هناك كثير من الأسئلة الجادة التي يطرحها المتشككون والرافضون لثقافة الإلغاء الرقمية أو الإدانة العلنية calling out، التي تستهدف مفكرين أو ناشطين في المجال العام، أو المطالبة بمنع أعمال فنية من العرض أو مصادرة منتجات ثقافية، بسبب أنها تسيء لجماعة معينة؛ أو إلغاء استضافة محاضرين وكتاب بعينهم؛ أو اتهام أشخاص في أحداث العنف الجنسي، بعيدا عن اللجوء لجهات التحقيق. تُطرح هذه الأسئلة من زاوية تضييق مساحات حرية التعبير والقول، أو إحلال نوع من المحاكمة الإعلامية ومحاكمات وسائل التواصل الاجتماعي، بوصفها نظاما أخلاقيا موازيا، يحلّ محل النظام العدالي المؤسسي؛ أو فرض رقابة موازية على الأعمال الفنية والمنتجات الثقافية؛ أو الاستغلال المُغرض لمساحات التعبير، بهدف التشهير والاغتيال المعنوي.

على ناحية أخرى، يتبنّى المدافعون عن حملات الإلغاء والإدانة العلنية عدة منطلقات نظرية ورؤى اجتماعية سبقت الممارسة، ومنحتها الدافعية والمبرر الأخلاقي أيضا.

في حالة التيارات النسوية ظهرت حركة “مي تو” الأميركية، بوصفها أبرز التجليات لثقافة الإلغاء، بمعنى أنها تسعى بالأساس لـ”إلغاء الصمت”، من قبل الضحايا أنفسهن، عن الانتهاكات الجنسية التي يتعرّضن لها، تحت الضغط أو الابتزاز وعلاقات القوى غير المتكافئة؛ أو الثقافة العامة، التي تدفع النساء بطرق مختلفة للإنكار، وقبول الانتهاك بوصفه أمرا واقعا. الثورة التي قادتها نساء في أعلى الهرم الاجتماعي، فنانات مشهورات أو شخصيات عامة متحققة، وانتقلت من أميركا إلى أوروبا ثم المجتمعات المختلفة حول العالم، كانت بمثابة كسر لحاجز الصمت هذا، لكنها اتخذت مسلكين مختلفين: الأول هو التشجيع على اتخاذ الإجراءات القانونية، بعد تجاوز الصمت وفضح حوادث العنف وطلب المساعدة، وهو ما حدث فعلا في كثير من الحالات؛ والثاني هو منح الخيارات المتعددة، والتي تضمّنت حملات الإلغاء والإدانة العلنية الموجهة دون لجوء للمسار القانوني، وهو ما امتد من الأفراد للمجرّدات من أعمال فنية أو تعبيرات ثقافية. لكن هذا المسلك الثاني استتبع ردود أفعال مختلفة، أهمها ما يستشعره كثيرون من تخوّف من المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه “السلطة الرمزية”، وأثرها على انكماش مساحات التعبير، وكذلك التداعيات الأوسع للحركة، التي فتحت عدة جبهات منظّمة.

برغم الصياغات الدفاعية أو الهجومية من المؤيدين والمنتقدين، غالبا ما يغيب الأساس المادي الذي سمح لـ”ثقافة الإلغاء” بفرض نفسها. أي مجموعة التغيرات الثقافية والتقنية والاجتماعية التي تقف على أكتافها نسويات اليوم.

“اقتصاد المرئية” والبنية التحتية للإلغاء

في مقدمة هذه التغيرات تدخُّل وسائل التواصل الاجتماعي في صياغة الحياة الاقتصادية والاجتماعية بقوة، بينما آلية اشتغالها تعتمد بشكل أساسي على صناعة الاستقطابات. تقوم البنية التقنية لهذه التطبيقات على “اقتصاد المرئية” Economy of visibility، بمعنى أن ما نشاركه عليها من محتوى هائل يزداد ظهوره للأفراد المهتمين به حسب تحليلات الذكاء الاصطناعي لبياناتهم وتفضيلاتهم، وبالتالي يظهر كل محتوى لأصحاب الاهتمامات المشتركة والآراء المتقاربة. إضافة لذلك تتحقق المرئية للمحتوى كلما زاد متابعوه، ومن أضافوا لايك، أوعلّقوا عليه، أو شاركوه على حساباتهم الخاصة. أي أنه من شبه المستحيل أن يطّلع أغلبية الناس على المحتوى الذي ينشره أغلبية الناس، حتى لو أرادوا.

