“اليسار ضدّ التنوير؟” لستيفاني روزا.. أو التناقضات المؤسِّسة لـ”التقدمية” المعاصرة

<strong>“اليسار ضدّ التنوير؟” لستيفاني روزا.. أو التناقضات المؤسِّسة لـ”التقدمية” المعاصرة</strong>

يتعرّض إرث التنوير منذ سنوات للهجوم في أوساط سياسية وأكاديمية/ناشطيّة، تستهدف على وجه الخصوص مبادئ العقلانية والكونية، وصولا إلى المساواة وحقوق الإنسان، على اعتبارها أطروحات تسعى لترسيخ الهيمنة العرقية أو الجنسية “الغربية”، ليُحاكَمَ التنوير وميراثه، بوصفه ذريعة إمبريالية ونيوكولنيالية، أو بكلمة واحدة “أبيض”.

يستند هذا الهجوم إلى حجج عدّة منها: خصوصية المجتمعات؛ وضرورة احترام الاختلافات الثقافية؛ وإعلاء شأن التجارب الذاتية والفردية؛ وعدم تعريضها للنقد أو المساءلة أو النقاش العام؛ والتركيز على هوية الأفراد الإثنية أو الدينية أو الجنسية. الملفت أن هذا الخطاب يصدر اليوم عن أوساط تحسبها وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث يسارا. وقد اكتسب هذا “اليسار” سلطةً متصاعدة، ودعما وتمويلا راسخا، لدرجة أن بات بالإمكان اعتباره “المينستريم”، وهذا أمر غير مألوف بالنسبة لليسار والتيارات اليسارية عبر التاريخ.

إلا أن تأثير هذا التيار لا يعود فقط إلى قوته المالية والمؤسساتية، بل كذلك لارتباطه بعدد من أكثر الحركات الاجتماعية أهمية في عصرنا، مثل النسوية؛ معاداة العنصرية والتمييز و”التفوّق الأبيض”؛ نزع الكولنيالية والاستعمار ونقد الاستشراق؛ الخ. وهذا الارتباط كثيرا ما يحصّنه من النقد، لأنه يمكن بسهولة نسب النقّاد إلى معسكر أعداء تلك القيم والحقوق، من عنصريين وذكوريين و”بيض”.  

من هنا تأتي أهمية كتاب “اليسار ضد التنوير؟”، للباحثة الفرنسية وأستاذة الفلسفة السياسية ستيفاني روزا، مع الاحتفاظ بعلامة الاستفهام في عنوان الكتاب الصادر عام 2020، والذي أثار كثيرا من النقاشات، وذلك لأن كاتبته تنتمي لمعسكر القيم “التقدمية” نفسه، ولكنها تقدّم نقدا محكما لكثير من الحركات السياسية والفكرية المؤثّرة، والباحثين والفلاسفة المعاصرين، الذين ما يزال  بعضهم يقدّم نتاجه إلى اليوم.

ستيفاني روزا

يعالج الكتاب أسئلة كثيرة، تعني كل المهتمين بالحركات الاجتماعية والفلسفات المعاصرة، منها:  كيف يمكن شرح العدائية المزدهرة ضد مبادئ الكونية والعقلانية والتنوير في أوساط “اليسار”، رغم أنه ارتبط تاريخيا بالتحرر الإنساني والمبادئ الكونية الجامعة؟ وفي أي سياق تاريخي/سياسي ظهرت الأصوات المهاجمة للتنوير في أوساط اليسار؟ وما الذي يجمعها فكريا وفلسفيا؟ أو ببساطة أكثر: كيف وصلنا إلى هنا؟

انتهجت روزا في نقدها لليسار المعاصر أسلوب إظهار تناقضاته من الداخل. ولعل أبرز التناقضات تلك المتعلّقة بمصادر النقد ما بعد البنيوي؛ هجوم كثير من النسويات المعاصرات على تراث “النسوية البيضاء”؛ الخصوصية المدّعاة لمدرسة ما بعد الكولنيالية؛ والتناقض بين ادعاءات الحياد البحثي والموقف السياسي الواضح لدى كثير من الباحثين المعاصرين.

