبق الفيلم بتنويه من عينة: “لقد شعرنا أنه من عدم المسؤولية عرض هذا الفيلم دون شرح وإدانة لمحتواه”.

محاولات طمس الإرث الفني الشائك أخذ شكلا آخر في قائمة أفضل 100 فيلم في التاريخ، التي يصدرها معهد الفيلم البريطاني كل عشرة أعوام، عبر مجلة “سايت أند ساوند”، نتيجةً لاستفتاء يشارك فيه مئات النقاد وصنّاع الأفلام، في تقليد متجدد منذ أربعينيات القرن الماضي. لكنّ نتائج العقد الجديد، والتي نُشرت في نهاية عام 2022، أثارت جدلا كبيرا، لأن الفيلم الذي احتل المركز الأول هذه المرة كان Jean Dielman، للمخرجة البلجيكية تشانتال أكيرمان، وهو فيلم ذي محتوى راديكالي فنيا، لأنه لا يحكي قصة عادية، بل يتابع روتين الحياة المنزلي لامرأة مكتئبة، إلا أن الأمر المثير للجدل أن الفيلم قفز عشرات المراكز، منذ الاستفتاء الأخير عام 2012، إذ اكتشف النقاد فجأة أنهم أمام الفيلم السينمائي الأعظم في التاريخ! أعظم من “فيرتيجو” و”المواطن كين” و”الأب الروحي” و”سارق الدراجة” و”لورانس العرب” و”أوديسة الفضاء” و”تشينا تاون”. (بعض تلك الأفلام لم يدخل القائمة حتى) إذ وصفت المجلة فيلم أكيرمان بأنه “علامة في السينما النسوية”، واحتفل ناقد الغارديان بفوزه قائلا: “إنه إنجاز كبير أن تحتل امرأة قمة هذا الاستفتاء”.

اختيار ذلك الفيلم باعتباره الأفضل في التاريخ، لم يكن الأمر الأغرب في الاستفتاء، فنتائج أخرى عديدة كانت محل تساؤل، منها أفلام دخلت القائمة من العدم، أو قفزت عددا من المراكز دون سبب فني واضح، سوى أن وراءها موضوع أو صنّاع على صلة بالفئات “المهمشة”. ما يعد محاولة لإعادة كتابة تاريخ السينما، بتصعيد أفلام على حساب أفلام، وبمعيار بعيد عن الأفضلية والجدارة الفنية. وكأنها رسالة تقول لك: “انس كل الأفلام التي أخبرناك بعظمتها في العقود الأخيرة”.

لاحظ البعض أن القائمة تخلو من فيلم واحد لمخرجين عظماء من أمثال: هوارد هوكس، رومان بولانسكي، لويس بونويل، تيرينس ماليك، ديفد لين، روبرت ألتمان، بول توماس أندرسون، مايكل هانيكه، ديفد فينشر، الأخوين كوين، ستيفن سبيلبرج ..الخ. يبدو أن تاريخ السينما تعاد كتابته بما يتفق مع “حساسية” حركات أيديولوجية معاصرة، لا ترى في الفن والعالم ما هو أبعد من انحيازاتها.

ثقافة الإلغاء: عدالة “هياج القطيع”

حساسية الخطاب وطمس التاريخ يقودان بطبيعة الحال نحو المحور الرابع، وهو ثقافه الإلغاء ‏cancel culture. بعض المبدعين تم شطب أسمائهم، إما لأنهم قالوا تصريحات منافية لكود الصوابية، وعلى رأسهم كاتبة هاري بوتر. وإما بسبب تفاصيل في حياتهم الشخصية، سواء من أدينوا بجرائم فعلية أمام القضاء، أو من لم يدانوا بشيء، سوى شبهات تتردد دون دليل. وتلك هي المشكلة، أن معيار الإلغاء وثقافة النبذ لا تخضع سوى لمحاكمات الرأي العام. لسنا حتى بصدد جدليات عميقة فلسفيا حول فصل الفن عن الفنان، لأن بعض الفنانين المنبوذين اليوم لم تثبت ضدهم أي جرائم. والمثال الأشهر وودي آلن ورومان بولانسكي. الاثنان موضوعان في نفس السلة، رغم أن القضاء قام بتبرئة الأول بينما أدان الثاني. وهناك أيضا مايكل جاكسون الذي يعامل نفس معاملة المغني الأميركي أر كيلي، المدان باغتصاب عديد من الفتيات القاصرات.

