ثورات بلا مفكّرين: هل سينشأ فكر عربي جديد بعد “الربيع”؟

ثورات بلا مفكّرين: هل سينشأ فكر عربي جديد بعد “الربيع”؟

أحدثت ثورات الربيع العربي، التي اندلعت في معظم الدول العربية، تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية هائلة، لم نزل بصدد حساب نطاق تأثيرها وعمقه على المدى المتوسط والبعيد، فضلا عن الآثار قريبة العهد. وعلى المستوى الثقافي والفكري البحت، فإن أول ما يلفتنا ضعف أثر مشاريع الفكر العربي المعاصر على شباب الثورات العربية. ونعني بتعبير “مشاريع الفكر العربي المعاصر” تلك المحاولات الفلسفية، التي اتخذت لنفسها هيكل مشروع ذي استراتيجية محددة، اهتم أساسا بإعادة قراءة التراث العربي منذ نشأة الإسلام، أو حتى مما قبل الإسلام، بناء على منهجية معينة، وهي بهذا الشكل تختلف عما سبقها من محاولات فلسفية جزئية، مثل محاولات جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وعبد الرحمن بدوي، وعباس العقاد، وطه حسين، الخ، التي لم تتميز بصفة “مشروع”، أو تمتلك استراتيجية محددة الخطوات لإعادة قراءة التراث العربي وتأويله.

اتفقت كل تلك المشاريع على معادلة “التنوير من أجل التثوير”، أي فتح آفاق فكرية جديدة، تتجاوز المستقر والثابت في فهم أبناء المنطقة لأنفسهم وتراثهم وموقعهم من العالم، كي يتمكّنوا من تغيير واقعهم نحو الأفضل. ورغم هذا فإن تلك المشاريع لم يكن لها أي دور فعلي عندما حدث “التثوير” فعلا، فـ”الربيع العربي”، والمشاركون به، لم يظهروا أي اهتمام بما قدّمه “الفكر العربي المعاصر”، وكأن عقودا من المشاريع الفلسفية تبددت دون طائل. ما أسباب ذلك؟ هل انتهت صلاحية تلك المشاريع؟ وهل يمكن القول إن الفكر العربي في عصر ما بعد الربيع العربي سوف يتجاوزها، أو تجاوزها فعلا؟ وبأي صورة؟ ولأي مدى؟ باختصار: هل نحن على أعتاب “ربيع الفكر العربي”، على غرار عنوان عبد الرحمن بدوي الشهير “ربيع الفكر اليوناني”؟

 من الاثنين إلى الثلاثة إلى الصِّفْر: انحلال بنية الفكر العربي المعاصر  

تنوّعت مشاريع قراءة التراث من حيث البنية والأهداف ومادة البحث في الفكر العربي المعاصر، بين ثنائية “الإبداع والاتباع” عند أدونيس في “الثابت والمتحول” أوائل السبعينيات، وهي المحاولة الأولى التدشينية في القراءة المسحية الممنهجة للتراث العربي؛ إلى ثلاثية “البيان والعرفان والبرهان” عند المفكّر المغربي محمد عابد الجابري أوائل الثمانينيات؛ وثلاثية “الوعي التاريخي والوعي النظري والوعي العملي” عند المفكّر المصري حسن حنفي منتصف الثمانينيات؛ مرورا بثنائية “البنية الفوقية والبنية التحتية” لدي المفكّر اللبناني حسين مروّة في القراءة المسحية المادية التاريخية للتراث العربي الإسلامي؛ وأخيرا أحادية المنظور في القراءة التاريخانية للسيرة النبوية وعلوم القرآن عند المفكّر المصري نصر حامد أبو زيد؛ والقراءة الفرويدية لدى مواطنه علي مبروك لما أسماه “المركّب الشافعي الأشعري”؛ والتأويل الاجتماعي السياسي تحت مفهوم “السلطة الدينية السياسية” لدى المفكّر المغربي عبد المجيد الصغير. وفي كل تلك المحاولات يوجد عدد معين من المحدِّدات Parameters، التي يرى المفكّر أنها قد تحكّمت في مسار تطور الفكر العربي الإسلامي.