التناقض الأول: كيف بات هايدغر فرنسيا؟

تلحظ ستيفاني روزا أنه منذ أواخر التسعينيات ومطلع الألفية، ظهرت تجمعات يسارية تحت عناوين تطالب بالمرونة التنظيمية، وتغيب عنها الطروحات الاقتصادية الاجتماعية. وتزامنت هذه التحركات مع صعود أدبيات رافضة لمفهوم الثورة بوصفها انتزاع السلطة، الموروث عن الثورة البلشفية. كما ارتفعت أصوات تنعي الأيديولوجيا، وتمتدح غيابها عن برامج العمل السياسي والنقابي، بالتوازي مع نقد مركّز للتنوير والعقلانية، بحيث لم يعد التقدم الصناعي  أو الاستعمار أو تدمير الطبيعة يُدرَسون بوصفهم منتجا لبُنيةٍ اجتماعية وتاريخية، بل نتاجا للعقلانية نفسها.

وانعكس ما سبق في انتشار أشكال أدبية تعتمد أساليب التشظّي في الكتابة، والسرد بصيغة المتكلّم الغارق في التجارب الذاتية، مع عداء تجاه العلوم الاجتماعية، التي تسعى إلى استنتاج خلاصات ونتائج قابلة للتعميم، بينما تستطرد روح العداوة وصولا إلى الطب الذي يوصف بأنه “تقليدي”، يوزع مركّبات دوائية بلا روح؛ ويتعرّض للتقليل من أهميته، مقابل أشكال من الصيدلة، تعتمد جمعَ الأعشاب واستخلاص الأدوية من الطبيعة. ويترجم هذا التيار نفسه بالمحصلة بالنقد الشديد للعلم والبحث العلمي، بينما ينفتح على ممارسات سحرية بحجة أنها “أصيلة وطبيعية”.

تجد الكاتبة جذور بعض مظاهر الحنين الواضح للممارسات السحرية، وتأصيل السرد البلاغي الذاتي، ورفض العقلانية والعلم، في التقاليد الرومانسية المعادية للثورات في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. إذ يبدو أن الحساسيات الرجعية لرومانسيي القرون الماضية وصلت إلى “ثوريّي” القرن الحادي والعشرين.

من ناحية فلسفية-سياسية بدأ الانقلاب ضد التنوير بعد الحرب العالمية الثانية، عند فئة من المفكرين والمثقفين المحسوبين على اليسار، مثل تيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، وآلان باديو، وجورجيو أغامبين، وجيل دولوز، وبالتحديد ميشيل فوكو. ففي مواجهة خيبات الأمل التي أثارتها الحداثة وأوضاع اليسار العالمي بعد الحرب، سوف يزايد هؤلاء المثقفون بمزيد من النقد، مظهرين عدم اهتمام مفاجئ بالمصادر التي يستخلصون منها حججهم، ووظيفة هذه الحجج، والموقع الذي تشغله ويشغله أصحابها. وفي هذا السياق يندرج رواج الاقتباس من أطروحات الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر في فرنسا مثلا.

 وهايدغر لم يكن غير يساريّ فقط، بل كان نازيا، ولذلك فإن استقبال طروحاته لدى مفكرين وفلاسفة مثل جان بول سارتر، وجاك دريدا، وجورجيو أغامبين، وآلان باديو، موضع شك وتساؤل. إذ كيف يمكن أن نفهم مفكرين معادين للنازية، يقبلون بحماس طروحات مناهضة للعقلانية بشكل علني، ومن كاتب على علاقة غير سرية بالنظام النازي، وإن كانت بعض تفاصيلها بقيت مجهولة حتى سنوات قريبة؟ ولماذا لم تخضع للمُساءلة الجدية، تلك الروابط بين الفلسفة المناهضة للعقلانية لدى هايدغر، والحرب الأيديولوجية المعلنة من قبل النازيين على موروث التنوير؛ وبين معاداة النزعة الإنسانية الفلسفية لدى الفيلسوف الألماني، ومعاداة الإنسانية المعروفة لدى النازيين؟

