خطيئة شاكيرا: هل لا نريد حقاً أن نكون ساعات Rolex؟

خطيئة شاكيرا: هل لا نريد حقاً أن نكون ساعات <strong>Rolex</strong>؟

أشعلت المغنية الكولومبية شاكيرا جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية، بعد إصدارها أغنية تسخر فيها من شريكها السابق جيرارد بيكيه، وصديقته الجديدة كلارا شيا، فخلال أيام قليلة حصدت الأغنية عشرات ملايين المشاهدات على موقع يوتيوب. بدأ الترويج للأغنية من خلال طائرة حلّقت فوق المنتجع الساحلي الأرجنتيني “مار دي بلاتا”، وحملت لافتة مكتوب عليها مطلع الأغنية: “ذئبة مثلي ليست لشخص مثلك”. وبعد ذلك تم إطلاقها بشكل رسمي، لتثير كثيرا من الجدل والانتقادات والآراء المختلفة حول كلماتها ومضمونها. الملاحظ أن المستفيد الأكبر من الأغنية، التي أرادت شاكيرا أن تعبّر بها عن غضبها وألمها، كان علامات تجارية، قدّمت لها مغنية البوب دعاية كبيرة، مجّانا وبشكل غير مقصود (ربما).

بدت شاكيرا هادئة ومتوازنة عندما اكتشفت أمر خيانة شريكها، وانفصلت عنه بطريقة عقلانية تناسب سيدة قوية ومشهورة، يتابعها ويحبّها ملايين الناس. وظن كثيرون أنها تتابع قضيتها معه خلف الكواليس، وتحاول التعافي واستكمال حياتها، لكنها ما لبثت أن فقدت رباطة جأشها، وبدأت تتصرف بطريقة وصفها البعض بـ”المرتبكة”.

في الأغنية تقول شاكيرا، البالغة من العمر خمسة وأربعين عاما، إن شريكها، الذي يصغرها بعشر سنوات، فضّل عليها فتاة أقل قيمة منها. استبدل بساعة غالية من ماركة رولكس، ساعةً رخيصة من ماركة كاسيو؛ وبسيارة فيراري فخمة، أخرى من ماركة توينجو الأرخص ثمنا والأقل شهرة. كانت استجابة بيكيه التعاقد مع كاسيو وتينجو لتقديم إعلانات لهما.  

ليس هذا هو المهم على كل حال، شاكيرا ارتكبت في أغنيتها ما يمكن اعتباره “خطيئة” شديدة الاستفزاز، وهي تشييء النساء عموما، عبر تشبيه نفسها ونساء أخريات بسلع وعلامات تجارية شهيرة، وذلك بعد عقود طويلة من النضال النسوي ضد هذه النظرة الدونية للنساء. وشاكيرا ليست شخصا عاديا، بل “مؤثّرة” يتابعها ملايين الفتيات والمراهقات، وليست تلك هي الصورة التي يجب نقلها للأجيال الجديدة.

تم التركيز أيضا على ما تستبطنه الأغنية من كراهية للنساء، وتعالٍ على أفراد الطبقات الأدنى، الذين لا يمكنهم أن يحلموا برولكس أو فيراري. وهؤلاء غالبية جمهور شاكيرا، بل هم من جعلوها فعليّا “شاكيرا”، إذ أن كل ثروتها وشهرتها تقريبا تأتي منهم.

