الليفياثان العربي: هل الحرب الأهلية هي “الوضع الطبيعي” في الدول العربية؟

الليفياثان العربي: هل الحرب الأهلية هي “الوضع الطبيعي” في الدول العربية؟

انفجر الصراع في السودان مؤخرا، بين الجيش السوداني وميليشيا “التدخّل السريع”، ويبدو أن الاشتباكات بين الجانبين لن تنتهي سريعا، ولن يكون بإمكان أي من الطرفين تحقيق نصر حاسم. وهو أمر مثير لبعض التساؤل، فمن المفترض أن تمتلك الجيوش النظامية، الممثلة الرسمية لسلطة الدولة، أفضلية واضحة في المواجهة المباشرة مع أي ميليشيا، خاصة أن معركة السودان لا يمكن تصنيفها حرب عصابات.

إلا أن معظم الدول العربية تتمتع بـ”خصوصية” ما في هذا السياق، فقد رعت أنظمتها الحاكمة تشكيلات عسكرية وميليشيات وتنظيمات مسلّحة، تزيد قوتها في بعض الأحيان عن قوة الجيوش الشرعية. في السودان استعان الرئيس السابق عمر البشير بقاطع الطرق موسى هلال، لفرض السيطرة على إقليم دارفور، بعد التمرّد الذي اندلع فيه، وأمدّه بالمال والسلاح، من اجل تجنيد أبناء القبائل العربية، لتبدأ حرب دارفور، بقيادة ميليشيا الجنجويد، التي ارتكبت من العُنف والفظائع والإبادة العرقية ما دفع بالمحكمة الجنائية الدولية لوضع البشير على لائحتها للمطلوبين، بوصفه مجرم حرب. وفي عام 2013 تأسست ميليشيا “الدعم السريع”، بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وهو أحد المُقاتلين الذين جنّدهم موسى هلال، واستطاع السيطرة على آلاف من مُقاتلي الجنجويد، وضمّهم إلى تشكيله الجديد. وبقيام الثورة السودانية ضد حكم البشير، وإسقاط نظامه، عاد حميدتي إلى الواجهة مرة أخرى، عندما قامت قواته بفضّ اعتصام “القيادة العامة” بتعليمات من الجيش السوداني. ومع تعيينه نائبا لرئيس مجلس السيادة، طمع حميدتي في السيطرة على السودان بأكمله، اعتمادا على قواته وعلاقاته الخارجية، ما أدخل البلاد في هذا الصراع المُسلح غير القابل للحسم.

أما في سوريا فقد صنع النظام البعثي أجهزته المخابراتية الخاصة، وفي مقدمتها “إدارة المخابرات الجوية”. فبحكم قيادة حافظ الأسد لسلاح الجو السوري سابقا، وثق في رجاله لتأمينه ضد أي محاولة انقلابية، واجتثاث جذور المُعارضة السياسية. ستقوم تلك الأجهزة بتدريب فصائل وميليشيات فلسطينية ولبنانية، لتكون فاعلة بشكل كبير في الحرب الأهلية اللبنانية؛ ثم نسّق نظام الأسد مع حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني، واستعان بهما لإخماد الثورة السورية، في حرب أهلية وطائفية، راح ضحيتها أكثر من نصف مليون سوري.

من جهته، أنشأ صدام حسين في أواخر الثمانينات وحدة الحرس الجمهوري، بوصفها وحدة عسكرية خاصة، لكن تابعة للقوات المُسلحة العراقية، وعهد إليها الدفاع عن العاصمة بغداد، وعنه شخصيا، ضد أية محاولة انقلابية. وفي التسعينات أخمد الحرس الجمهوري محاولات التمرد الشعبي في الجنوب الشيعي، بعد تدمير وحدات الجيش العراقي في حرب الخليج الثانية. في كتابه “دولة الخلافة: التقدّم إلى الماضي” يشرح السوسيولوجي والمفكر العراقي فالح عبد الجبار مساهمة نظام صدام في ظهور التنظيمات الإسلامية الأكثر تطرفا في العراق، بعد استقدامه مقاتلين جهاديين عرب وغير عرب من كل بؤر الصراع، لتشكيل ميليشيات عسكرية، مثل “فدائيي صدام” وغيرها، والتي ازداد عددها جدا خلال فترة “الحملة الإيمانية”، التي نظمها صدام لأسلمة نظام الحكم في البلد، ووصل بها الأمر لتطبيق بعض أحكام الشريعة، مثل قطع الأيدي. انصهرت هذه الميليشيات، بعد الاحتلال الأميركي، مع الحرس الجمهوري والجهاديين، لتشكّل نواة تنظيم القاعدة في العراق، وأشعلت الحرب الأهلية والطائفية العراقية بين السنة والشيعة، وأدخلت العراق في نفقٍ مُظلم منذ 2003 وحتى احتلال تنظيم داعش للموصل، ثم تشكيل ميليشيات أخرى شيعية (الحشد الشعبي) لمواجهته، ما أدى لتأبيد الحالة الميليشياوية والحرب الأهلية.