مارتن هايدغر

في هذا الإطار، يحظى ميشيل فوكو بانتباه خاص، لأنه من بين الورثة اليساريين الأهم لنقد كل من هايدغر ونيتشه للعقلانية والتنوير، ونظرا للأهمية المركزية التي تحوزها أفكاره بالنسبة لليسار المعاصر. لكن التساؤل الأهم الذي تطرحه روزا في هذا السياق: هل كان فوكو يساريا حقا؟  معتبرةً أن هذا السؤال حيّرَ الجميع، لأن الجواب عليه يبقى مشوّشا، إذ يبدو أن فوكو، الذي كان في حياته يحاول الهرب دائما من التصنيفات، قد ربح الرهان.

ميشيل فوكو

في فلسفة فوكو لم تغب مسائل الاستغلال والعدالة الاجتماعية تماما، لكنها شغلت موقعا طرفيا. كما أنه لم يأخذ أي موقف علني لدعم النضال النسوي، الذي كان في أوج نشاطه في الفترة التي كان ينشط فيها. وبهذه المعطيات كان فوكو على هامش اليسار. أما عن علاقته بالتنوير فهذا سؤال ملتبس أيضا، لأن فوكو نفسه كان يرفض ما سمّاه في أواخر حياته “ابتزاز التنوير”، إذ طالما رفض الإجابة الواضحة والصريحة على هذا السؤال. وكان نقده لإرث التنوير مرتبطا بطموحه في إنتاج نقد اجتماعي وفلسفة تاريخية بديلة للماركسية. ومنذ عام 1975، توجّهت الفوكوية باتجاه المواجهة المباشرة مع إرث التنوير.

التناقض الثاني: هل التونسيات “نسويات بيض”؟

منذ نهاية السبعينيات، شهد حقل النضال المناهض للعنصرية والإمبريالية بروز اتهامات ضد النزعة الكونية والتنوير، حمل لواءها طيف ممتد من أكاديميي دراسات ما بعد الاستعمار، مرورا بناشطين مناهضين للعنصرية، وصولا إلى النسوية التقاطعية، وإسلاميين على درجات مختلفة من التشدد والانفتاح.

تسلّط روزا الضوء على بعض ملامح “النسوية التقاطعية”، التي ولدت إثر أبحاث المنظّرة النسوية والقانونية الأميركية كيمبرلي كرينشو، إذ أشارت هذه الأخيرة، في مقال تأسيسي لها منشور عام 1991، بعنوان “رسم خرائط الهوامش: التقاطعية، وسياسات الهوية، والعنف ضد النساء ملونات البشرة”، إلى الوضع الخاص للنساء السود الأميركيات، معتبرةً أنهن موجودات عند تقاطع نظامَي قمع “البطريركية والعنصرية المناهضة للسود”. تتهم كرينشو النسوية المناهضة للعنصرية وذات التوجه الكوني بالتواطؤ مع السلطة الأبوية والقمع والاستعمار الجديد. ولا يندر أن تستبدل في انتقادها بصفة “الكونية” صفة “الأبيض”.

كيمبرلي كرينشو

ترى روزا أن كرينشو تخلط بين مشاكل النساء السوداوات الأميركيات والنساء المهاجرات حديثا، رغم أنه ليس بالضرورة وجود تلك الفئات من النساء على “التقاطع” نفسه، فالأميركيات المنحدرات من ضحايا الاستعباد، والمقيمات منذ قرون على الأرض الأميركية، لسنَ كمَن وصلن للتو من المكسيك أو مكان آخر.

ولذلك فإن الهدف المعلن من تسليط الضوء على المواقف “التقاطعية” يُترجم على الفور من خلال إنشاء تمييز جذري بين النساء غير البيض والفئات الأخرى، على الرغم من أن هوية “النساء غير البيض” هي أيضا هوية مصطنعة ومتخيلة، ولا تعود بالضرورة إلى تاريخ وتجارب مشتركة.