وهكذا نجد أن غالبية تلك المشاريع قد مرّت بمراحل تطور بنيوية معينة: من الثنائية، إلى الثلاثية، إلى الثنائية، ثم إلى الواحدية. وقد لا يمكن أن نعتبر مشاريع الواحدية (نصر أبو زيد، وعلي مبروك، وعبد المجيد الصغير في الأمثلة السابقة، وغيرهم) ذات بنية محدودة، إذ إن المرء لا يمكنه صنع بنية ما من نقطة واحدة، نحتاج لنقطتين على الأقل لتصوّر شكل، وأبسط الأشكال هو الخط المستقيم. في البنَى الثنائية والثلاثية أكثر من طرف، يحدث بينهما أو بينهم الجدل، والصعود والهبوط النسبيين، والسيادة والتنحّي؛ أما في الواحدية فينتفي مثل هذا الجدل. بعبارة أخرى: قد لا نعتبر المنظور الواحدي بنية معينة، بالأحرى هو انحلال للبنية.

لقد تطوّرت مشروعات قراءة التراث، التي دشنها أدونيس عام 1973 مع رسالته للدكتوراه، التي صارت من أشهر رسائل الدكتوراه في العالم العربي بأسره، من بنية ثنائية في السبعينيات، إلى ثلاثية في الثمانينيات، إلى انحلال عام في البنية، مثّله على نحو أساسي تلاميذ أصحاب المشروعات العربية المعاصرة في التسعينيات وما تلاها، في نوع من “ما بعد حداثة عربية”، تنبذ صفة المشروع ككل أو الهيكل سابق التجهيز، وتنطلق في بحث جزئي، يحدو منظورَه محدِّد واحد، في صورة من صور انحلال النسق، أو انقطاع البنية. وإن كان لا يمكننا أن نطلق صفة “النسق” هنا على نحو دقيق، فالفكر العربي المعاصر ليس فكر أنساق ومذاهب، بل هو فكر “مشاريع”، والسبب في ذلك هو عينه السبب في تاريخ ميلاد البناء المشروعاتي للفكر العربي المعاصر في أوائل السبعينيات، وعام 1973 تحديدا، عام أول هزيمة للجيش الإسرائيلي على أرض سيناء، والنجاح المبدئي في اجتياح الجيش السوري لهضبة الجولان، وتحقيق انتصار نسبي بعد سقوط شعارات القومية الاشتراكية العربية. وهذا يلج بنا إلى الخصيصة الثانية من خصائص “الفكر العربي المعاصر”.

المثالية والتنوير: “العقل” بدل الدولة

الخصيصة العامة الثانية لمشروعات الفكر العربي المعاصر، بالرغم من اختلاف مناهجه ومنطلقاته، هي التحوّل المركزي الواقع فيه وفي مجتمعه بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل، وسقوط شعارات القومية والوحدة والدولة الكبرى Superstate، أي وحدة سوريا ومصر 1958-1961، والأمل في أشكال أخرى من الوحدة بين دول عربية مختلفة؛ وبعد انهيار التصور العلماني-الاشتراكي-الوحدوي للعرب، الذي بدأ تاريخيا في الواقع مع الثورة العربية للشريف الحسين عام 1916 ضد الهيمنة العثمانية.

حين تراجعت فكرة التوحيد القومي على النمط البسماركي (نسبة لأوتّو فون بسمارك والرايخ الألماني الثاني) بعد الهزيمة، بدأ المفكرون ينحون جهة معادلة مختلفة مثالية، هي أن التغيير يتم من أعلى إلى أسفل، لأن تغيير المجتمع بتغيير الفئة الحاكمة للدولة قد أثبت فشله على أرض فلسطين والضفة الغربية وسيناء والجولان، وصارت أطروحة تغيير الفكر قبل تغيير الواقع هي الأقرب إلى “الواقع”، على ما في هذه العبارة من إشكال لغوي. وهي أكبر ردة مثالية شهدها الفكر العربي المعاصر عموما. على أية حال فهذه المعادلة نفسها هي قولنا: إن التنوير يجب أن يسبق التثوير، وإنه لا بقاء لثورة، ولا أمل في تقدم، دون تثوير العقول قبل الدول، ودون تحديث الأفكار قبل بناء الجيوش، وترميم الآثار، وطلاء الجدران المشروخة والأسوار.