يبدو نموذج الدولة العربية، في كل الأمثلة السابقة، غير مكتفٍ بالأطر المؤسساتية والقانونية، التي يسمح بها بنيان الدولة الحديثة، إذ لا بد من مقاتلين رديفين أو غير نظاميين، ولائيين أو عشائريين أو مرتزقة، لتثبيت الحكم، ما يجعل الحرب الأهلية حالة تمهّد لها الدولة نفسها، وليست نتيجة لانهيارها. بل كثيرا ما تنتعش أنظمة الحكم في حالة الاقتتال الأهلي، الذي تكون دائما طرفا فيه، وربما أهم أطرافه. وفي حال سقوط أنظمة الحكم تلك، لأسباب داخلية أو خارجية، تستمر في الوجود بفضل الأجسام الميليشياوية، التي زرعتها في المجتمع، ما يؤدي إلى جعل الحالة الميليشياوية “الوضع الطبيعي”.

يخالف أسلوب الحكم هذا النظريات الكلاسيكية عن السيادة والدولة، فبدلا من أن تحتكر الدولة العنف، وتعمل على تأمين نوع من الاستقرار والازدهار، يطوّر إمكانياتها بوصفها ماكينة اقتصادية وعسكرية، تُعدد مصادر القوة المسلحة فيها، بناء على علاقات غائمة من الولاء والمصلحة، والروابط العرقية والطائفية. كيف يمكن تفسير هذا؟ ولماذا توزّع الدول العربية سيادتها بذلك الشكل؟ وهل يمكن اعتبار الحرب الأهلية الدائمة أداة حكم مترسّخة عربيا؟

الروح الاصطناعية أو فضيلة الدولة/التنين

يمكن وصف للظروف المضطربة، التي مهّدت لنشأة الدولة العربية الحديثة، بحالة “الوضع الطبيعي”، وهي المُسلمة المنطقية axiom، التي صاغها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588 –1679) في كتابه “Leviathan”، ففي الحالة الطبيعية ينزع كل إنسان من أجل رغباته، والبشر متساوون ومتنازعون في رغباتهم، وهو ما يجعل “الوضع الطبيعي” حالة من حرب الجميع ضد الجميع، أو يصبح فيها الانسان “ذئبا لأخيه الانسان”. يأتي مع الوضع الطبيعي صراع مستعر على القوة والموارد، في صورة حروب أهلية وطائفية واضطرابات مستمرة، وهي الحالة التي رافقت أوروبا ما قبل القرن السادس عشر، وحتى الحرب الأهلية الإنجليزية، فترة حياة توماس هوبز.

انتقل هوبز من تعريف “الوضع الطبيعي”، بوصفه مُسلّمة أولى، إلى “الليفياثان”، وهو الدولة/التنين، التي تحتكر السُلطة والسيادة، لتُقرّ القانون، وتُمارس العُنف المُنضبط، من أجل إنتاج وضع اصطناعي جديد، يتم فيه تسكين البشر في جسد ذلك الجسم المُصطنع، بطريقة لا تؤدي إلى اقتتالهم مرة أخرى. يقول هوبز: “في هذا الإنسان الصناعي، نجد أن السيادة هي بمثابة الروح، فهي بالنسبة له الروح الصناعي الذي يمنح الحياة والحركة للجسد كله. ويكون كبار السادة، وموظفو القضاء، والقائمون على تنفيذ أحكامه، هم المفاصل الصناعية للجسد. أما الثواب والعقاب، اللذان توزعهما أعلى سُلطة، ويقوم الفرد بناءً عليهما بأداء واجبه، فهما الأعصاب، التي تقوم بالدور نفسه في الجسم الطبيعي. سلام الشعب هي وظيفة الجسم المصطنع. والمستشارون، الذين يقترحون كل ما يطلب معرفته، هم الذاكرة. وتمثّل المساواة والقوانين العقل والإرادة الصناعيتين. أما الاتحاد والوئام فهما صحته، والفتنة مرضه، والحرب الأهلية موته”.