في هذا السياق، يُعطى الجانب الاقتصادي والاجتماعي موقعا ثانويا في المحاججة، رغم أن مركزية المشكلات المادية للنساء ضحايا العنف شديدة الوضوح، بينما يتم التعامل مع لون الجلد فقط، وكأنه لا يوجد فقراء من البيض في الولايات المتحدة، أو طبقة وسطى من السود! فلا تأخذ تحليلات كرينشو بعين الاعتبار أن الطبقة الاجتماعية محدد أساسي لفهم أوضاع النساء، فيما يظهر بالنسبة لها أن العرق والنوع هما المسببان الأساسيان للفقر. وهذا استنتاج  يمكن التشكيك في صحته، فالأفراد ضحايا التمييز العرقي أو الجنسي أكثر عددا في أسفل السلم الاجتماعي، لكنهم ليسوا وحدهم، ففي فرنسا المعاصرة على سبيل المثال الأقاليم الأكثر بعدا عن المدن الكبرى تحتوي جيوب فقر مدقع، ولا تحوي عددا كبيرا من المهاجرين، بينما غالبية القادمين الجدد إلى فرنسا أكثر فقرا من المهاجرين السابقين. 

لا يعني ما سبق بالنسبة لروزا أنه لا ينبغي النضال لمحاربة التمييز العرقي، لكنّ معرفة أكثر عمقا بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للنساء يمكنها أن توجّه النضال إلى مسار أرحب، وهو ما يغيب عن عمل كرينشو، التي ترفض وضع المعركة ضد الفقر في المستوى نفسه مع المعركة ضد التمييز العرقي أو الجنسي. هكذا يجري تجنّب مسألة الاضطهاد الطبقي، على الرغم من البيانات والإحصاءات، التي تؤكد تلازم الاضطهاد الطبقي والعرقي والجنسي. على هذا الأساس تعيدنا التقاطعية إلى مطالبات “سياسات الهوية”، ما يعني التفكير بالمسألة العرقية دون الأخذ بالاختلافات الاجتماعية والمسائل الطبقية.

في السياق نفسه، تنتقد روزا ما تسميه “القراءة الثنائية المانويّة” لدى المنظّرة النسوية والباحثة الفرنسية فرانسواز فيرجيس، التي تصل في استنتاجاتها إلى ثنائية واضحة: كل المطالب النسوية، التي تأتي بها النساء البيض، مشبوهة بالضرورة، في المقابل كل المطالب التي تأتي من امرأة غير بيضاء تحوي بذرة تحرر. تتجاهل فيرجيس كل الإرث النضالي النسوي في الدول الغربية، الذي خاضته نسويات مثل المناضلة ضد العبودية ماري ولستونكرافت، والمناضلتان الأمميتان كلارا زيتكن وإيمّا جولدمان، في المقابل تحتفي بكل ما تراه “أصليا” ضد النظام الأبوي، باعتباره تقدما، حتى لو كان دفاعا عن رجعية دينية.

فرانسواز فيرجيس

وفيما تتفق روزا مع فيرجيس في رفض أن تكون حقوق المرأة مستخدمة لإعلان التفوّق الحضاري للغرب على الشرق، إلا أنها تؤكد على الاحتفاظ بالحق في نقد “النسوية الإسلامية”، المقدّمة بوصفها “أصيلة”، وتمثّل الشرق المزعوم. فهي تشبه أي توافق سياسي مع الدين، ولن تلبث أن تواجه مطبَّ التسوية بين حقوق المرأة وعقائد الأسلاف. وتذكر روزا في هذا السياق مثال محرزية العبيدي (1963-2021)، النائبة عن حزب النهضة الإسلامي في البرلمان التونسي، التي دعمت عام 2012 مشروع دستور، ينصّ على أن المرأة غير مساوية للرجل، بل مكمّلة له. فيما كانت المعارضات التونسيات للمشروع كثيرات بما فيه الكفاية للتخلّي عنه. تتساءل روزا بالسخرية، التي تميّز نقدها في مجمل الكتاب: هل كانت تلك النساء في نهاية الأمر مجرد نسويات بيضاوات منقادات وراء الإسلاموفوبيا، كما قد تَرَاهُن فيرجيس؟