إلا أن كل هذه الانتقادات، المحقّة بالتأكيد، لم تتعمق غالبا في محاولة تحليل قول وموقف شاكيرا، وكأنهما مجرد خطيئة فردية تستوجب إدانة مرتكبها، وتخليصه منها، وذلك رغم كثرة الأسئلة التي يطرحانها: نلاحظ مثلا أن المغنية الكولومبية اعتبرت تشبيه نفسها بالسلع الغالية علامة على القوة والاستقلالية، وليس الخضوع أو الضعف. كما أن اعتبار ذاتها “غالية”، أو حتى “باهظة الثمن”، كان تعزيزا لقرارها بالانفصال ومواصلة حياتها كما تهوى، وليس لمجرد البحث عن رجل/مالك آخر لها بوصفها من سلع الرفاهية. فما الذي يعنيه بالضبط تسليع شاكيرا لنفسها؟ وما السياق الأكبر الذي يتم فيه؟ هل رغبتنا بالتمثّل بالسلع الغالية، واعتبارها جانبا من قوتنا، مجرد فكرة غبية لنساء لم تحررهن النسوية بعد؟ وبعبارة أخرى: هل فعلا لا نريد، أو لا يريد معظمنا، أن نكون مثل شاكيرا، ساعة رولكس؟ وهل سنكسب “أنفسنا” فعلا لو رفضنا التسليع؟

البحث عن “الصفة الإنسانية”

تشييء أو تسليع النساء أمر له انعكاساته شديدة السلبية، بإجماع أغلب من درسوا الظاهرة. على سبيل المثال تقول دراسة بعنوان “أوجه تسليع المرأة”، نشرتها مجلة “العلوم” في البرازيل: “لا تُقدَّر النساء المُسلَّعات لخصائصهنّ الإنسانية، لذا فإن صحتهنّ وسلامتهنّ الجسدية ورفاهيتهنّ تفقد أهميتها أيضا، مما يفتح المجال للانتهاك والعنف المُمارس ضد المرأة”.

وتشير الدراسة إلى أن “تشييء النساء يبدل صفاتهنّ البشرية، مثل الاستجابة العاطفية والدفء الشخصي والانفتاح المعرفي. ويتم التعامل مع أجسادهنّ كشيء، يمكن كسره وانتهاكه وإيذاؤه، وبالتالي لا يتم نزع الصفة الإنسانية في حالات الصراع أو التقييم السلبي الشديد وحسب، بل يصبح التجريد من الإنسانية ظاهرة اجتماعية يومية، ومتجذّرة في العمليات الاجتماعية المعرفية المشتركة”.

إلا أن الأمر المثير للتساؤل هو مفهوم “الصفة الإنسانية”، الذي تركّز عليه غالبا الدراسات الناقدة للتسليع. هل هذه “الصفة” أمر بديهي؟ كيف نكتشف، ومن ثم نحدّد، إنسانيتنا “الحقيقة” في عصر مليء بالسلع، وقائم على الاستهلاك الواسع، وعلاقات العمل والترقّي الاجتماعي التي لا ترحم؟ تبدو فكرة “الصفة الإنسانية” التي ينتزعها التسليع غامضة وفلسفية جدا. وإذا ابتعدنا عن التحديدات الدينية، التي تختلف بين ثقافة وأخرى، ويختلف حولها حتى المؤمنون بها، فلا يبقى لدينا ما هو مٌتفق عليه لتحديد “الصفة الإنسانية” إلا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي لم يحدد ماهية إنسانية يمكن القول إن شاكيرا انتهكتها في أغنيتها. بما في ذلك تأكيد الإعلان في مطلعه أن جميع الناس “يولدون أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق”. التسليع كان بالنسبة لشاكيرا أسلوبها الخاص و”الحر” في التعبير عن “كرامتها وحقوقها”.

ربما الأجدى أن نفهم الاستهلاك والتسليع نفسيهما، فهما ظاهرتان قابلتان للدراسة أكثر من “الصفة الإنسانية” بالتأكيد.

الاستهلاك في النظرية الاقتصادية هو قوة  محرّكة أساسية للاقتصاد، لذلك تعمل فرق ومختصون وشركات على تحفيز الناس على الاستهلاك وربطه بالسعادة والقيمة، وتصف بعض الأدبيات العلمية مجتمعات اليوم بأنها “مجتمعات الاستهلاك المفرط”، التي بدأت تتشكل منذ سبعينيات القرن الماضي، حين انتشر مذهب المتعة بوصفه قيمة عليا؛ والرضا الاستهلاكي بوصفه  إحدى الطرق المميزة لتحقيق السعادة. أي نحن ما نستهلكه، وقيمتنا الإنسانية مرتبطة بإمكانية الاستهلاك.