ومما دعم هذه المعادلة بقوة، لتستمر إلى بدايات القرن الحادي والعشرين، هو معادلة الدولة نفسها، أي السيطرة الأمنية، التي حظرت تقريبا في الدول العربية كل مشاركة سياسية مدنية. وقد أدى انغلاق المجال السياسي إلى بحث المفكرين العرب المعاصرين عن استراتيجية مختلفة، لا تحاول المشاركة في السياسة، بل تقّدم الإصلاح الثقافي على الإصلاح السياسي. وهذا قريب من استراتيجية اليسار الهيغلي المبكر (قبل ماركس وإنجلس) التي اتخذت من نقد المسيح والثقافة بديلا ممكنا عن نقد إمبراطور الرايخ والسياسة. وكانت نقطة التحوّل في مسار اليسار الهيجلي من الثقافة إلى السياسة هي عبارة: “لقد حلّت الدولة محل الكنيسة” للودفيغ فويرباخ، أستاذ ماركس وإنجلس، الذي أكّد على أن السياسة هي الفاعل الحقيقي، لا العقيدة ولا الثقافة، ومن هنا انكسر مسار يسار هيغل، وتحوّل، في منعطف بالغ الخطورة والأثر، إلى الثورة بالمعنى الحرفي للكلمة، وتبلور بعدها اليسار الماركسي كما نعرفه اليوم.

فهل يمكن القول إن ذلك المسار حتمي، وإن طال، ليتحول الفكر العربي من نقد الثقافة إلى النقد المباشر للسياسة، وتغيير المنطقة والعالَم؟ ولكنّ ألمانيا ليست مصر، وليست سوريا، وقد تطوّر الرايخ الثاني إلى إشعال حرب عظمى، ثم إلى الرايخ الثالث القاتل.

أزمة الفكر العربي المعاصر لا تنحصر في مثالية المنطلقات، بل في دورانه إلى ما لا نهاية حول الحلول المثالية، أي أن المفكّر العربي المعاصر يشخّص الأزمة الاجتماعية بأسباب مثالية، ويظل طيلة مشروعه وعمره يحاول تفكيك هذه الأسباب وكشفها، بمناهج مختلفة، في حين أن أية حلول لأية أزمة اجتماعية من المنطقي أن تنتهي إلى حلول اجتماعية، بعد المرور بمرحلة من المعالجة المثالية. فمشكلة التخلّف العلمي مثلا لها بالتأكيد أساس مثالي يتعلّق بالرقابة الدينية، وفقر ثقافة البحث العلمي، وضعف الاعتقاد في مبدأ السببية على المستوى الثقافي، الخ، لكن لها أساسا مهما في ضعف ميزانية البحث العلمي، وتخلّف نظام التعليم، في تركيزه على الكم بدلا من الكيف. وهذه الأوجه الأخيرة من التخلّف لا يمكن أن تُواجَه بحلول مثالية، تتطلب حل مشكلات أخرى، تُواجَه بحلول مثالية، الخ.

يشخّض المفكّر العربي ويحلل، وينقد، ويفكك إلى ما لا نهاية، دون أن يضع حدودا للمعالجة تنهي هذا التفكيك. المفكّر العربي مفكر لا نهائي، يفكّر من دون طرح حدوده الاجتماعية، أو حتى الإقرار بها. وهذا عينه ينتقل بنا إلى الخصيصة الثالثة، التي قد تكون أخطر الخصائص التي حدّتْ من أثر “الفكر العربي المعاصر”.

 الأحافير الأيديولوجية: حرب الجبهات التراثية

إلى جوار الخصائص البنيوية، والمنطلق المنهجي المثالي العام السابق، هل يمكن رصد منهجية مشتركة رغم التباين الواسع في مشروعات الفكر العربي المعاصر، من العراق شرقا إلى أقصى المغرب الكبير؟ في الواقع يمكن، لأن المنطلق المثالي السابق قد فرض على المفكّر منطقيا، وكي يتسق مع نفسه، أن يسبغ على الخصم الأيديولوجي المعاصر أصولا مثالية كذلك. على سبيل المثال فإن سيطرة المؤسسة الدينية الإسلامية المصرية، أيْ الأزهر، في مجال الفتوَى ومجال التفسير (التفسير الوسيط الصادر عن مجمع البحوث العلمية بالأزهر)، وتقديم نفسها كحائط صد ضد التطرّف في الاتجاهين: اتجاه الإسلاميين المتطرفين، واتجاه العلمانيين، له أساس مادي واضح، هو كونها جانبا جوهريّا من مؤسسة الحكم نفسها، تماما مثل ماسبيرو (الهيئة الوطنية المصرية للإعلام)، بيد أن المفكّر العربي المعاصر (حسن حنفي وعلي مبروك مثلا)، يفترض لها أساسا مثاليا، هو الفكر الأشعري الناشئ بين القرنين الثالث والرابع الهجريين. وهو ما يؤدي منطقيا كذلك إلى توجيه عمل المفكّر العربي إلى ذلك الخصم الماضوي، فهو جذر الخصم المعاصر، وأحفورته التاريخية.