التناقض الثالث: هل التفكيكية البضاعة الغربية الوحيدة القابلة للاستيراد؟

استوعبت حركات التحرر من الاستعمار الموروث التنويري الأوروبي، واستخدمته في مواجهة المُستعمر، وفضح تناقضه بالحديث عن الحريات والعدالة الاجتماعية، والمساواة أمام القانون، وحقوق الإنسان والديمقراطية. وأشارت كتابات رواد حركات التحرر إلى أهمية العلمنة والتحديث، والمساواة بين المواطنين، بغض النظر عن أصولهم أو جنسهم، إضافة إلى الرغبة في تحديث البنى التحتية، وتطوير الصناعة والزراعة واستخدام التقنيات الحديثة. وتستند روزا هنا إلى كتابات الزعيمين الهندي جواهر لال نهرو والفيتنامي هوشي منه.  

هذه الأجواء المتفائلة انتكست بعد الاستقلال بفترة قصيرة، فمع تصاعد الأزمات السياسية والاجتماعية في الدول المستقلة حديثا، شهدت سنوات السبعينيات في دول الجنوب توجّها للحدّ من دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع، وتحرير الأسواق. في ظل هذه الظروف، ازداد عدد اليائسين من الاستقلال، في مواجهة سلطات أحلّت الاستبداد مكان الديمقراطية الموعودة، وفشلت شعاراتها عن المساواة والعدالة الاجتماعية. ما أدّى إلى ازدهار التوجّهات المناهضة للحداثة ووعودها، وكانت الثورة الإسلامية الإيرانية من أهم الأحداث السياسية التي عبّرت عن تلك المرحلة.

أما في الحقل المعرفي والأكاديمي، فانطلقت دراسات ما بعد الكولونيالية ببُعدها التفكيكي، وقد يكون مثالها الأبرز “دراسات التابع” في الهند، التي ظهرت المجلة التي أعطتها اسمها عام 1982. وفي البداية كان روادها متأثرين بالماركسية، ثم أخذوا بالابتعاد عنها متبنين خطَّا ما بعد بنيوي، ليحلّ هايدغر وفوكو ودريدا محل كارل ماركس، وتكتسب “النظرية الفرنسية” لديهم أهميتها الإضافية، وهذا من نقاط التناقض الرئيسية في النظرية ما بعد الكولنيالية بالنسبة لروزا: ففي اللحظة نفسها، التي كان فيها رموز تلك النظرية يتجرّؤون على المطالبة بالتحرر من النماذج السياسية والفلسفية والاستدلالية الغربية، من أجل إيجاد أدوات جديدة لتحليل الواقع غير الأوروبي، كانوا يلتزمون بحماس بالتفكيكية، رغم أن هذه الأخيرة منتج أوروبي خالص. إذا كانت الكونية والعقلانية غير مقبولتين لأنهما تنحدران من مركزية أوروبية، فكيف يمكن تبرير نقد العقلانية استنادا إلى هايدغر ودريدا وفوكو؟ هل هؤلاء منتجات أوروبية قابلة للتصدير؟ أليس النقد التفكيكي هو الدليل الفعلي على أن قيمة الفكرة تبقى عالمية، مستقلة عن أصلها التاريخي والجغرافي؟

عدد من مجلة “دراسات التابع”

ترى روزا أنه على صعيد عالمي، وخلال سنوات الثمانينيات، قلّ انجذاب اليسار إلى الماركسية، وتوجّه إلى البحث عن طرق نظرية بديلة، فانتقلت أوروبا مثلا من البنيوية إلى ما بعد الحداثة. ويندرج ظهور “دراسات التابع” ضمن التطور العالمي لنماذج البحث النقدي لليسار، وبالتالي فهو ليس من خصوصيات “العالم غير الأبيض”. إذ أن الميل لـ”المناهج الجديدة” تزامن  في جامعات الشمال والجنوب، التي سارعت لتبني ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة وتنظيرات ميشيل فوكو، على الرغم من أن فوكو نفسه لم يكن ليرتاح إلى فكرة إنتاج طريقة معرفية مخصصة للعالم ما بعد الكولونيالي فقط.

