“جرأة” الدراما العربية: هل انتهكت منصات العرض المنزلي الخطوط الحمر؟

“جرأة” الدراما العربية: هل انتهكت منصات العرض المنزلي الخطوط الحمر؟

عرضت منصة “شاهد” مؤخرا مسلسل “أزمة منتصف العمر”، من تأليف أحمد عادل، وإخراج كريم العدل، والذي رُوّج له بوصفه مسلسلا “جريئا”، إذ تدور حبكته حول “رجل يقع في غرام أم زوجته”، الأمر الذي يُفترض أنه يفتح كثيرا من الملفات الشائكة عربيا: الجنس، الحب الحرام، الخيانة، الخ.

كما عرضت “شاهد” قبل هذا بعدة شهور مسلسل “الليلة واللي فيها”، بطولة زينة، علاء مرسي، محمد شاهين. من تأليف محمد رجاء، وإخراج هاني خليفة، الذي يحمل بدوره فكرة جريئة، تناولها غير مألوف في السياق العربي، حول أزمة امرأة مع ميولها الجنسية، واستمتاعها بتخيّل تلقي الضرب والإذلال أثناء العلاقة الحميمة. وهي ميول تخشى مصارحة زوجها بها، ما يتسبب بفتور علاقتهما، وخيانتها له، وفي ليلة خيانتها تقع عديد من الأحداث، التي تجعلها تتورّط في جريمة قتل.

دوافع “الجرأة” في الأعمال الفنية عموما قد تكون شديدة التنوّع، منها مثلا الدخول إلى مناطق المسكوت عنه في الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية؛ أو قد يقتصر الهدف على تقديم بعض الإثارة والمتعة للجمهور، المتعطّش دائما لرؤية الجديد وغير المألوف؛ وفي بعض الأحيان تكون الغاية مجرد الترويج لعمل فني ما، عبر تقديمه تحت يافطة “الجرأة”. ويبدو أن وصول مفهوم منصات العرض إلى العالم العربي شكّل فرصة للفنانين للتحرر من كثير من القيود الرقابية، التي كانت تثقلهم في الإنتاج التلفزيوني، وحتى السينمائي. فهل استغلّ منتجو اعمال المنصات تلك الفرصة؟

متابعة العملين قد تثير بعض علامات الاستفهام حول فهم المنصات والعاملين فيها لمفهوم “الجرأة”، لأن حبكتي المسلسين حافلتان بالإمكانيات الفنية والفكرية، إلا أن المُشاهد لا يرى تحقيقا فعليا لتلك الإمكانات، بالمعنى الحرفي لكلمة “يرى”، إذ جاءت المشاهد التمثيلية متحفّظة وخائفة وبعيدة كل البعد عن “الجرأة”؛ أما على مستوى الطرح، فمن الصعب رصد أي خروج عما هو سائد أخلاقيا وفكريا وأيديولوجيا في بقية الأعمال الفنية العربية. وكأن القائمين على العملين يريدون أن ينزعوا عن الجنس والخيانة والعنف والمُحرّم كل ما فيهم من أبعاد معقدة، ويقدموا نسخة مطهّرة عنهم.

 لماذا يبقى مفهوم “الجرأة” أسير هذا الفهم المحافظ حتى عندما تزول كثير من القيود الرقابية؟ ولماذا إنتاج أعمال “جريئة” إذا كان منتجوها غير مستعدين لتجاوز الخطوط الحمراء القديمة؟ 

أين الجرأة؟ نحن لم نشاهدها

يقدّم مسلسل “أزمة منتصف العمر” العلاقات الحميمية “المحرّمة” بأسلوب إخراجي مثير للتساؤلات، إذ يعتمد أساسا على الحوار، وكأننا في عمل إذاعي، مع بعض الرموز والإيحاءات، التي تشير، بطريقة لا تخلو من سذاجة، إلى وجود “شيء ما جنسي”.

الأعمال التلفزيونية، وكما هو واضح من اسمها، تعتمد في إيصال محتواها على الصورة أساسا. وإذا كان موضوعها الجنس والخيانة فلابد أن يظهرا على مستوى المشاهد المصوّرة، والحركة الجسدية للممثلين، وإلا فليختر صانعو العمل لأنفسهم موضوعا آخر.

عندما يلجأ مسلسل تلفزيوني إلى تقنيات الحوار لتقديم موضوعه أيًا ما كان، فذلك لن يؤثر فقط على العمل، بل يؤثر في فهم طبيعة العملية الفنية وفن التمثيل من الأساس، ويؤدي للتعامل مع جسد الممثل بصفته جمادا غير قابل للتفاعل وتقديم المشاعر.  

لماذا الجرأة؟ هل أجبركم أحدٌ عليها؟

لا يبدو أن الموضوع يقتصر على الخوف من التجسيد البصري للعلاقات الحميمة، فـ”أزمة منتصف العمر” يطمّئن جمهوره أيضا أن شبهة “زنى المحارم” مجرّد سوء تفاهم، لأن أم الزوجة، التي يعشقها الزوج، ليست أمها فعلا، بل قامت بتربيتها فقط. هكذا فإن الزنى الواقع، والذي يجب أن نفهمه من خلال الحوار، مجرد زنى “عادي”.