مشكلة ثقافه الإلغاء الحقيقية ليست في إنها لا تفصل الفن عن الفنان، هذه محض رفاهية فكرية في أيامنا، المشكلة الحقيقية أن أنصار تلك الثقافة ليس لديهم الوقت للتفكير، أو لتقييم كل حالة على حدة. الأمر خاضع لدرجة هياج القطيع أو mob mentality.

من أعجب الوقائع في هذا السياق، التصريحات التي أدلى بها تييري فيرمو، رئيس الدورة الحالية من مهرجان كان، بقوله إنه ضمّ إلى قائمة أفلام المهرجان فيلما من بطولة جوني ديب، باعتبار أن النجم الهووليودي تمت تبرئته من التهم المنسوبة إليه بتعنيف زوجته، حسنا ماذا لو كان قد أدين؟ ما علاقة هذا بجودة فيلمه فنيا؟ والأغرب أن فيرمو عندما سُئل عن استبعاد فيلم لوودي آلن من المهرجان، قال إنه رفض مشاهدة الفيلم، لأن وجود آلن داخل أقسام المهرجان قد يسبب ضجة هو في غنى عنها. وهنا السؤال: ما هو المعيار الذي يعتمده؟ هل هو معيار كلمة القضاء كما الحال مع جوني ديب؛ أم معيار الصداع الذي قد يأتيه عبر منصات التواصل الاجتماعي، كما الحال مع وودي آلن؟ هكذا يبدو أن المهرجان السينمائي الأكبر قرر نبذ مبدع لم يدن بأي جريمة، لمجرد أن وجوده قد يغضب المراهقين على موقع تويتر.

البيوريتانية الجديدة: جنس بما لا يخالف شرع “منسقي الحميمية”

المحاور الأربعة السابقة كلها تقود ناحية تصاعد نبرة رقابية صارمة على الفن والسينما في الغرب، ورغم أن الرقابة اليوم ليست رقابة نظامية أو تابعة لجهات حكومية، إلا أنها رقابة الرأي العام أو الرأي “اليساري التقدمي” العام. وهي رقابة أيديولوجية، وكل الرقابات قامت على أسس أيديولوجية، سواء محافظة أو تقدمية.

وإذا كنا نتحدث عن الرقابة، فعدوها التاريخي الأول كان الجنس، كثير من المتابعين والمعلقين لاحظوا الشيء نفسه في العقد الأخير، وفي السينما الجماهيرية تحديدا: الجنس لم يعد موجودا، الأفلام باتت نظيفة! مخرجون كبار مثل ستيفن سودربيرغ وبيدرو ألمودوبار انتقدوا ذلك الوضع في تصريحات نارية، والبعض يفسّر الظاهره بكونها نتيجة طبيعية لصعود أفلام الأبطال الخارقين ومجلات الكوميكس، التي تستهدف بالأساس جمهور الأطفال وغير البالغين، وتريد تعظيم مكاسبها في دور العرض، من خلال نيل تصنيف عمري مناسب للمشاهدة العامة.

لكن الظاهرة تمتد لأعمال فنية ذات تصنيف مختلف. لدينا عدد من الفنانين خرجوا بتصريحات ضد المشاهد الحميمية في الفترة الأخيرة، منهم بين بادغلي، بطل مسلسل You، الذي طلب من صناع الجزء الأخير من المسلسل حذف كل مشاهده الجنسية؛ لأنه يخشى أن يشاهد ابناؤه تلك المشاهد حين يكبرون.

