بورن اللايف ستايل: كيف تُسلّع الدراما المصرية الطبقية؟

بورن اللايف ستايل: كيف تُسلّع الدراما المصرية الطبقية؟

بعد أن انتهى تدريجيا مفهوم “مسلسل لكل الشعب”، وباتت المسلسلات، مثل الإعلانات، تستهدف شرائح مختلفة من المجتمع، على أسس ثقافية وجندرية وعمرية، وقبل كل شيء طبقية. يبدو أن موسم رمضان 2023 هو ذروة تفجّر النقاش الطبقي وعلاقته بالدراما.

“جعفر العمدة” و”الهرشة السابعة”، مسلسلان انتزعا الاهتمام الأكبر في النصف الأول من الموسم، ودار حولهما كثير من الجدل. ومن السهل ملاحظة انتشار المقارنات المباشرة بين العملين، التي وصلت لحد التراشق بين جمهور كل عمل، واتهام كل طرف للآخر بالتطبيع والتماهي مع نماذج اجتماعية محددة، كلٌ بحسب قناعاته والشريحة التي ينتمي إليها. وهو صدام يخبئ في طياته نبرة طبقية دفينة، خاصة وأن القيم المنشودة أو المرفوضة في العملين تخضع بالأساس للميزان الطبقي، وما يمكن تصديقه بناءً عليه من شخصيات درامية تعيش في بيئات متفاوتة، ومن ثم لديها قيم متفاوتة، لكن ذلك الميزان لا يُذكر بوضوح. أو يتم التعاطي معه بازدواجية. فالجدل الدائر يساق كثيرا باسم الفن والقيم، دون انتباه للشق الطبقي المسيطر عليه.

مع الحلقات الأولى لـ”الهرشة السابعة” هوجم المسلسل لأنه يطرح فكرة المساكنة بين المرتبطين قبل الزواج، ولو على استحياء، وعلى الناحية الأخرى قرأنا هجوما على “جعغر العمدة”، بسبب عرضه لنموذج الرجل المزواج الذكوري العنيف.

منذ بضعة أيام، كتب المخرج المصري عمرو سلامة منشورا على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، ينتقد فيه المسلسلات التي مازالت مصرّة على ترويج النمط الذكوري الخشن في أحداثها، في الوقت نفسه أشاد بالمسلسلات التي تعرض الرجل الليّن المُفصح عن مشاعره، واستنتج المتابعون بسهولة أنه يعقد مقارنة بين ذكور “جعفر العمدة” وذكور “الهرشة السابعة”.

تغريدة أخرى انتشرت على تويتر، لكاتب يشيد بالطريقة التي يروج بها “الهرشة السابعة” لثقافة الصحة النفسية، والتشجيع على استشارة الإخصائيين في شؤونها، في ظل وجود شرائح اجتماعية مازالت تعتبر ذلك وصمة عار، مع الإشارة لأن الطرف الأخير هم بالتأكيد الجمهور المتماهي مع جعفر العمدة!

على النقيض هاجم البعض لهجة الحديث التي يستخدمها أبطال “الهرشة السابعة”، واعوجاج اللسان الذي وصفوه لغة “إيجيبت” وليس مصر.

أضف لذلك عشرات التعليقات والآراء التي تتغزل في شخصيات درامية بعينها في المسلسلين، ليس بسبب تصميم أبعادها فنيا، أو صدق عرضها على الشاشة، ولكن بسبب وجود سمات محمودة اجتماعيا فيها، شريف (علي قاسم) في “الهرشة السابعة” مثلا، رجل يطبخ لزوجته، وهي صفة اعتبرتها الكثيرات “سكسي” جدا، ودافعة لمتابعة العمل. أخريات من طبقات مختلفة ذبن من الطريقة التي يعدل بها جعفر بين زوجاته الأربعة، واستهوتهم فانتازيا هذا الحرملك المعاصر.