التناقض الرابع: كيف استطاع طلال أسد الدفاع عن الختان واضطهاد المفكرين؟

يُخصِّص الكتاب صفحات نقد مطوّلة للأنثروبولوجي النمساوي الأصل طلال أسد، على اعتبار أن الأستاذ في جامعة “جون هوبكنز” الأميركية واحد من أقوى الأصوات التي تمثل تيار ما بعد الكولونيالية في الجامعات الأنجلوسكسونية، ويوصف بأنه “قد يكون أكثر أنثروبولوجي حي تأثيرا”. تعترف روزا بأهمية البعد النظري لأعمال أسد، لكنها ترى أن الخلاصات والنتائج النهائية لعمله تتلخص دوما في نقد الكونية، التي تغدو لديه مساوية “للغرب”. فالأنثروبولوجي المُسلّح بهالته الفكرية لم يتردد منذ أواخر الثمانينيات في التعليق والتدخّل المباشر والسريع في الأحداث السياسية، متخليا عن البعد التجريبي في عمله البحثي.

طلال أسد

وفي هذا تذكُر روزا العدائية التي أظهرها طلال أسد تجاه الروائي سلمان رشدي، إبان الأزمة التي عاشها الأخير، إثرَ فتوى آية الله الخميني بحقه بعد نشر روايته “الآيات الشيطانية”، ما اضطره إلى مغادرة بريطانيا، والعيش في أميركا باسم مستعار لسنوات، خشية على حياته. عدا عن الاعتداءات وعمليات القتل المنظّمة، التي استهدفت مترجمي الرواية وناشريها في إيطاليا والنرويج واليابان، واغتيال الإمام عبد الله الأهدل في بروكسل، لأنه أظهر موقفا معتدلا تجاه رشدي، كما ترجّح التحقيقات في القضية. كل هذا لم يلقَ الإدانة من أسد، رغم الطابع الممنهج والدولي للاعتداءات.

كما تذكّر روزا بموقف أسد من قضية المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، إذ رغم طرد الباحث المختص بالدراسات الإسلامية من عمله الجامعي، وتكفيره والحكم عليه بالردة، والتفريق بينه وبين زوجته، لم يتوقف أسد عند كل هذا، بل كتب مقالين ليشرح ما حصل بوصفه “نتائج قانونية واجتماعية” يمكن التنبؤ بها، في مواجهة سلوك “ضد الالتزام الإسلامي”، فبالنسبة لأسد كتابات أبو زيد حول القرآن لا تستجلب إلا الإدانة الجماعية لدى المسلمين، بينما يمرُّ بصمت كامل على حملة السلفيين المصريين، التي أجبرت أبو زيد على الهجرة من مصر واللجوء إلى هولندا.  

بالنسبة لستيفاني روزا، يتقن أسد مثل فوكو الخلط بعناية بين الممارسات النظرية والمعركة السياسية، لكنه يبقى في خلاصاته بعيدا عن مناهضة السلطوية، التي كانت تشكل ركيزة أساسية لدى فوكو. بالمقابل سبق فوكو أسد في مديح “الروحانيات السياسية” للثورة الإيرانية، أثناء الفترة التي نَظَرَ فيها بنسبوية واضحة إلى “الأصولية الإسلامية”، مستوعبا ومتفهّما تعصّب آيات الله تجاه الأقليات الدينية الإيرانية واليساريين وكل من يخالفهم الرأي.

من ناحية أخرى ينظر أسد إلى الإسلام على أنه “تقليد خطابي”، ورابط خاص بالنصوص المقدسة، وسلطة تلزم المؤمن بممارساته اليومية، فالمسلم هو المؤمن بوجود الله، والذي يعود إلى القرآن بطريقة ملموسة ووجودية، ويترجم إيمانه قبل كل شي بأفعاله، المملوءة بالمعنى من منظوره.