بالنسبة لهوبز فالانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة الصناعية يتأتى من خلال اتفاق الشعب على عقد اجتماعي مُلزم، يُبعدهم عن وضعهم الأول، ويحقق السيادة بوصفها روح الجسد الجديد.

إلا أن “الليفياثان” العربي لم يسع إلى إنهاء “الوضع الطبيعي”، وإنما بنى سلطته وسيادته على أساس جعل نفسه “الذئب” الأقوى، ضمن مجموعة الذئاب المتصارعة. ولكن ألم يكن من مصلحته ضمان حالة قانونية مستقرة، تؤمّن سيادته وهيمنته على مختلف مناحي مجتمع المحكومين، كما فعل كثير من المستبدين عبر التاريخ؟ لماذا لا يمكن تشبيه الأنظمة العربية حتى بالأنظمة التوتاليتارية الحديثة؟

الاستثناء المقونن وإخراج الميليشيا من الدولة

يُحاول كارل شميت، الفقيه القانوني والمُنظّر السياسي الألماني، تفسير نشأة “روح” الجسد الصناعي (الدولة) بحسب هوبز، في كتابه “مفهوم السياسي”، عن طريق تعريف وتمييز عدد من المصطلحات، مثل السياسي والدولتي، العدو والصديق، الخ.

يُلاحظ شميت أن الدولة الحديثة، منذ القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، أخذت تتجه الي حالة من الكُلانية Holism، أي أنها أخذت تتدخل في جميع الكيانات الاجتماعية، مثل الكنيسة والنقابات وحتى الشركات والأسواق، وفي سبيل ذلك خاضت منافسة وجودية ضد الجميع، حتى استتب لها الأمر وتتحقق، أي أنها قامت بإلغاء كل السجالات السياسية القديمة، بين الكيانات الاجتماعية التي وُجدت في العصور الوُسطى الأوروبية، وما حدث بينها من صراع، مثل صراع الكنيسة والملك، أو صراعات الكنائس بين بعضها. يقول شميت: “يظهر الكيان السياسي عن طريق سعي وجودي لفرض شكل وجوده الخاص، في مواجهة سعي وجودي أخر، من ثمّ نفيه”، ومن هنا يتطابق الكيان السياسي مع الدولة، وتظهر سيادته.

يُعرّف شميت “السيادة” بأنها القُدرة على إصدار أمر بشكل قراري، أي أن المركز السياسي يمتلك حق تعليق العمل بالدستور والقانون (الحالة العادية)، وإقرار حالة “الاستثناء”، لمواجهة عدو وجودي يُهدد وجود الدولة، ومن ثمّ الشعب. “لقد جمعت الدولة، من حيث هي الكيان السياسي الحاسم، صلاحيات هائلة لديها، أقصُد إمكانية خوض الحرب، من ثم الحيازة الصريحة على حياة البشر”.

 لكن، على رغم تعيينه للحرب بوصفها الخصيصة الأساسية للكيان السياسي الذي يحتكر السيادة، ويُحدد العدو والصديق، يستدرك شميت بالقول إن الدولة تتجه، في هدفها النهائي، إلى ضمان استقرار وأمن الشعب، وحفظ القانون كل الوقت، أي أن الحفاظ على الحالة العادية هو الهدف النهائي للدولة، ولحالة الاستثناء التي تقوم عليها سيادتها.

تنتهي السيادة، بحسب هذا الطرح، عندما يعجز الكيان السياسي عن فرض حالة الاستثناء والحرب لأي سببٍ كان، سواء لعدم اقتناع الشعب بتحديدها للعدو والصديق، أو لوجود كيانات أُخرى تتحكّم في الدولة (الأحزاب) من وراء الستار. فوجود كيانات أًخرى داخل الدولة، تتمتع بقدرٍ ما من القوة، يمكّنها من أن تُنازع الدولة السيادة في النهاية، وتُحطّم القانون، وهو ما يؤدي إلى الحرب الأهلية. هُنا يتحول الخصم الداخلي إلى عدو للدولة، وفي اللحظة التي يحصُل فيها على تفويض من الشعب، تنتهي السُلطة الواقعية للدولة.