يمكن تسمية هذه المنهجية “الحفر الأيديولوجي”، وهو ما يعني باختصار قيام المفكّر بتوظيف التراث توظيفا أيديولوجيا سلبيا، أي أنه لا يدعو إلى أيديولوجيا واضحة بشكل إيجابي، لكنه غالبا ما يجابه الآخر الأيديولوجي المعاصر تراثيا عن طريق هذا المنهج، الذي يقوم على انتقاء نموذج معين من التراث، مثل الأشاعرة، أو ابن رشد، أو المعتزلة، ثم يعيد بناءه، فيعيد وصف هذا النموذج بناء على ظروف تاريخية-سياسية-اجتماعية منتقاة بدورها، لإثبات دور معين لهذا النموذج في الدولة، ثم يوجه النقد في النهاية لهذا النموذج المعاد بناؤه أو اكتشافه على أساس كونه اتجاها مُغرِضا مدفوعا من قبل سلطة أو طبقة اجتماعية، وهو ما يسحب البساط من تحت أرجل الخصم المعاصر، الذي هو امتداد لهذا النموذج إلى اليوم.

استعمل أغلب المفكرين العرب المعاصرين هذا المنهج منذ أدونيس، فقد أخذ به الجابري، ثم الطيب تيزيني، وحسن حنفي، ونصر أبو زيد، وعبد المجيد الصغير، وعلي مبروك، وغيرهم. إلى درجة أن هذه المنهجية قد صارت “كلاسيكية” وتقليدية، لا يتساءل المفكر عنها هي نفسها قبل الإسراع بتطبيقها في سياق تعبير “المسكوت عنه في التراث”، و”نزع أحجبة التقديس”. وصار التباين من هذه الزاوية بين المفكرين العرب المعاصرين يتم حسابه على أساس نوعية النماذج التاريخية المنتقاة. هذا برغم كون هذه المنهجية تقطع قطعا حادا وغائرا مع أي معنى للعلمية المبتغاة، بما تسمح به مناهج العلوم الإنسانية في المعالجة الموضوعية، إذ إن النماذج المنتقاة منتقاة ببساطة، ومقتطعة من ظروفها التاريخية، والمعالجة الحفرية لا تتمتع بمراجع تاريخية كافية، أو ذات مصداقية علمية عالية. وإذ نظرنا في مجمل كتابات ما يمكن تسميته “مدرسة القاهرة”: حسن حنفي ونصر أبو زيد وعلي مبروك، فلن نجد تقريبا مرجعا تاريخيا واحدا متخصصا! والتعجّب مقصود.

كل هذا جعل مشاريع الفكر العربي المعاصر في النهاية حرب جبهات تراثية. وكما رأينا في مثال الأزهر السابق، فقد أعلن الأزهر بالفعل منذ أعوام قليلة أن عقيدته هي الأشعرية، وهذا في حد ذاته تمويه لدوره السياسي، وكونه ترسا أساسيا في آلة السلطة، وضلعا من أضلاع الدولة بالمعنى السلطوي، فسار المفكّر العربي في مسار التمويه، وحارب طواحين الهواء. وهو ما أفقده مشروعية البحث العلمي الدقيق، الذي يتحرّى الموضوعية والحياد العلميين ما استطاع من جهة؛ ومن جهة أخرى فقد صار عمله أقرب إلى شعارات، ومنشورات حزبية بالغة التعقيد، أي مونولوجات لا يخاطب بها المفكر إلا نفسه. بعبارة أخرى: إن الافتقار إلى الموضوعية يعوق قدرة المفكّر على اقتحام معسكرات الخصوم الأيديولوجيين؛ فالمعالجة العلمية هي الوحيدة الكفيلة بهذا الاختراق، أما المواجهة غير العلمية فيستطيع المرء القيام بها دائما، والفرق في درجة التركيب والتعقيد والرطانة.

ربما لهذا يمكننا أن نفهم لماذا لم تكن “مشاريع الفكر العربي المعاصر” مؤثّرة بمن خرجوا في الربيع العربي. ليست المشكلة في جيل جديد لا يقرأ، ولا يهتم بما خلّفه الجيل السابق من مشاريع، وإنما في أن تلك المشاريع نفسها كانت مغرقة بالمثالية، وبعيدة عن المعطيات الاجتماعية الأساسية؛ بل ومفتقرة للعلمية من الناحية النظرية البحتة، فلم تكتسب أي معنى في مرحلة الانفجار الاجتماعي الفعلي على الأرض.