هكذا تبدأ قواعد المشاركين، على تطبيق مثل فيسبوك، في التفتت إلى جزر أصغر فأصغر، كلما تضخّمت البيانات التي جمعها التطبيق عن تفضيلاتهم، لتصبح أكثر دقة في استهدافهم بالمحتوى الأقرب لذائقتهم، بداية من الفنون والسياسة وحتى التسوّق والرياضة. يتواصل أعضاء كل جزيرة معا، بعدما توافقوا في حساسياتهم الثقافية وآرائهم، التي تتشارك في عدائها لباقة أخرى من الآراء والميول الثقافية والسياسية. تخلق تلك الآلية ما يسمّى بـ”غرف الصدى”، التي يسمع داخلها كل منّا ما يرضيه، كلما شارك موقفا أو رأيا، وتتحول التعليقات والمشاركات لاستطرادات في نفس الاتجاه، وإعلانات للتأييد والإعجاب. وكأنّ المتلقي يظل يسمع أصداء متتالية لموقفه الأساسي. ويساعد هذا الحشد من المتابعين في مهاجمة أو استبعاد التعليق النافر، لأنه مختلف، إذا خطر لقادم من جزيرة أخرى أن يشتبك مع الموقف الأصلي من وجهة نظر أخرى. بذلك تحصّل المجموعة نوعا من الانتصار أو الاطمئنان الزائف لسلامة أطروحاتها، وانسحاق الآراء المخالفة أمام قوة حجتها، ويمتد ذلك الشعور لحالات تفاؤلية أو تشاؤمية شاملة، بخصوص الوضع العام خارج “جزيرتنا”، حسب ما نتداوله داخل هذا المصنع الصغير للإجماع.

في الصورة الأعم خلقت وسائل التواصل تقسيما للمجتمعات، يعتمد على تغذية النزعة الصراعية، بين مجموعة داخلية ومجموعة خارجها، على امتداد القضايا والموضوعات، أي تعزيز تصوّر “نحن وهم” بشكل مستمر، بصيغته الحمائية والدفاعية، بوصفه آلية للتواصل الاجتماعي. بهذا المعنى تصبح المجموعة الداخلية، التي ينتمي إليها الفرد على مواقع التواصل، بمثابة “هوية رقمية” يتفاعل من خلالها، تَفهم نكاته، وتعرف أعداءه، وتميّز حساسياته الثقافية وذوقه الفني وتفضيلاته السياسية، ولكنها من ناحية أخرى تتحوّل لصورة مصغرة من “الحقيقة” في عينيه، كأي هوية أولية ولدنا عليها، يصعب أن نبدأ بافتراض أنها ليست هويتنا الوحيدة. نستطيع أن نلاحظ أن تطور خبراتنا، والخريطة التي رسمناها للجزر المختلفة، دفع كثيرا منا تدريجيا للإحجام عن المشاركة بتعليق، من وجهة نظر مخالفة، على منشور ينتمي صاحبه لأحد الجزر “المعادية”، أو التي يستشعر أن الحشد داخلها سوف يتلقى تعليقه من موقع التربص والاستهجان المسبق.

