القومية وكرة القدم: هل يمكن لـ”العرب” الاستفادة من التجربة الألمانية؟

القومية وكرة القدم: هل يمكن لـ”العرب” الاستفادة من التجربة الألمانية؟

أثارت موجة الفرح العربية بإنجازات المنتخب المغربي في مونديال قطر كثيرا من الأسئلة، التي طُرحت غالبا بشكل استنكاري: أليس هذا الفرح مجرّد رواسب للقومية العربية، بتراثها الثقيل من القمع والهزائم والأيديولوجيات الخشبية، فضلا عن سماتها القَبَلية والدينية؟ ولماذا “تعريب” الانجاز المغربي أصلا؟ ألم يؤكد وليد الركراكي، مدرّب المنتخب المغربي، أن انتصار المغرب هو انتصار قاري أساسا، ومنجر للمنتخبات الإفريقية، كما يجب أن تكون الأمور وفقا لتصنيفات الفيفا؟ لماذا إذا يحشر القوميون العرب أنفسهم في انجازات غيرهم؟

هذا النوع من الأسئلة عن القومية ليس جديدا في عالم  كرة القدم، خاصةً في مسابقاتها الدولية. كما أنه ليس حكرا على “العرب”. فالقومية، التي تفجّرها منتخبات بقمصان وأعلام وطنية، تثير السخرية والمخاوف حول العالم، وخاصة في أوروبا، التي عانت كثيرا من ماضيها القومي، وما ارتبط به من إشكاليات، مثل العنصرية؛ العلاقة مع “الآخر”؛ فهم التاريخ و”روح الشعوب”؛ الأبوية واضطهاد النساء.  

مثل هذا الجدل سيكون موطنه الأبرز بالتأكيد ألمانيا، خاصة في العام 2006 عندما استضافت كأس العالم؛ وكذلك في العام 2014، حين فاز المنتخب الألماني بالبطولة العالمية، والنقطة الخلافية الأكبر كانت العَلَم الألماني، بكل دلالاته التاريخية والقومية والثقافية. ألا تشكّل الكرة فرصة لإعادة تدوير النفايات القومية؟ سؤال طرحه كثيرون في البلد الذي اعتبر قوميته وبالا عليه وعلى الآخرين، منذ إعادة بنائه بعد الحرب العالمية الثانية.

الجدل شارك به سياسيون وعلماء اجتماع وناشطون ألمان. وتكاثرت الأسئلة: هل يصحّ الفرح بالمنتخب الألماني، واعتبار انتصاراته إنجازا؟ هل رفع العلم الألماني، والتلويح به لتشجيع المنتخب، هو إنذار بالخطر؟ وهل يحوي ذاك العلم ما يستحق الفخر أصلا؟ أليس التاريخ الألماني سلسلة من الكوارث الكونية: حربان عالميتان، واستعمار لأجزاء من إفريقيا، وأكبر إبادة جماعية في التاريخ؟ إنه شعور الذنب المغروس بوعي في الثقافة الألمانية المعاصرة، ليتصدى لكل أشكال الفخر والعنجهية، التي من السهل أن تراود الألمان كما يرى كثيرون.

قضايا أخرى أثارتها المناسبتان الكرويتان: ماذا عن اللاعبين من أصول مهاجرة في المنتخب، وهل فعلا يمثّلهم العلم الألماني؟ وماذا عن الأندية والفرق النسائية؟ لماذا يستأثر منتخب الذكور بكل الترويج والدعم؟ أليس العَلَم في النهاية علم الذكور البيض العنصريين؟  