كان هذا شكل الصدام والمقارنة التي فرضت نفسها على العملين، والتي يعلو فيها صوت الطبقة والهوية والتلويح بالفضيلة أكثر من الأمور الفنية. فالعمل الفني الآن يمكنه حصد الإشادة فقط لأنه يقدم شخصيات أكثر تقدمية أو ثقافة من الشخصيات في مسلسلات أخرى، أو العكس.

وبرغم أن نبرة الجدل حول المسلسلين مزعجة بعض الشيء، لأنها تحيد كثيرا عن البوصلة الفنية، إلا أنها قد تحوي فائدة أكبر مما يقدمه النقاد المتخصصون. فهي تخبرنا بشيء أهم من محتوى الأعمال، وهو التصوّر الإدراكي لها بأعين مختلفة (perception). والتصوّر الإدراكي، كما شرحه الفلاسفة ببساطة، هو أن حقيقة الأشياء ليست فيما هي عليه، بل في كيف نراها، بعد إسقاط خبراتنا السابقة في تفسيرها والحكم عليها: القناعات، الإيديولوجيات، الاحتياجات، الانحيازات، وغيرها. كل ذلك يؤكد أن المسلسلات لم تعد تبيع لنا دراما وحسب، بل يمكنها بجانب الدراما أن تبيع “لايف ستايل”، وما يرتبط به من قيم طبقية وثقافية.

هذه الحالة ملحوظة أيضا في الدراما الأميركية المعاصرة، وانتبه لها بعض النقاد. في مقاله عن مسلسل Big Little Lies يصف مايك هيل، ناقد جريدة “نيويورك تايمز”، المسلسل بأنه يقدم “بورنوغرافيا اللايف ستايل”. على ضوء تلك المراجعة كتبت زووي ويليامز تقريرا في صحيفة “الغارديان” البريطانية عن ظاهرة تسميها “بورن الثراء” في الدراما التليفزيونية الأمريكية، كشفت فيه أن المسلسلات أيضا يتم التعامل معها من قبل الجمهور بشكل من الطبقية، إما بالافتتان بالملذات الموجودة في حياة الشخصيات الثرية، أو الافتتان بالأثرياء لحقيقة أنهم أثرياء فقط، واعتبار مشكلاتهم أكثر أهمية من مشكلات غيرهم.

نجمات مسلسل Big Little Lies

لكن، ألم يكن الثراء موجود دائما في الدراما والسينما؟ فما الذي تغيّر؟ تعرض ويليامز رأيا لعالم الاجتماع رولاند أتكينسون الذي قال: “ما يحدث يبدو مختلفا عما رأيناه في مسلسلات الماضي. حين تنظر إلى إنتاج درامي فخم للغاية، مثل مسلسل Brideshead Revisited مثلا، تجد أن الثراء في العصر الإدواردي كان مرتبطا بالتلاحم الاجتماعي. لكن مسلسلات مثل Big Little Lies تقدم حياة تنأى بنفسها عن باقي المجتمع. إنها تمثل الثروة المذهلة التي تمنح القدرة على الهروب والتخفي، فلا تتم ملاحظتها”. وتجادل الكاتبة أن ذلك ما يعطي تلك الأعمال جاذبيتها. أن يشعر المتفرج بلذة التجسس على شكل حياة لا يستطيع “أمثاله” النظر إليه في الحياة الطبيعية. فما بالك بأن يعيشوه!