المخرج الهولندي بول فيرهوفن، الشهير بأفلام جريئة مثل “روبوكوب” و”الغريزة الأساسية”، خرج بتصريحات مناوئة للظاهرة منذ عام، ينتقد فيها ما وصفه بـ”البيوريتانية الجديدة” في أفلام هوليوود، التي جعلت الجنس ممنوعا. ووجه سهام نقده لسلاسل أفلام الأبطال الخارقين، التي تنتجها شركة مارفل، وكذلك أفلام وجيمس بوند. الأولى معروفٌ سبب تخليها عن الجنس، لكن الثانية كانت تعتمد عليه بشكل كبير، منذ تأسيسها منذ الستينيات، فما الذي طرأ عليها؟ يتساءل فيرهوفن.

ليس هذا وحده ما يكبّل الجنس في الأعمال الفنية المعاصرة، فـ”التقدميون” اليوم لديهم مشاكل مع الجنس، ربما تفوق مشاكل المحافظين والرجعيين، لأنه بصورته الذهنية المبدئية يكرّس للتوجه الغيري، في عصر الترويج للمثلية واللاجنسية، وكذلك يتعارض مع جوهر مبادئ الموجة النسوية الرابعة، وعرضه على الشاشة قد يؤدي لـ”التشييء” والتسليع وامتهان جسد المرأة.

الأمر بدأ مع تصريحات حديثة، أدلت بها الممثلة ماريا شنايدر، بطلة الفيلم الإيروسي الشهير “التانغو الاخير في باريس”، إذ اتهمت مخرج الفيلم برناردو بيرتولوتشي وبطله مارلون براندو، بعد سنوات من تصويره، بتنفيد مشاهد جنسية مرتجلة خارج النص المكتوب، أبرزها مشهد الاغتصاب الشهير باستعمال قالب الزبدة. بعض التفاصيل فاجأت شنايدر أثناء التصوير، وقيل إن المخرج والبطل تعمّدا ذلك، كي يستخلصا من البطلة ردود فعل طبيعية، وهو حدث شائك أخلاقيا بالفعل، ويصنّفه البعض انتهاكا حقيقيا، يرقى لدرجة الاغتصاب الفعلي. لكن تصريح شنايدر أحدث هزة في الأوساط السينمائية، بخصوص تصوير تلك المشاهد، وبسببه تم استحداث مهنة جديدة في صناعة السينما، وهي مهنة منسّق الحميمية intimacy coordinator، ووظيفته مراقبة تنفيذ مشاهد الجنس في الأفلام، وصناعة كريوغرافيا لها، والتأكّد من التزام الممثلين بنص الحميمية المتفق عليه، دون تجويد او ارتجال. وبالفعل قامت شركات الإنتاج والأستوديوهات بتوظيف عدد من هؤلاء في الأفلام، والنتيجة أن الأفلام صارت خالية من الجنس، سواء المنسّق أو المرتجل. الفكرة نفسها صارت محل ريبة.

ختاما، يصعب الفصل بين المحاور الخمسة السابقة، فكلها تنبع من البذرة نفسها، أي إصلاح الأخطاء بأخطاء أخرى، والنوايا الحسنة التي تقود للركود والبلادة العامة. مرّت هوليوود بمراحل تاريخية صعبة من التزّمت، مثل كود “هايز” الرقابي المسيحي والمكارثية وغيرها، إلا أن كل تلك الوقائع تم تجاوزها لأن الكتلة الصلبة من الفنانين وقتها اختارت المقاومة، لكن الكتلة الصلبة الآن باتت عنصرا ذاتي الرقابة، وهي من تخصي نفسها بنفسها باسم الأخلاق.

من المفهوم أن القيم والحساسيات الأخلاقية تتغيّر عبر الزمن، وهذا يدفع لإعادة قراءة التراث الفني بأعين جديدة، ولكن هذا في حالتنا المعاصرة لا يتم عبر جدل مجتمعي فعلي متعدد الأصوات، بل نتيجةً تغليب أيديولوجية جماعات ضغط معينة في بلد واحد. ودائما ما كان تغليب الأيديولوجيا مصرعا للفن.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.