 في الإطار نفسه تتجزأ اللغة لمجموعة من الإشارات الاصطلاحية، التي تحتوي داخلها أكواد الانتماء لتلك الجزر، سواء كانت الإشارات تعيد تصنيف المجموعات المتصارعة، بإعطائها بطاقة أو مسمى يختزل مجمل ميولها الثقافية أو السياسية (مثل “شمامين كُلة” أو “سرسجية” أو “دولجية”)، أو تتصيد مسميات وألفاظا، كي تُلحق شخصا ما بأحد المجموعات المعروف رأيها مسبقا. تلك القوة الاختزالية، التي تمتلكها المسميات والأكواد الكلامية، الميمز اللغوية والشفرات التواصلية، يمكنها أن تمنح جواز مرور للانتماء لمجموعة بعينها أو الاستبعاد منها. وتتحول عملية التكويد المستمرة للكلام تدريجيا لتصبح صكوك اعتراف تنطوي على التبرئة أو الإدانة، التجريم أو الصفح، بصرف النظر في أحيان كثيرة عما يحتويه مقال طويل من أفكار، أو ما تعرضه شهادة من الشهادات من وقائع. يكفي كتّاب المقالات والشهادات أن يضمّنوها الأكواد والشفرات اللازمة ليعرفها جمهورها ويهاجمها أعداؤها، ويحشد كل منهما أنصاره داخل غرفة الصدى التي ينتمي لها.

النسوية الهوياتية والليبرالية

يسهل أن تلتقي هذه البنية مع حركة بعض التيارات النسوية، التي شكلت بعد العولمة أحد الأجنحة الرئيسية لتيارات الهوية داخل المؤسسات الأكاديمية وحقول النشاطية السياسية والثقافية، مثل المنظمات غير الحكومية والميديا المستقلة أو اللامركزية. هذا اللقاء هو بمثابة توطين رقمي لما كان يتبلور من سياسات حركية ومجموعات ناشطة في العقد الأول من الألفية الثالثة. والأفضل أن نميز هذا التيار النسوي هنا باسم “النسوية الهوياتية”، بغرض عدم المصادرة على تنوعات أو رؤى أخرى داخل الحركات النسوية.

تفترض النسوية الهوياتية، التي وُضعت أسسها الأولى منذ نهاية السبعينيات في حركة النسويات السود المنشقة عن الموجة النسوية الثانية، أن تضامن الفئات، التي تتعرض للقهر أو التهميش على أساس الهوية (العرقية/ الجنسية/ الثقافية) هو السبيل لبناء القوة من أسفل في مواجهة الطبقات الاجتماعية المهيمنة، وإيجاد السبل لتنظيم حركة هؤلاء المضطهدين، في مواجهة ما اعتبروه تمييزا واستبعادا منهجيا أو مُمأسسا داخل الأطر الرسمية والقانونية. التقى هذا المنظور أيضا مع ما سبقه من مناهج ضمن تيار ما بعد الكولونيالية، لإعادة قراءة تاريخ المستعمرات السابقة؛ ومع مناهج المفكرين الفرنسيين ميشيل فوكو وجاك دريدا التفكيكية، وصولا لنظرية كمبرلي كريشناو عن التقاطعية (بين الطبقة، والنوع، والعرق) في نهاية الثمانينيات.

إضافة لذلك شكّل الإطار الحقوقي، الذي اعتمدته منظمات المجتمع المدني، الساعية لمراقبة السلطات ومدى التزامها بمواثيق حقوق الإنسان والضغط عليها، منحىً موازيا، تشتغل من خلاله سياسات الهوية، التي بدأت في تخصيص المجموعات المضطهدة داخل البناء الاجتماعي، أي منحها توصيفات تمكّن الحركة الحقوقية من الاشتباك بشأنها (مثل “مجتمع الميم” على سبيل المثال) في مواجهة السلطات، وتمييز الحقوق الخاصة بها، بناء على ما تواجهه من تمييز وتعسّف، مرتبط بهويتها الأولية.