نعود للتماهي والتنافر الطبقي المرتبط بمسلسلي الموسم. إذ تظهر بعض الأسئلة الهامة: هل ساهم العملان عمدا في صنع حالة “بورن اللايف ستايل” فعلا؟ أو، بكلمات أخرى، استخدما أسلوب المغازلة الطبقية لشرائح الجمهور المستهدف كلٌ بطريقته؟ وإذا نزعنا الشوائب والإسقاطات الطبقية للخطاب النقدي المرتبط بالعملين، فإلى أي مدى سيصمدان من الناحية الفنية البحتة؟

مُتخيّل الطبقة: صراع الميلودراما الهندية والوعظية الأميركية

تدور أحداث مسلسل “جعفر العمدة” في إطار شعبي مقارب للميلودراما الهندية، داخل حارة في منطقة القاهرة القديمة، دراما بطلها رجل خشن الظاهر، متمسّك بجلبابه بقدر تمسّكه بالسكن في حي شعبي فقير، متوافق مع طباعه، لكنه غير متوافق مع حجم ثروته الطائلة، التي كوّنها بعمله في نشاط الربا، جعفر (محمد رمضان) متزوج من أربعة نساء ببيت واحد، ويعاشرهن وفق جدول أسبوعي. وهو ذائع النفوذ والصيت، ويمارس دورا أقرب لفتوة الحارة، وبالرغم من كل مظاهر سطوته يخبئ في أعماقه جرحا قديما، عن ولده الذي أختطف لحظة ميلاده.

على النقيض، تدور أحداث “الهرشة السابعة” في مجتمع الأحياء السكنية المُسوّرة (كومبوندات)، أو ما يمكن وصفها بالطبقة الأرستقراطية الجديدة، التي تعيش على أطراف القاهرة، فيما يُعرف بمدن الجيل الثالث، وهي قريبة لطبقة الأثرياء التقليدية، لا من حيث المادة وحجم الثروة، ولكن من حيث “اللايف ستايل”. والمسلسل عن مشاكل العلاقات الأسرية والعاطفية بين عدد من أزواج تلك الطبقة، يتصدّرهم الثنائي آدم (محمد شاهين) ونادين (أمينة خليل). نتابع تطورات حيوات الأزواج لمدة سبع سنوات، وهي المدة التي تتحدث عنها نظرية غربية تسمى “هرشة السنة السابعة”، وتعني أن العلاقات تواجه تحديا بعد مرور سبع سنوات عليها، بسبب تغيّر شخصيات كل طرف.

الدراما في “جعفر العمدة” قائمة على الحدث والحركة والتشويق، والسرد البطولي، والرحلة بالمنطق الأسطوري الإغريقي، وتحفيز المشاعر البدائية للمتفرّج، بنخزات عاطفية عن الأمومة والأبوة والأخوّة والشهامة، بعضها يكون مؤثرا فعلا وبعضها مجرّد كليشيه. بينما تقوم دراما “الهرشة السابعة” على الحوارات والصراعات الداخلية والنفسية للشخصيات، وتعتمد على التقاط المعنى من تفاصيل الحياة الروتينية، مع التنظير المباشر حول الموضوع الذي وصل حد الفجاجة في الحلقات الأخيرة، إضافة لاعتماد أسلوب استعراضي في طرح مصطلحات غربية نوعا ما، وقضايا يسخر منها البعض باعتبارها “مشاكل العالم الأول” أو “خناقات تويتر”، هذا لا يلغي أنها مشكلات حقيقية تهم قطاعات ليست بصغيرة من الجمهور العام.

أما على الصعيد الأسلوبي، فيلتزم “جعفر العمدة” بنمط الدراما الشعبية المتوارث منذ أفلام فريد شوقي: الموسيقى التصويرية الزاعقة المعتمدة على ابتذال الناي والوتريات، والاستثمار في مشاهد العراكات المصحوبة بمجاميع، ليس لها دور سوى النظر من شرفات البيوت للشهادة على بطولات وملاحم جعفر، إضافة طبعا للأغاني الشعبية الحزينة المصاحبة للأحداث، والإغراق في الإكسسوارات، واعتماد طابع “كيتش” في الديكورات. الشيء الجديد نوعا ما هو أسلوب الإضاءة المائل للسوداوية، في محاولة مكشوفة لاستنساخ رؤية جوردون ويليز في فيلم The Godfather، خاصة مشاهد جعفر في مكتبه.