يُحلل تيموثي سنايدر، المؤرخ والباحث السياسي في شؤون شرق أوروبا، في كتابه “أرض الدماء: أوروبا بين هتلر وستالين”، كيف قامت ألمانيا النازية بعمليات التطهير العرقي ضد اعدائها السياسيين والعرقيين (اليهود، الغجر، الشيوعيين) ويقول إن عمليات التطهير العرقي، التي بدأت مُنذ عام 1938 وحتى 1942، تمت كُلُها تحت إدارة وتنفيذ عناصر الشرطة الخاصة لهاينريش هيملر (SS)، بدون أن يشترك فيها الجيش الألماني، بل وحتى لم تتم داخل حدود الدولة الألمانية، وضمن نطاق عملها القانوني، فعلى الرغم من أن جماعة هيملر كانت بالأساس خاضعة لسُلطة الحزب النازي، إلا أن الدولة الألمانية اعتبرت أعضاءها أيديولوجيين، أي انهم كيان خاص، من المُمكن ان يُشكّلوا خطرا على وجودها القانوني وحالتها السيادية، من ثم يُمكن أن يساهموا باندلاع حرب أهلية.

يصف سنايدر جماعة هيملر بأنهم “مُحطمو الدولة”، فوجودهم الأساسي على الجبهة الشرقية (بولندا، أوكرانيا، دول البلطيق) أدى إلى تصاعد عمليات التطهير العرقي هناك. فبعدما يستسلم جيش الدولة المهزومة، تقوم الشُرطة الخاصة بتدمير منهجي لسيادتها، وبغياب سيادة الدولة تُمتلك الشرطة سيادة خاصة، تقوم من خلالها بإعدام اليهود، وإعلان أعداء السيادة الجديدة، من المُعارضين والشيوعيين وعناصر الدولة القديمة.

احتمالية أن ينجو يهودي بنفسه على الجبهة الشرقية، حيث تواجدت قوات هيملر، هو 1 إلى 20، بينما احتماليته على الجبهة الغربية، حيث لا تتواجد تلك القوات، 1 من 2. في حالة الدنمارك مثلا لم يمُت يهودي واحد، على عكس لتوانيا، التي قُتل جميع سكانها اليهود.

ترحيل اليهود الألمان خارج نطاق عمل الدولة الألمانية، وإطلاق يد كيان سياسي أخر ضد اليهود غير الألمان، حال دون أن يتحوّل الشعب الألماني إلى مقاتلين شعبيين، ودون أن تخرج قوات (SS) عن السيطرة، مُشعلة بذلك حربا أهلية، تتهدّم فيها الدولة الألمانية ذاتها. وهكذا أدرك النازيون أنفسهم أنه لا يمكن إدارة دولة بأدوات غير قانونية وغير شرعية.

الوعي القانوني التأسيسي للدولة الحديثة حال دون تكوّن ميليشيات عسكرية عدوة أو صديقة في الداخل، وهو العُنصر المُفتقد في دولة التحرر العربي الحديثة كما سنرى.

انتحار الليفياثان واستثنائية الحالة المدنية

عادت الجيوش العربية، المهزومة في حرب فلسطين عام 1948، بهاجسٍ واحد مُسيطر على عقلية ضُباطها، وهو ضرورة انتزاع السُلطة من الكيانات السياسية الحاكمة في دولهم، لتتشكّل عقب النكبة خلايا من الضُباط الأحرار في اليمن ومصر والعراق، نجحت في الاستيلاء على السُلطة. رأى الضُباط أن الهزيمة في الحرب لم تكن من صُنع أيديهم، بل جاءت نتيجة ما وصفوه “عمالة الأنظمة السياسية العربية للمستعمر الأجنبي”، ففي العراق مثلا سيطر كلوب باشا على القيادة العامة للجيش، وهو الذي أعطى الأمر للجيش العراقي بالتوقف عن القتال، والدخول في الهُدنة عام 1949، لتشيع جملة “ماكو أوامر” في جنبات المجتمع العراقي الغاضب، وبالتبعية الجيش. وفي مصر ظهرت قضية الأسلحة الفاسدة، التي تورّط فيها القصر، تحت إدارة الملك فاروق.