هذا الجهد لتلافي أي سوء تفاهم حول “زنى المحارم” لا يتعلّق بتبرئة شخصيات العمل الخيالية، وإنما بتبرئة صنّاع العمل أنفسهم، الذين لن يورّطوا أنفسهم حتى بتخيّل عالم تحدث فيه مثل هذه الأمور. فالخيال أيضا إثم.

يلعب هذا النوع من الأعمال على تخوم ما يسمى “قيم الأسرة” المصرية والعربية، لا يبقى تماما ضمن حدودها، ولكنه لا يتجاوزها كثيرا، ويخترع خطوطا درامية لا لزوم لها، تُثقل حبكة العمل، لأغراض هذا “اللعب”. إلا أن الهدف هنا ليس تحقيق تجاوز تدريجي للخطوط الحمر، وإنما نوع من “تطهير” المشاهدين، إذ يوحي لهم بأسلوب غير متقن (ولا يريهم) إلى أين يمكن أن تصل الخطيئة، ثم يعيدهم بأمان إلى قيمهم، داخل الخطوط الحمر، وبالتالي فهو يسعي إلى ترسيخ القيم وتصليب الحدود، وليس إلى التجاوز.

يصبح السؤال هنا: لماذا إذن اختيار المواضيع الجريئة؟ كان بالإمكان تقديم محاضرة توعية عن مخاطر الخيانة والشهوة الحرام. والإجابة ربما تكون واضحة: الترويج للعمل فقط! فتقديم مسلسل تحت يافطة “الجرأة” سيحقق مزيدا من المشاهدات. وهو نوع من الترويج يمكن وصفه بالمخاتل. إذ أن صانعي العمل  يستخدمون “الجرأة”، التي يرونها غير أخلاقية، لتسويق منتجهم. 

لماذا يظهر “الممثل المحافظ” في “العمل الجريء”؟

يعتقد ممثلون كثر أن تصدير صورة “الممثل المحافظ” أمر يرفع من شأنهم، ويزيد من شعبيتهم في المجتمعات العربية. فيفرضون شروطهم على الأعمال التي يقدمونها، ما يجعلها مقيّدة وشديدة الضعف..

عندما نريد أن نتابع عملا يقارب مسائل مثل الحب والجنس، فغالبا لن نرى من الممثلين إلا فتور المشاعر وعدم انسجام الأجساد، وكأن العشّاق يخافون من اللمس أو القرب؛ أو أن الإنسان الذي مسّه الشغف، دافعا به إلى الجنون والجريمة، يخجل من أي يقوم بأي حركة أو ايماءة مُخلّة.

يقلّل هذا من شأن العنصر التمثيلي ككل، فيبدو الأداء في تلك الأعمال بعيدا عن الاحترافية. وبتهميش أهمية جسد الممثل تختل باقي عناصر العملية الفنية. إذا كانت لدى الممثل مشكلة مع أداء مشاهد التلامس الحميم، فلماذا يوافق أصلا على تجسيد سيناريوهات تدور حبكاتها الأساسية عن الجنس؟

يبدو أن مفهوم التمثيل عند كثير من النجوم المعاصرين مختزل في “الحضور” في الأعمال الفنية، وإلقاء الحوار، وفقط.

أين توجد الرقابة فعلاً؟

هناك دائما أصوات تطالب بالاكتفاء بالإيحاء في الأعمال التلفزيونية والسينمائية، وإيصال الفكرة دون “خدش الحياء”. وهي تعبّر عن فهم عتيق بعض الشيء لـ”دور الفن ورسالته”. إذ بإمكانه التحريض على “الفجور” او تقويم السلوك، ولذلك فيجب تكريسه للغايات الاجتماعية والوطنية السامية.

يجعل كل هذا من طرفي اللعبة (المبدع والمتلقي) خائفين وساذجين، وغير قادرين إلا على تكرار صيغ وأفكار ومفاهيم قديمة، بدون أية إية إضافة عليها، اللهم إلا يافطة “الجرأة”، التي قد تصنع “التريند” لأيام محدودة.

الغريب أن صنّاع هذا النوع من الاعمال لا يحاولون الاستفادة على الإطلاق من الإمكانيات التي توفرها منصات المشاهدة المنزلية، التي تقوم بتوضيح الفئات العمرية المناسبة لكل عمل من أعمالها، كما أنها تطلب اشتراكا مدفوعا، ولا “تفرض نفسها” على المشاهدين، ما يفترض أن المشاهد واعٍ بما سيشاهده، وأسباب اختياره لهذا العمل أو ذاك دون غيرهما.  

يبدو أن المشكلة ليست في الوسيط، سواء كان التلفزيون أو السينما أو منصات العرض، بل في أن عقودا من تراكم “الثقافة النظيفة”، في كل المجالات الفنية، جعل هذا النمط من المعالجات والأداءات هو “الطبيعي”.

لا يقدّم كثير من الفنانين المعاصرين فنا “نظيفا” لأنهم يخشون القيود الرقابية، بل لأن هذه القيود موجودة في داخلهم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.