انتُقد ربط السعادة بمؤشر الاستهلاك في عدة دراسات تجريبية، أجريت في عدة دول وفي فترات زمنية مختلفة، وتوصّلت الى ما يسمى “مفارقة السعادة”، أي أن الاستهلاك وحده لا يؤدي إلى السعادة والرضى، وربما يكون العامل الأهم هو قدرة الفرد على بناء علاقات اجتماعية سليمة. ولكن هل يمكن للمرء أن يقيم علاقات “سليمة” مع الآخرين بالاستقلال عن القيم الاستهلاكية السائدة في المجتمع؟ أليس كوننا “ساعات رولكس” برّاقة مساعدا لنا بشدة في بناء العلاقات، ويمنحنا كثيرا من الفرص، لأنه يرفع “قيمة ذاتنا”؟

يبدو أن كل الدروب تعيدنا من جديد للاستهلاك والسلع، وتجعل “الصفة الإنسانية” أكثر بعدا وغموضا.  

الهوية الذاتية والسلعة

تشير  دراسة  نشرها “مركز أبحاث المستهلك” الأميركي إلى أن المستهلكين “غالبا ما يختارون المنتجات والعلامات التجارية المتطابقة مع صورتهم الذاتية، أو تمكّنهم من تحقيق صورة ذاتية مرغوبة أكثر في مجتمعاتهم”.

تفرّق الدراسة بين ثلاثة مفاهيم للذات: مفهوم “الذات الفعلية”، الذي يصف كيف يرى الناس أنفسهم بشكل واقعي؛ و”الذات المثالية”، أي كيف يرغبون في أن يُنظر إليهم من قبل أنفسهم والآخرين؛ وأخيرا مفهوم “الذات الاجتماعية”، الذي يشير إلى كيف يعتقد الناس أن الآخرين يتصوّرونهم. وكل هذه المفاهيم عن الذات يمكن ربطها عضويا بالاستهلاك والسلعة. فقد يقوم المرء باختيار مُنتج أو علامة تجارية لأنه يُعتقد أنها متوافقة مع صورته الذاتية الحالية، أو تلعب دورا فعالا في مساعدته على الوصول إلى الذات المثالية المرغوبة.

ربما يمكن فهم الصلة بين الذات الفردية والاستهلاك بشكل أكثر وضوحا من خلال مفهوم “الذات الممتدة”، المشروح في الدراسة نفسها، والذي يعتبر أن الذات ليست فقط  القدرات الجسدية والنفسية والعقلية والروحية، بل تمتد أيضا إلى ممتلكات الفرد الشخصية، التي تعبّر عن فهم المرء لنفسه، وطريقه تعبيره عنها، والرسائل التي يرسلها خلال تواصله مع الآخرين، وبهذا المعنى فربما أرادت شاكيرا أن تُبرز “ذاتها الممتدة”، لتُثبت قوتها وقيمتها واستقلالها ضمن الشرط الاقتصادي/الاجتماعي المعاصر، فهي امرأة شهيرة، مغنية، راقصة، ومالكة لساعات الرولكس وسيارات الفيراري. كل هذا يجعلها ذاتا فردية قوية. أو ربما ساعة رولكس غير قابلة للاستبدال، إلا من قبل الأغبياء.  