في خضم تلك الحركة التي تسعى للمراجعة وإسقاط الحصانة عن قراءات مهيمنة للتاريخ، والنزعة الحقوقية، والتنظيم على أساس الهوية، أصبحت المفاهيم المؤسسة للديمقراطية الليبرالية، التي سادت بنهاية الحرب العالمية الثانية، محل تشكيك يتوسّع، من حيث كونيتها (أي قابليتها للتطبيق في كل مجتمع)، ومن حيث تحقيقها للمساواة (إذ تعجز أطرها المؤسسية عن تدارك أشكال التمييز المستترة والمنهجية)، ومن حيث القبول الثقافي بها (إذ تستمر المجتمعات غير الغربية في رفع شعارات هويتها الثقافية الخاصة التي يمثل هذا الإطار اعتداء عليها). هكذا تأسس منظور للمجتمع الليبرالي متشكك في أطروحات ألهمت نسويات الماضي عن التحرر والمساواة، إذ باتت تيارات الهوية تحتفي بالمجتمع، الذي تتحدد مفاهيمه، عن المساواة والعلمانية والعلاقات الجندرية، بالرجوع والاستناد لحساسيات “الثقافة الأصلية” والهويات الجنسية والطبقية والعرقية.

احتفظ هذا المنظور بالليبرالية بوصفها فكرة مجردة موازية للحرية، وبالحقوقية بوصفها فكرة مجرّدة موازية للاستحقاق. ولكن محاور الاستقطاب اكتسبت طابعا جوهرانيا، كامنا بالضرورة في الهويات الأولية، الحرة والمستحِقة، والتي ترجع في كليهما- الحرية والاستحقاق- لافتراض “أصلي” عن هويتها الجنسية أو العرقية أو الثقافية، لا يقبل النقد برحابة، ولا يمارس النقد الذاتي بجرأة، بل يملك جرأة أكبر على المصادرة بحكم الانكفاء على الذات، بوصفها مصدرا للحقيقة.

استعادة “الإلغاء” عربيا

على هذا النحو، استعادت دوائر مناهضة للأنظمة الشمولية في المنطقة العربية سلوك الأنظمة نفسها بتبني نزعات ثقافية أصولية تحت شعارات حقوقية. فالأنظمة العربية كانت ترفع شعار “الخصوصية الثقافية” دوما في مواجهة المنظمات الحقوقية، التي تطالب بتعديلات تشريعية بخصوص حقوق النساء مثلا؛ وشعارات مواجهة الإمبريالية والتمسك بالهوية في مواجهة المعبّرين عن آراء ومواقف خارجة عن الإجماع. لكن اليوم، يرفع معارضوها نفس الشعار، في مواجهة فيلم يتعرّض للقضية الفلسطينية، فيما “يسيء تمثيلها”، أو “يوصل رسالة سلبية عن المجتمع الفلسطيني”، ليُمنع بالفعل من العرض.

اعتمدت المطالبات بحذف أغنية “عشان تبقي تقولي لاء” لتميم يونس، والتي اعتبرت “مسيئة”، على القراءة التكويدية للعمل الفني بمنطق الصوابية السياسية، ليفقد العمل حمولته الشعورية ودلالته الاجتماعية (سواء سلبية أو إيجابية)، ويصبح وثيقة غير صالحة للقراءة إلا من زاوية الإجازة أو المنع. وعندما استشهد البعض بهذه التحذيرات والمطالبات، عندما وقعت بالفعل سلسلة من جرائم الرفض وقُتلت البنات، في سيناريو إجرامي يوازي ما قدمته الأغنية في قالب فكاهي، لم يلتفت أحد أن الأغنية وغيرها من الأعمال الفنية لعبت دور النذير والنبوءة، وليس فقط دور المحفِّز والدافع. وفق هذا المنطق، يمكن الاستغناء عن كل الأعمال الفنية التي صاغت ما يغلي ويضطرب بقلب قطاعات اجتماعية ومجرمين ومستبدين، والتي نُعت مبدعيها في السابق بالمستشرفين وأصحاب الرؤى، والمتنبئين بمصائر مجتمعات ونظم حاكمة، حتى لو لم يقصدوا في لحظة إنتاج العمل أن يلعبوا هذا الدور، وإنما لعبه في الحقيقة النُقّاد، الذين يستقرئون العمل الفني ويستنطقونه من زوايا متعددة. لكن النقد المشاعي، وأدواته اللغوية الكودية، يقارب الأعمال الفنية من زاوية يحق أن نقول أنها دينية الطابع، مشغولة بالقضاء وحساب النوايا، أكثر من صلاحيتها لتحليل رسائل وخطابات، هي بالنهاية محدودة بمجالها التعبيري، وليست موجهة ضد أحد.