سجال “الخبراء” الألمان

رغم كل هذا الجدل المحتدم امتلأت شوارع المدن الألمانية، خلال المناسبتين، بسيارات مزيّنة بالعلم الوطني، وخرج المشجعون، يحملون الرايات، ويلطخون ملابسهم ووجوههم بألوانها. “هذا العرض العلني للمشاعر الوطنية انتهاك للمحرمات”، بحسب ما صرّحت عالمة الاجتماع الألمانية داغمار شيدوي. فيما طالبت كلاوديا روت، نائب رئيس البرلمان الألماني عام 2014 بـ”ضبط النفس، وعدم  المشاركة في هذا الجنون الوطني الذي سيطر على البلاد، والذي يبدو قوةً عنصرية، في ضوء تاريخنا المؤسف”. وتصاعد الخوف من شعور قومي، قد ينشأ من جديد، في ظل تحركات شعبوية بدأت تنشط في البلد، نظّمتها حركة “بيغيدا” المتطرفة، و”حزب البديل من أجل ألمانيا”، مستخدمين الرموز الوطنية، لأغراض مثل التأكيد على معاداة النزعة الأوروبية وكراهية الأجانب.

داغمار شيدوي رأت أيضا أن “القبول الذي تلقاه اللاعبون من أصول مهاجرة يرتبط بالمنفعة التي قدموها للبلد، وتحسين صورته ومساعدته على التقدّم، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الأشخاص الذين لديهم خلفية مهاجرة يتمتّعون بقبول أكبر في الحياة اليومية”. أي أن المنتخب الوطني، حسب هذا المنظور، لا يساهم حتى في الاندماج، الذي يحاول الجيران الفرنسيون تحقيقه عبر سياساتهم الكروية.

 من جهة أخرى برزت أصوات، كانت خافتة في البدء، رأت في الاحتفالات الكروية تحررا من عبء الماضي، ونهايةً لربط ألمانيا المعاصرة بتاريخها الأسود. عالم السياسة شتيفان مارشال قال إن رفع الأعلام “ليس له علاقة بالإقصاء أو كراهية الأجانب، ومن يعارض رفع الأعلام إنما يمنع إعادة استخدام الرموز الوطنية بشكل إيجابي”. فيما طالب الكاتب مارتن فالزر، في خطاب شهير له في مدينة فرانكفورت، بـ”تحرير الناس من عبء الماضي”.

 الجدل خفُت في النهاية، وتأقلم الجميع مع رفع الأعلام الألمانية، خاصة بعد أن ثبُت أن كل تلك الرايات قد عادت إلى مخازنها بعد انتهاء كأس العالم. وأكدت الإحصائيات أن المشجعين الألمان كان لهم تفضيلات أخرى غير الفريق الألماني، بالنظر إلى آلاف أعلام الدول الأخرى، التي يتم بيعها في ألمانيا خلال المناسبات الكروية، الأمر الذي اعتُبر دليلا على أن “ألمانيا قد تغيّرت”، وأصبحت “بلدا متنوّعا ثقافيا، ويحتضن الجميع”.

هل كان التخوّف من العلم الألماني إذا مجرد وهم؟ ليس بالضرورة، فالقومية مازالت تطلّ برأسها بقوة في ذلك البلد، إلا أن أسبابها أعقد من مجرّد “روح ألمانية” يجب ترويضها، كي لا يستغلّها العنصريون. وبالتأكيد فإن منع الألمان من رفع علم بلادهم، أو الاستسلام لمشاعر البهجة الوطنية، لن يحلّ المشكلة.

عالم الرياضة ديتيل بليكينج، من جامعة فرايبورغ، رأى أن “كثيرا من الشباب اليوم يواجهون مشكلة في المعنى، فهم لا يعرفون ما يمكن توقّعه في العشرين عاما القادمة، ولا يمكن اعتبار أن القومية المشتعلة حديثا تقف خلف اتجاههم إلى كرة القدم، بل بحثهم عن ملء لذلك الفراغ”.