أثر “الذات الممتدة”

ولكن كيف تعمل “الذات الممتدة” في عصرنا بالضبط؟

يقول الخبير الاقتصادي ديفيد هامرمش، في مقال بعنوان “كيف يؤثّر المظهر على نجاحنا”، إن “الأشخاص الجذّابين والأغنياء، والذين يرتدون ويملكون سلعا باهظة الثمن، غالبا ما يتقاضون رواتب أعلى من غيرهم، ويحصلون على فرص قد لا يحصل عليها شخص لا يرتدي ملابس من ماركات معينة، أو ساعات، أو سيارات باهظة الثمن. لدرجة أن المجرمين الجذّابين يحصلون على تعاطف أكبر أو أحكام مخفّفة”.

على النقيض من هذا كله تتكاثر نظريات “الرضا عن الذات”، التي تحثّ الناس على التوقف عن الاستثمار بمظهرهم، والاستمتاع بحياتهم بغض النظر عن وضعهم الاقتصادي، طالما أن السعادة والصحة أهم من المال. لكن هل يستطيع الإنسان فعليا الشعور بالثقة والاسترخاء في مجتمع قد يواجه فيه تمييزا وقسوة وتصرفات غير لائقة بناء على مظهره؟ هل يستطيع من لا يُسلّع نفسه في الوقت الحالي إيجاد فرص مناسبة للعمل والارتباط، أو حتى دائرة اجتماعية تحترمه وتحبّه؟ وهل يمكنه تجنّب الاستبعاد، والشعور بالقلق من الرفض، والغضب من معاملة الآخرين، إذا أهمل مظهره؟ أليس الأفراد، الأقرب لأن يكونوا ساعات رولكس وسيارات فيراري، مالكين لفرص أكبر لتحقيق “الرضا عن الذات”؟

يطلّ على مواقع التواصل الاجتماعي آلاف المشاهير و”المؤثرين”، الذين يتابعهم الملايين، وكثير منهم/ن يدّعون تبنّي القيم “لتقدمية”، بل حتى النسوية، ويستعرضون في الوقت نفسه حياة باذخة سعيدة مليئة بالاستهلاك والسلع والنجاح في العمل والعلاقات، ما يؤدي لشعور كثير من المتابعين بالخيبة والاكتئاب والغضب من عدم قدرته على تحصيل جزء يسير من حياة أولئك المشاهير. وبالتالي فإن الاستهلاك والتسليع الموسّع لـ”الذات الممتدة” لا يقتصر فقط على الأغنياء، بل يُطالب الناس “العاديين”، بشكل خفي وعبر مخاطبة لاوعيهم، بأن يتصرفوا بناءً على ما يرونه على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال تقديم “المثال” لهم عبر آلاف الصور والرموز، التي تخترق حياتهم اليومية في كل مكان. الكل يريد ساعة رولكس، بل ربما الكل يحلم، في منطقة من أعماق نفسه، أن يصبح ساعة رولكس.

عندما ظهرت كيت ميدلتون، أو “كاثرين أميرة ويلز”، إحدى أشهر أفراد العائلة المالكة البريطانية، على وسائل الإعلام بعد ولادتها طفلها الأخير، لمقابلة الجماهير بكامل أناقتها، وبكعب حذائها العالي وابتسامتها المشرقة، تمت مقارنتها، وهي السيدة التي يُخصص لها جزء من ميزانية بريطانيا، ولديها فِرَق من الخبراء لمتابعة أناقتها وصحتها وابتسامتها، بنساء الطبقات العاملة والوسطى، اللواتي سرعان ما يكبرن ويخسرن رشاقتهن وتعلو التجاعيد وجوههن عقب الولادة. هاته النسوة قد يتم رميهن، كسلع رخيصة منتهة الصلاحية، لأن ذواتهن ليست “ممتدة جدا”، كي تحوز سلعا وأنماط حياة براقة، تمنحهن التقدير والقوة والقدرة على الاستمرار.

بعد كل هذا هل من المنصف لوم شاكيرا على “خطيئتها” بتسليع نفسها؟ هل المشكلة فيها أم في بنى أكبر منها بكثير، هي بالضبط ما جعل أغنيتها تحقق عشرات ملايين المشاهدات؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.