فيما يستخدم “الهرشة السابعة” أسلوبا أميركيا حداثيا بحتا، بداية من تقسيم الحلقات بحسب مواضيع منفصلة، متصلة مع عنوان فرعي لكل حلقة؛ ويمتد ذلك إلى شكل البيوت من الداخل، وطريقة الإضاءة الهادئة، والألوان المتناسقة أكثر مما ينبغي؛ وهناك العصبية في الأداء التمثيلي، ذات النسق الغربي (باستثناء محمد شاهين)؛ وكثيرا تعمّد تشويه وابتسار نطق الممثلين للجُمل الحوارية، وعدم وضوحها للمستمع؛ مع لمسات موسيقية بطابع غربي، مقتصدة في التواجد، تنوّع بين البيانو الكلاسيكي والكهربي والتشيلو والهمهمات النسائية الرقيقة، وتتداخل كثيرا مع أغنيات من خارج العمل، كلها لأصوات وفرق “أندرغراوند” غير معروفة للتيار العام، إحكاما لحالة “التغريب” المتعمدة. الأبطال حتى في حفل سبوع مولودهم يرقصون على أغاني غير التي يرقص عليها غالبية المصريين في هذه المناسبة. أضف لكل ذلك الحفاظ على الكادرات من الاختلاط بأي مظهر للحياة العامة، تكشف عن المحيط المجتمعي للبيئة المصرية بتنوعها، كي لا تشوّه الأجواء المبالغ في رقيها.

بصفة عامة، نماذج الشخصيات في العملين ليست خيالية تماما وهناك مقابل لها في الواقع. في الوقت نفسه لا يمكن تجاهل وجود أدوات جانبية مبالغ في استخدامها، لتقود في اتجاه بيع الفانتازمات الطبقية بشكل مباشر. على رأس تلك الأدوات العلاقة المضطربة بين الثروة والملكية من ناحية؛ وبين الطبقة الاجتماعية ولايف ستايل الشخصيات من ناحية أخرى. فكيف استخدم ذلك الاضطراب في كل من المسلسلين؟

الحياة في إيجيبت: متعة الطبقة غير القابلة للكسر

تظهر العلاقة المضطربة بين المستوى المادي والمُتخيّل الطبقي في “الهرشة السابعة” عبر غياب التأثير المباشر لحالة الشخصيات المادية على طبيعة حياتها، فشخصية سلمى مثلا يقدمها المسلسل باعتبارها ابنة طبقة مخملية، دون تفسير لعواقب قطيعتها مع أبويها منذ الطفولة، من كان يربيها إذن؟ وإذا كانت تكره والديها لهذا الحد فهل قبلت أموالهم في تربيتها وتعليمها الغالي؟ أو من الذي كان يصرف عليها، وإلى أي مدى؟ وكيف حافظت على اللايف ستايل المترف دون توضيح لنشاط مهني مُجدٍ تقوم به؟ شخصية سلمى تحديدا بدت مقتطعة من سياق مسلسل مدارس ثانوية أميركي، وهي أبعد الشخصيات عن المصداقية، لولا الجهد التمثيلي المثمر من أسماء جلال، في عرض نمط نفسي مقنع لانفعالات تلك الشخصية.

وبدرجة أقل ينطبق هذا على زوجها شريف، الذي يعمل في النجارة بطريقة “فنية”، ويرفض اقتراح زوجته بتكبير حجم البيزنس لمستوى أكثر احترافية؛ لأن ذلك سينال من متعته الشخصية، هذا مبرر لطيف، لكن يجعله متمسكا بمهنة لا تبدو واقعية، أو تؤمّن قدرا من الاستقرار والاستدامة، يضمنان له اللايف ستايل الذي نشاهد أثره في الحلقات.