هذا عن الألمان، ولكن ماذا عن “العرب”؟

بين التشنّج والتوفيقية

رغم كل تشنّج الجدل، الذي شهدته وسائل التواصل الاجتماعي عن القومية العربية، إلا أنه من الصعب اعتباره مجرّد ظاهرة سلبية، إذ طُرحت أسئلة مهمة حول السياسة والتاريخ والاقتصاد، وبعضها وصل الى عمق الهوية واللغة والأعراق التي تسكن المنطقة. وقد تكون هذه المرة الأولى التي يتم فيها نقاش تلك المواضيع في الوقت نفسه وبهذا الزخم.

إلا أن الملاحظ عموما أن النخب العربية لم تتداخل بشكل نشط في الجدل، ولم تقدم، إلا نادرا، مساهمات جديدة وجدّية في الموضوع. كثيرون كرروا القوالب القديمة نفسها عن “العروبة”؛ آخرون اكتفوا بصيغ توفيقية، لا تضعهم بموقف محرج أمام أصحاب الآراء المختلفة.

الكاتب والفيلسوف المغربي عبد السلام بنعبد العالي مثلا كتب في جريدة هسبريس المغربية: “لو أردنا أن نعبّر عن حال لاعبي المنتخب المغربي باستخدام لغة الفلاسفة لقلنا إن انتماءهم أوروبي بالوضع، مغربي بالذات. يتأكد ذلك عند كل ندوة صحافية يقيمها المدرب وليد الركراكي، إذ لم يفتأ هذا الناخب-الظاهرة يؤكد أن النتائج التي يحققها زادت المغاربة، بل العرب والأفارقة، التحاما، حتى أن البلد المنظم قد تحول إلى ساحة كبرى يلتف فيها الجميع حول العلم المغربي، والأهازيج المغربية، ليشارك الفرحة المغربية انفعالاتها. ربما بهذا المعنى يتكلم البعض عن إنجاز تاريخي، إذ نادرا ما يعرف أيّ بلد حدثا يجعله قطبا تلتئم حوله الأهازيج والأفراح. بهذا المعنى فإن المشاركة في كأس العالم أثبتت للاعبين أن الأواصر التي تشدهم إلى بلدهم أواصر متينة؛ بل إنهم، هم أنفسهم، يسهمون في تعزيز تلك الأواصر حتى بين المغاربة، بل بين العرب، أنفسهم”.

ورغم جماليات لغة بنعبد العالي، وتأكيده على “الأواصر”، والتفاف المغاربة والعرب والأفارقة حول العلم المغربي، إلا أنه لم يتعمّق كثيرا بأي من المسائل الخلافية. في المغرب قضايا عديدة يثيرها العلم الوطني، مثل سياسات “المخزن” (النظام الملكي والنخبة الحاكمة)؛ الهوية الأمازيغية؛ المشكلة الصحراوية. كما أن التفاف “العرب” لم يكن مريحا لجزء من المغاربة، وكذلك لعدد من مواطني بقية الدول العربية؛ ولا ندري ما المشاكل الأفريقية التي يمكن أن يثيرها الالتفاف حول العلم المغربي.   

ربما ما تزال مشكلة الثقافة النخبوية العربية هي كثرة المحظورات، ولذلك يُترك الجدل لمعية وسائل التواصل، وكل الانفعالات “العامية”.

وأمام هذا الواقع ربما يكون الأجدى، استيحاءً من الجدل الألماني، طرح الأسئلة حول القومية العربية بعيدا عن الاستهزاء السهل والمجّاني بفشلها وسخافتها، فالأهم هنا أن نعرف: هل الفرح  للمغرب، ورفع علمه، وغيرها من الأعلام العربية، يساهم بصعود الشوفينية والعنصرية والذكورية؟ هل يمكن أن تعيد مثل هذه المشاعر إنتاج المآسي العربية القديمة؟ هل “الروح العربية” تقوم على إنكار حضور وحقوق بقية الأعراق والثقافات واللغات فيما يُعرف بالعالم العربي؟

إذا كان الجواب نعم، فيجب أن نحاول فهم الأسباب المعقدة لذلك بشكل مُوثّق؛ وإذا كان لا، فلماذا نحرم الناس من الفرح؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.