يمكن القول أن العمل الحركي والأكاديمي وجد عبر وسائل التواصل الاجتماعي طريقا لتحويل المحتوى المعرفي، الذي تكوّن عبر عقود سابقة، لثقافة ذات طابع جماهيري، نحو أطراف أصبحت تمتلك حق القول المتساوي عبر حسابات خاصة لكل فرد؛ وعبر المؤثرين والمؤثرات، الذين تكتسب أقوالهم ومنشوراتهم نفوذا متفاوتا، حسب نصيبهم من “اقتصاد المرئية”، ولا تخضع على الإطلاق للتمحيص الأكاديمي، أو ينحصر الجدل بشأن أطروحاتها داخل مجتمعات مصغّرة، أو تتحكم في نشرها منصات إعلامية ملتزمة بقوانين للنشر.

 لكن حق القول المتساوي، لو نحى نحو الإدانة العلنية المستمرة في مجال قائم على الاستقطاب والصراعية، يفقد تدريجيا البداهة لتمييز القول المهين/البذيء، عن القول العنصري/المحرّض، الذي يعاقب عليه القانون، ويعجز عن تمييز النقد أو السب الموجه لمنظومة مجردة، سواء فكرية أو قومية أو عقائدية، عن الحض على استهداف أتباعها بالأذى. وتلك أزمة عالمية، تواجه القائمين على تطبيقات التواصل وواضعي القوانين، وكل من يحاول أن يفكر في الحدود بين الكلام والأذى.

كذلك تستبطن الجماعات المتناحرة منطقا شبه غريزي، يقوم على الفضح باسم الصراحة أو تمثّل الفضيلة؛ بحيث يبدو الفضح منطق بقاء داخل صراعية “اقتصاد المرئية”، التي لا ترضى طويلا بسقف متعارف عليه للمقبول والمستهجن، بل تغازل في المتنافسين داخل فرق “نحن و هم” رغبةً شبيهة بإدمان المخدرات، الذي يتطلب رفع الأسقف باستمرار. الصراعية تنحاز لصناعة الأعداء، بوصفها  وسيلة لحشد الأنصار، لذلك تصبح سمة الاستقطاب الحالي هي تحريك التيارات الراديكالية من الهامش إلى المركز ، وتجديد حضور التيارات الحضارية الأصولية، والتغاضي عن سقطاتها الفكرية، في مقابل قدرتها على تأجيج الصراعية.

دروب “النسويات المخيفات”

ربما تدافع بعض النسويات عن ثقافة الإلغاء، التي تستخدم الإدانة العلنية، لتضع الأفراد أمام المسؤولية عن الكلام والأفعال، لأنهن تبنيّن استحقاقهن على هذا الجوهر النوعي، الذي تحوّل بالخطاب عن النساء لتوجّه أقلوي، عمّن يمثلن نصف المجتمعات عددا. كلمة “أقلوي” هنا معنى مؤصّل للفكر الليبرالي، الذي اعتمد مسؤولية الأغلبية الحاكمة عن حماية حقوق الأقلية معيارا قيميا وقانونيا رئيسيا. داخل هذا المعنى افتراض سليم نظريا، حول قدرة الأغلبية- لو اتفقت- على التغوّل على الأقلية وقهرها وسحقها، دون ملجأ تهرب إليه ولا مغيث. أي أن مظلمة أقلية داخل مجتمع من المجتمعات، ووقوعها موقع الضحية، توجب تحركا، تقع مسؤوليته على السلطة والأغلبية معا.