الأمر نفسه ينسحب على شخصيتي آدم ونادين، إذ لم تتدخّل الحالة المادية أبدا في النيل من شكل حياتهما. حتى مع انقلاب الظروف التي يعرضها المسلسل، آدم يفقد وظيفته، وتمر الأمور بسلام مثير للغرابة. مشاهد السوبرماركت التي يقوم فيها بإرجاع بعض السلع، لأنه لا يملك ثمنها، بدت وسيلة سرد ملفّقة لإيصال فكرة معينة، لا تؤيدها بقية التفاصيل المحيطة، والدليل أن ذلك الرجل الذي لم يستطع شراء “صوص البرجر” قام بعدها بشهور قليلة بتأسيس مشروع استثماري لتأجير ملاعب تينس. المشروع أيضا يفشل، وتمر الأمور بسلام. نادين كذلك تعاملت طوال أحداث المسلسل مع سوق العمل وكأنه لعبة تسالي، وحين تقرر النزول له بجدية لتحقيق دخل حقيقي يضمن لها الاستقلالية تقوم بماذا؟ تدخل عالم صناعة المحتوى (من العدم وبدون ذرة خبرة أو أهلية) وتنشر حلقات بودكاست تنجح فورا وتحصل على رعاة. ما جعل الأمور تبدو وكأن هذه الطبقة محصنة ضد العثرات المادية، لمجرد أنها من “إيجيبت”.

إذا كان الهرشة السابعة صادقا بالفعل في عرضه لمشاكل الأزواج، وتقلّبات العلاقات، وموفقا جدا في تشريحه للعواطف والدواخل النفسية، فهو ملفّق بعض الشيء في عرض الحالة الطبقية. ويبدو واضحا أنه يبيع للجمهور لايف ستايل: حفلات أوتدوور، رحلات سفاري، بودكاست، دبلجة أفلام، ملاعب تينس، منزل برووف، ممارسة الجنس في مدينة دهب، تربية حديثة، تروما، توكسيك، ريباوند، كوميتمنت…الخ، والمشكلة الحقيقية هي إصرار المسلسل الدائم على حصار شخصياته داخل الفقاعة الطبقية نفسها، دون كسرها ولو على استحياء، ما يجعل تطفلنا على حياتهم يحقق لذة تلصصية فعلا، كما شرح رولاند أتيكسون. وبالتالي ففيه تسليع للطبقة الاجتماعية.

خلطة “السيدة”: فانتازم العمدة داخل الحرملك وخارجه

المبدأ نفسه، باختلاف نوع الفانتازمات، متحقق في “جعفر العمدة”، مع فارق أن جمهور المسلسل أكثر إدراكا بأن هناك خلطة ما تُباع لهم، لكنهم قبلوا الصفقة لأن المحتوى مسلٍ لدرجة كبيرة. المسألة هنا أوضح، لأن اللعب على لايف ستايل أكثر بدائية وغرائزية: الجنس، السلطة، النفوذ. ولكنها فانتازمات تحتاج لمنظومة قيمية تستطيع الجمع بين كل ذلك دون اصطدام بالموانع القانونية والأخلاقية والأمنية الحديثة، وهو أمر مستحيل إلا باستدعاء الوعاء الطبقي الشعبي، الذي يحتضن تلك الظواهر في إطار مقبول.

في إحدى الحلقات يدخل جعفر وزوجته الرابعة “عايدة” في مناقشة عن منطقة السيدة زينب، يكرر جعفر جملة: “السيدة أفضل من التجمّع”، دون ذكر السبب، وهو محق، السيدة أفضل من التجمع بالنسبة لجعفر، لأن فانتازيا “الفتوة” يصعب تصديقها في مناطق الأرستقراطية الجديدة مثل “التجمّع الخامس”، لكن يسهل تصديقها في مناطق شعبية قديمة، مازالت تحكمها بعض التقاليد، مثل الجلسات العرفية وغيرها، وبالتالي فإن تمسّك جعفر بالعيش في منطقة فقيرة وعدم الهجرة لمناطق أرستقراطية، مثلما يفعل كل الأثرياء الجدد، وبالرغم من ثروته الطائلة، أمر غير مسبّب دراميا ولا مقنع منطقيا، لكنه مُبرر في سياق حاضنة بيع الفانتازمات الطبقية.