ترى روزا أن أطروحة أسد هذه تؤدي إلى رؤية متحجّرة وغير تاريخية للإسلام، الذي يُقدَّمُ بوصفه شكلا من أشكال التعالي الثابت في كل زمان ومكان، وكأن هذه البنية الأساسية باقية تقاوم أي تهجين أو تطور، وتواجه كل التحديات التاريخية أو الاجتماعية بالشكل والأدوات نفسها، وهذه النظرة لها وظيفة سياسية أساسية، تتلخص برفض العلمانية، لأنها جسم غريب وغير مقبول في أرض الإسلام.

هكذا يقدّم أسد الإسلام بوصفه غير متوافق جوهريا مع العلمانية، ويؤدي هذا الدفاع عن التفرّد الإسلامي دائما إلى تأصيل الهوية، وبالتالي اختزالها في كليشيهات منيعة. إذ أن العلمانية، ضمن النسق الفكري لأسد، مرادف للمشروع الغربي للهيمنة العالمية، ويجب على الشعوب المسلمة رفضها حتى لا يتم استعبادها. وضمن هذا النسق، يجري إضفاء الطابع الجوهري على الغرب وعلى علمانيته العدوانية في فكر أسد، يقابله عالم مسلم جوهريا ومتمرّد على العلمانية، ما يبدو وكأنه نسخة طلال أسد الخاصة من “صراع الحضارات”.

بالأسلوب نفسه ينتقد أسد حقوق الإنسان، من خلال مغالطات تمزج السياسات الغربية بمبادئ الكونية، لتصل إلى أن حقوق الإنسان والحريات الفردية أوهام يجب رفضها، إذ لا يتخيّل أسد العلمانية وكونية حقوق الإنسان إلا بوصفها أدوات بيد استعمار غربي، مضادة بالجوهر للشرق الروحاني؛ ولا يتخيّل أن مسلما يمكن له التسامح مع التجديف، بل يرى كل متسامح مجرد “مُغَرِبن/ مستغرب”، وهو تماما ما قاله بعد نشر رواية رشدي، إذ اعتبر من طالبوا بحق رشدي في كتابة ما يريد مُغربنين.

كما تعرّج روزا على موقف أسد من مسألة الختان، الذي يختصره بأنه “عقبة مفروضة أمام احتمالية متعة جنسية كاملة”، أي أنه يرى إدانته مجرد موقف متمسّك بالمتعوية واللذائذية الغربية. بالنسبة لأسد من الإجحاف أن تعتبر منظمة العفو الدولية “أمنيستي” مثل هذه الممارسة تمييزا، ففي الواقع الختان يمارس من قبل نساء، بناءً على طلب الأمهات والجدات، وبما أن الأمر قائم بين النساء ويستند إلى التقاليد، فهو مفهوم ومبرر لديه.  

أسئلة عن الأسئلة

ترى روزا رفض الحداثة والتنوير باسم التقليد تيارا عالميا يتقاطع فيه اليمين الأوروبي ودعاة مناهضة العقلانية والتنوير وكونية حقوق الإنسان، وتنضم إليهم اليوم تجمعات وحركات سياسية تحسب على اليسار، رغم اختلافها عن تجمعات وأحزاب اليسار التي عرفها القرن العشرون، إضافة إلى أكاديميين وإسلاميين وباحثين عن انتماءات هوياتية، لا تتوقف عن التكاثر والانشطار، والتنافس على الشرعية والمكتسبات وأحقية التمثيل في واجهات وشاشات السوق النيوليبرالية.

من ناحية أخرى تدعو روزا لتجاوز المناخ التخويفي الذي يسود الأكاديميات وأوساط النشطاء، الذي أدى إلى الخشية من توجيه النقد وفتح باب النقاش حول ما تحمله هذه التيارات من أفكار وحجج، كي لا يٌتهم المنتقدون بـ”اليمينية”. ولدَت “هذه التيارات”اليسارية” بالأساس في مرحلة أزمة اليسار، فكانت في العمق واحدا من أعراضها، واليوم باتت عاملا لإدامة وتفاقم الأزمة، وحان وقت تجاوزها، بالنسبة لروزا.  