لكن الافتراض نفسه لا يصدق على النساء، إلا بتقسيمهن على أساس هوياتهن الأخرى، من ميول جنسية أو أصول عرقية أو عقائدية. بهذا التقسيم الجديد تفقد المرجعيات التاريخية للنسوية العربية دلالتها، لأنها تنفك عن تأسيس الاستقطاب على محاور تشمل السياق السياسي والاجتماعي، الأمر الذي كان يقسّمها سابقا لنسوية يسارية أو ليبرالية أو إسلامية، فيما باتت اليوم تتجه لتقسيم شرائحي يتعامل مع هويات متعددة، عبر رمزية غامضة عن الحرية والاستحقاق، أي اعتماد الأطر الليبرالية والحقوقية بمعناها الجديد، مع الاحتفاظ بالحق في التشكيك المتصاعد فيما أنتجته من نظام عدالي أو قيم كونية، بحكم أنها منسوبة للإمبريالية السياسية ثم الثقافية، أو أنها تعجز عن استيعاب التقسيم الجديد وعقليته الديّانة دون شروط. لذلك تتولد لديها إشكالية بخصوص المعيارية، تظهر على مواقع التواصل في آلية “انتقاء الكرز”،  أي توظيف المعيارية المناسبة لكل حالة، وفقا للشروط التي تلائم  سياقها.

على سبيل المثال، تستعيد “النسوية الإسلامية” اتهاماتها القديمة في مواجهة الحداثيين، وتصفهم بـ”الظاهرة” التي نشأت في فضاء استعماري، واستبطنت منطلقاته، ليس فقط داخل المستعمرات القديمة، وإنما في قلب المجتمعات الغربية. وتستطيع أن تخصص “النساء المسلمات”، بوصفهن فئة تجمع هوية النوع والدين، لتستحق معاملة أقلوية خاصة، في مجتمعات تحمل جنسياتها وترفض بعض قوانينها. في حالتنا أيضا، يتوارى الاستقطاب النسوي القديم بين السفور، بوصفه رمزا “سياسيا” لتحرر المرأة، والحجاب، بوصفه  رمزا “سياسيا” لتمسّكها بثقافتها “الأصلية”، لتتساوى المرأتان، السافرة والمحجّبة، في “حرياتهما”. وهو الاستقطاب، الذي حمل سابقاً مضامينه بفعل انتماء هؤلاء النساء لتنظيمات سياسية ومبادئ فكرية مختلفة ومتنافسة في الساحة السياسية، مثل حزب الوفد وجماعة الأخوان المسلمين.

 باستعمال التقسيم الجديد الذي يرفع شعار “كل النساء حرة”، و”ارفعوا أيديكم عن ملابس النساء” تتوارى الأسئلة السياسية عن معنى التحرر ومسئوليته، والمعاني الثقافية والإيديولوجية خلف الملابس، وعن الحراك الاجتماعي الذي تتفاعل فيه تلك الهويات الأولية، وكذلك عن مفهوم “الأصلية” الذي تخلعه النسوية الإسلامية- كما تسمي نفسها- على حركاتها. إذا كانت كلتاهما حرة بالتعريف، لتكن كلتاهما أصلية.

لذلك تبدو حشود الإلغاء، التي تواجه إحدى الكاتبات أو المفكرات في لحظة ما، مثل مريم نمازي الإيرانية البريطانية، أقرب للنظام الإيراني (الذي أفلتت من قبضته لاجئة منفية)، من المجتمع الجامعي الذي جاءت لتلقي محاضرة داخل إحدى قاعاته، لتُمنع من دخولها لأنها تسيء للإسلام، وتجرح مشاعر المسلمين من الطلّاب والطالبات. وتفتقد نمازي للتضامن معها من نسويات الهوية أو رجال الصوابية، إذ تتراجع في تلك الحالة الحشدية “التقاطعية” أولوية حرية التعبير داخل الجامعة وحرية الاعتقاد، أمام المنظومات الصاعدة، مثل الثقافة الأصلية والهويات الدينية. كما يشن المجتمع السينمائي حملة ضد ميغ سماكر، مخرجة الأفلام الوثائقية، ليمنع عرض فيلمها، الذي استغرقت خمس سنوات في رحلة صناعته داخل أحد مراكز التأهيل في السعودية، لمعتقلي جوانتنامو من المنتمين سابقا لتنظيم القاعدة، لأنها سيدة بيضاء. في قصص كهذه، وأمثلة شبيهة متعددة، تسقط فكرة حماية الأقلية في الليبرالية التقليدية (امرأة واحدة تقول رأيا مخالفا، أو تصنع فيلما عن أناس غيرها)، أمام ضغط الحشود، “الحرة” في تبني الشعارات “الصائبة”، وتعجز السلطة، بمفهومها القانوني القديم، عن مراعاة الحقوق في مواجهة ضحايا الحساسيات المفرطة، في ظاهرة يطلق عليها البعض “الجُبن الليبرالي”.