ولكن ماذا عن فترة “ما بعد الربيع العربي”؟ هل يمكن الحديث عن فكر جديد؟

 القُفل والمفتاح: فيمَ يفكّر المفكّر العربي المعاصر؟

بدأت مشروعات الفكر العربي المعاصر بداية طموحة، بوصفها مشروعات مسحية كبرى، تدشّن لبداية جديدة بروح جديد في التعامل العلمي مع التراث، وتصوغ مفاهيم جديدة، وتكشف حقائق غفل عنها المفكرون من قبل، وترسم خارطة ذات أبعاد أربعة للعقل العربي بإضافة بُعد التاريخ، ثم انحلت البنية في العقد الأخير من القرن الميلادي المنصرم، لتنكفئ على حدود ضيقة، تعالج مشكلة واحدة معينة، أو تلخّص كل المشكلة في مركب فكري وحيد، مما قلّل بالتأكيد من شعبيتها ومن أثرها، بمحدودية متزايدة في طموحاتها. ولعل السبب في تحلّل البنية المذكور، وانحسار مساحة المعالجة، هو نشأة جيل جديد من تلامذة الجيل الأول من المفكرين، لم يعاصر التحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى، مثل صعود القومية الاشتراكية العربية، وهزيمتها. لم ير الحلم ولا الكابوس، فجاءت طموحاته بقدر معرفته بالتاريخ القريب.

أما المثالية اللا نهائية فقد جعلت المفكّر العربي المعاصر كمن يصنع القفل، ويغلق به زنزانته، ثم يجعل كل همه اكتشاف المفتاح، برغم أنه هو من صاغ السؤال، وبالتأكيد يعرف الإجابة، أو يعرف ألّا إجابة. هذا بينما مارست منهجية الحفر الأيديولوجي الدور المكمّل لوحدة المفكّر العربي في زنزانته الانفرادية، بخلق المونولوج المناسب تحديدا للحوار مع النفس، في عالَم لا يوجد به إلا واحد.

لا يمكن أن يكتمل مشروع المفكّر العربي المعاصر، أو أن يكتسب جدوًى من دون اتصاله بالواقع المعيش، بالعمل الحزبي، أو بالعمل الثقافي المباشر. لا يعني ذلك فحسب أن يكون للمفكّر نشاطه السياسي والثقافي، فأغلب المفكرين المذكورين، وغيرهم، كانوا بالفعل من الناشطين سياسيا أو ثقافيا، بل يعني أن يصير ذلك العمل السياسي أو الثقافي، جانبا أساسيا في مشروع المفكّر العربي؛ وأن عليه، إن انسدّ المجال العام أمام هذا الجانب العملي، أن يعترف بهذا الانسداد، فهذه في حد ذاتها نتيجة هامة، وشهادة أهم.

لكنّ السؤال عمّا بعد الفكر العربي المعاصر ينطلق إلى حدود أبعد من ذلك، فقد أثبت الربيع العربي ثلاث حقائق هامة رئيسة، بالاختبار على أرض الوقع: أولها فشل الإسلام السياسي في المشاركة الديمقراطية، خاصة حين وصل إلى الحكم، كما وقع في مصر وتونس؛ وثانيها أن معادلة الفكر العربي المعاصر المثالية، والقائلة بضرورة أسبقية التنوير على التثوير، غير حتمية في الواقع، وأن الجماهير قد تثور برغم تعثّر مشاريع التنوير، وبرغم تخلّف التعليم؛ أما الحقيقة الثالثة فقد تكون أكثر أهمية، وهي أن الثورات، التي تقودها فئات متعلمة، وتتكلم باسمها، غالبا ما تفشل، وتؤدي إلى ثورات مضادة أشرس وأعنف، وأن الأقرب إلى تغيير جذري للواقع هو الثورة المرتبطة بالبعد الاجتماعي العميق، بالفوارق الطبقية، وبالتمييز العنصري العرقي والجنسي، وهي الثورة الوحيدة القادرة على تغيير المجتمع حقا.

وإن كان الإسلاميون في العالم العربي قد استلهموا ثورة إيران الإسلامية بشكل أو بآخر رغم اختلاف المذهب الديني، فربما تستلهم إيران اليوم من العرب حقيقة سقوط الإسلام السياسي، ويصير الربيع العربي منبعا لإلهام عالميّ الطابع، يبشر بعصر ما بعد الربيع العربي، وما بعد “مشاريع الفكر العربي المعاصر”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.