ولكن لو استخدمنا صيغة الأسئلة التي يحاججُ بها كتاب ستيفاني روزا من ينتقدهم، فيمكننا التساؤل: كيف نتجاوز أزمة اليسار؟ وهل هذا متاح الآن؟ هنا لا يبدو أن هناك إجابات واضحة، أو مختلفة عن بعض الأفكار المتداولة في أوساط يسارية فرنسية.

 كذلك تبقى نقطة يمكن التساؤل حولها في عمل ستيفاني روزا، وهي الاستناد إلى النموذج اللائكي في فرنسا بوجه المعطيات العرقية والطائفية القادمة من الأكاديميا الأميركية، هنا يجوز السؤال، على ضوء النقاشات اليومية الدائرة حول الموضوع: ماذا عن أولئك الذين أخرجهم ذلك النموذج من حساباته؟ أو من أتوا بعدما تشكّل، وصاروا اليوم جزءا من “الأمة”؟ أو، بما أننا نقارب طروحات الكونية، ماذا عن المجتمعات التي لا يوجد لديها نموذج لائكي، وتمسّها طروحات ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة عموما؟ كذلك إذا كانت الأكاديميا الأميركية أنتجت ما أنتجته تحت تأثير “النظرية الفرنسية” وأعلامها، فهل يمكن الوقوف بوجه التأثير الأميركي العائد عبر الأطلسي اليوم باسم الاختلاف والخصوصية؟ أليس هذا تناقضا بنيويا أيضا؟ أم يمكن اجتراح أدوات أخرى للعمل لم تذكرها روزا؟      

هوامش وملاحظات:

1- ستيفاني روزا:   Stéphanie Rozaولدت 1979، باحثة وأستاذة جامعية فرنسية مختصة بالفلسفة السياسية، تتركز أبحاثها على فكر عصر التنوير والثورة الفرنسية، وأثرهما الفلسفي والسياسي منذ القرن الثامن عشر إلى اليوم.  عنوان الكتاب موضوع المقال باللغة الفرنسية

La gauche contre les Lumières ?, Fayard, Paris 2020

2- كيمبرلي كرينشو: Kimberle Crenshaw ولدت 1959، منظّرة نسوية وباحثة قانونية وأستاذة جامعية أميركية من أصول أفريقية، مختصة بالقضايا العرقية والقانون الدستوري، عرفت بتطويرها مفاهيم النظرية التقاطعية. عنوان المقال موضوع النقد في الكتاب

Mapping the Margins: Intersectionality, Identity Politics, and Violence against Women of Color

3- فرانسواز فيرجيس: Françoise Vergès ولدت 1952، منظرة سياسية ونسوية مناهضة للاستعمار والعنصرية. آراؤها موضوع النقد واردة في حوارات صحفية معها، وفي كتاب لها بعنوان

Un féminisme décolonial, Paris, La fabriqu, 2019

4- دراسات التابع: Subaltern Studies، بدأت بمجموعة من الباحثين في العلوم الاجتماعية، الذين اجتمعوا حول المؤرخ المختص بتاريخ الهند  راناجيت جوها Ranajit Guha. ظهرت المجلة عام 1982 باسم دراسات التابع، وأعطت للمجموعة اسمها الذي تُعرف به حتى الآن.

5- طلال أسد: Talal Asad، ولد 1932، كاتب وباحث وأستاذ جامعي، مختص بأنثروبولوجيا الثقافة والدين، معروف بإسهاماته في دراسات ما بعد الاستعمار، آراؤه التي ينقدها الكتاب، واردة في حوارات صحفية معه، وفي كتبه ومقالاته التالية

Formation of the secular, Stanford University Press, California, 2003

On Suicide Bombing, Columbia University Press, 2007

Genealogies of Religion: Discipline and Reasons of Power in Christianity and Islam, 1993.

 Ethnography, Literature, and Politics: Some Readings and Uses of Salman Rushdie’s The Satanic Verses, Cultural Anthropology, Vol. 5, No. 3 (Aug., 1990), pp. 239-269 (31 pages)

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.