ينسحب الأمر نفسه على الحرملك المعاصر الذي يقدّمه المسلسل، فعلى الرغم من أن الزواج من أربعة تحلّله الشريعة الإسلامية، إلا أنه ليس مقبولا اجتماعيا إلا في طبقات معينة، لذلك فاللجوء للطبقة هنا غطاء لبيع فانتازيا الحرملك.

الأمر نفسه فيما يخص السلطة والنفوذ، يتعامل المسلسل ببعض الازدواجية فيما يخص القانون الحاكم لتلك البيئة، فتارة تتدخّل الشرطة النظامية لعقاب بعض الشخصيات (عادة من أعداء جعفر)، لكن حين يتعلّق الأمر بصولات وجولات جعفر، ومعاركه التي لا تنتهي، يخضع الجميع لقانون الغابة، أو قانون الأقوى والأعدل من بينهم. معروف أن تحييد السلطات النظامية أحيانا يكون أسلوبا إيهاميا في بعض القصص، يتفق فيه المؤلف والمتلقي على قوانين أخرى تحكم عالم القصة، لكن الاتفاق في “جعفر العمدة” بدا انتقائيا، بحسب ما يخدم الصورة الذهنية عن جعفر.

يمكن أيضا ملاحظة بعض التناقض بين الربا مهنة جعفر، التي جعلته مليارديرا، وبين تشدقه برخصة دينية بالزواج من أربع نساء، وفي حلقة أخرى يعطي درسا دينيا لشخصية “سيف”، حين لوّح الأخير بوجود ظلم إلهي في موت أمه. قد يكون هذا التناقض بين جعفر المتدين وجعفر المُرابي إحدى السمات التي تعطي للشخصية جاذبية، خاصة وإنه في مواقف كثيرة يجمع بين اللين والقوة كذلك، ويجمع أحيانا بين الشر والخير، والرقة والفظاظة، فلا مانع في أن يجمع بين التديّن والمعصية الدينية. لكن المشكلة الأكبر في طبيعة مهنة المُرابي ليس عدم اتساقها مع تديّن جعفر وحسب، بل في أنها مهنة غير صالحة لتحويل ممارسها لرجل ذي ثروة بهذا الحجم الأسطوري، جعفر لا يناطح بثروته الأثرياء وحسب، بل يذلّ بعضهم بماله أحيانا. إن درجة ثراء جعفر العمدة نفسها ينقصها الكثير من المبررات والشرح، ما يجعلها أقرب لأداة أخرى من الفانتازمات الطبقية، باعتبار أن الثروة تخدم النفوذ والقوة.

الشيء الوحيد الذي يتفوّق فيه “جعفر العمدة” على “الهرشة السابعة” في المسألة الطبقية، أن أحداث المسلسل لا تدور داخل فقاعة طبقية واحدة، وتظهر في الحلقات تقاطعات أو تصادمات مع شخصيات من طبقات أخرى.

ختاما، ورغم أن المسلسلين قاما باللجوء لبورنوغرافيا اللايف ستايل، وأن ذلك ساهم كثيرا في انتشارهما وتفوقهما في الماراثون الرمضاني، إلا أنهما حازا على عديد من المزايا الفنية الأخرى. ما يجعلهما من أكثر الاعمال تكاملا من الناحية الدرامية في النصف الأول من رمضان. وبإمكاننا اعتبار أن تسليع الطبقية فيهما لم يؤثر على البناء الدرامي للعمل، أو يضعفه. أما المزايدات الطبقية بين جمهور المسلسين فهي من صلب الخيال الاجتماعي السائد حاليا، الذي لعب عليه المسلسلان، ولكنهما بالتأكيد لم يخلقاه من العدم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.