قرر العسكريون إقامة سيادتهم الخاصة، عن طريق احتكار حق إعلان الحرب في المُستقبل، بمعزل عن الآمر العسكري الأجنبي، وبمجرد خروج القطعات العسكرية العربية في الشوارع، وإعلانها العصيان على الدولة، والتفاف الشعوب العربية حولها، حصلت على التفويض الشعبي المطلوب لتؤسس حكمها الجديد، الذي يطابق بين الكيانات العسكرية والدولة الحديثة.

سعى الكيان السياسي/العسكري الجديد، في أيامه الأولى، لحلّ البنى المدنية والتقليدية في الدولة، وتأميم الجزء الأخر، فألغى الأحزاب وأمّم الصُحف والملكيات الخاصة والشركات وحتى المؤسسات الدينية، وفرض حالة الطوارئ. وذلك لأنه اعتبر أن مُحاربة الاستعمار الخارجي، ومنعه من التحالف مع خصم داخلي، هو الأولوية لإنهاء أي احتمالية تُهدد سيادته، أو تُعرّض البلاد لحرب أهلية.

لكنّ الكيان السياسي الجديد افتقد بمرور السنوات بوصلته الأساسية، التي وُجدت لأجلها الدولة الحديثة، فكما وضح شميت، تتوجه الدولة بالأساس للحفاظ على الحالة العادية، وتحقيق السلام والأمان والازدهار للشعب. فيما كانت الحالة العادية، القانونية والدستورية، مفقودة دائما في دولة ما بعد الاستعمار، أي أن حالة الاستثناء تحوّلت إلى الحالة العادية تحت سيادة العسكريين. ونتيجةَ للنزاعات التي تولّدت بعد فشل الوحدة بين سوريا ومصر في عام 1962، ومع هزيمة 1967، بدأت الأنظمة العسكرية في التشقّق، واللجوء إلى الانقلابات المتوالية.

فُقدان البوصلة السياسية، بدايةً من قيام دولة التحرر الوطني، ثم الهزيمة المُدوية، وصولا إلى الانقلابات المُتعاقبة، جعل الكيان السياسي العربي يسعى لتأمين موقعه في السُلطة بأي ثمن، هُنا اتجهت الكيانات في العراق وسوريا، وصولا للسودان، إلى اختراع ميليشيات وأجهزة أمنية واستخباراتية، لضرب كل محاولات التمرّد الشعبية والسياسية، وتعويض سيادتها الهشة.

لم تعمل تلك الكيانات الميلشياوية وشبه الميلشياوية على التحايل على القانون على الطريقة النازية، إذ لا اعتبار أصلا لفكرة القانون في البنيان السلطوي للدولة العربية. وإذا كان النازيون قد أخرجوا ميليشيا الشرطة الخاصة من الأراضي الألمانية، كي لا ينطبق عليها القانون السائد فيها، أي أنهم قاموا بما يمكن تسميته “تصدير حالة الاستثناء إلى الخارج”، فإن الدول العربية قامت بعملية عكسية، إذ عملت على استيراد كل حالة ميليشياوية قد تنفعها، وحاولت إدماجها داخل كيانها. والنتيجة “ليفياثان” مشوّه، ليس بدولة أو ميليشيا؛ لاحاجة لتعليق قوانينه، لأنها ليست مرعية أصلا؛ “قواته الخاصة” أعتى من وحداته النظامية؛ ولا تبدو فترات الاستقرار داخل “جسده الصناعي” إلا هدنة، قد تطول أو تقصر، في حرب أهلية دائمة، ولذلك فإن كل الكيانات المدنية، سواء كانت سياسية أو حقوقية أو ثقافية، ستبقى هشة على الدوام، فهي لا تلعب أي دور أساسي في هذا الشرط، وهي أول من سيتم الإطاحة به، مع أي انقلاب أو صدام مسلّح أو نزاع طائفي وعرقي.

بهذا المعنى فربما كانت الحروب الأهلية العربية الدائمة ليست نتيجة “وضع طبيعي”، بل محصّلة للجسد السياسي الاصطناعي لنموذج دولة الاستقلال العربي، الليفياثان المشوّه، الذي لا يعيش إلا بالتهام جسده نفسه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.