تحرير القول النسائي

القول بإن نشاط النسوية الهوياتية في تحرير القول النسائي، والنضال ضد المنظومات التي تحكمت به، هو بالمجمل نشاط سلبي هو قولٌ جائر. في سياقنا العربي، نعلم أن “حاجز الصمت”، الذي تتحدث عنه النساء في الغرب، هو عندنا حجاب سميك قاتم، يشمل المنظومة التشريعية والدينية والسياسية والثقافية، أي أنه حاجز مفروض بقوة القانون والسياسة والدين، يعلن عن نفسه دون خجل، ولا يتورع عن اختلاق المبررات لإبقاء النساء مواطنات من الدرجة الثانية، وتعيين الذكور في موقع الولاة على شؤونهن العامة والخاصة دون تمييز.

أما الجانب العدمي، الذي يعلن عن نفسه في المواجهات الشرسة في الغرب بين النساء والرجال، والمحاط بشعور عارم بالتواطؤ المؤسسي، سواء حمل دلائل مغرضة أو محقة، يقابله في حالتنا ترسانة من القوانين الواضحة، التي تقر التمييز وترتضيه؛ ونسويات ممنوعات من التنظيم وتأسيس الحركات الاجتماعية، التي تضع أفكارهن في امتحان السياق الأوسع، وتجعلهن أمام مسئولية الفعل قبل الكلام؛ وكيانات رسمية تواجه الحملات الإلكترونية والاحتقان الاجتماعي بالصمم والتجاهل، وأحيانا بإيداع الشهود بالسجون، أو توقيع العقوبات على الصارخات احتجاجا أو يأسا.

ربما تكمن الإشكالية في الاستسلام لقواعد “اقتصاد المرئية”، واعتماد النسوية الهوياتية للّعب بمنطقه، لمواجهة هذا الانسداد، دون ممارسة النقد النشط تجاه مآلاته وتحدياته. وكأنه تشبث بالفرصة التي أتاحتها وسائل التواصل، لمخاطبة قواعد اجتماعية ممتدة جغرافيا وطبقيا، من داخل وخارج الحدود القومية. خصوصا أن النسوية العربية طالما عانت من الاتهام بالنخبوية، والتخلّي عن القواعد الواسعة من النساء، لصالح الأفكار التي دأبت المنظومة الثقافية الراسخة على تصويرها بالمؤامرة على المجتمع والدين، أو الشطط والتجديف.

بدا الحراك النسوي ما بعد الثورات العربية منقسما، بين محاولات تماهي مع منطق النسوية الهوياتية وتفعيل الإدانات العلنية؛ وبين نسوية قاعدية محلية الطابع، وأكثر قدرة على التأثير في مجموعات أكبر عبر الإنترنت. لجأت الحركات القاعدية مباشرة لاقتحام مآسي النساء في البيوت وغرف نومها والأسر والعلاقات والشارع والقوانين، وتُركت في مواجهة أعنف ردود الفعل الاجتماعية وأقوى أشكال الرفض، التي تتكئ في جزء منها على انتقاد ثقافة الإلغاء وممارساتها. وهي ممارسات قد تساهم في تأصيل تلك الروح العدمية في مواجهة أوضاع سلطوية قاهرة، ولكنها من ناحية أخرى تفتح الباب لأسوأ الكوابيس، وهي توسّع العدمية الذكورية المضادة في مواجهتها، بتعميم النقد المشاعي، وباستخدام نفس غرف الصدى، والطلب على العدالة الموازية.. وصولا للطعن بالسكاكين في الشوارع!   

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.