“زمن الوحوش” لحميد بوزرسلان: كيف تشكّل عالم ما بعد الربيع العربي؟

“زمن الوحوش” لحميد بوزرسلان: كيف تشكّل عالم ما بعد الربيع العربي؟

أطلقت الانتفاضات العربية، خلال العقد الفائت، فائضا من الكتب والأبحاث والدراسات باللغات الأوروبية المختلفة، التي تناولت أحداثها بالتحليل والمتابعة واستخلاص النتائج. كما ساهمت موجات الاحتجاجات المتلاحقة، التي شملت ما يقارب عشر دول عربية، منذ أواخر عام 2010 إلى مطلع 2020، في عودة الاهتمام بالمنطقة كلما فَتُر وانزاح باتجاه قضايا أخرى، فتنوّعت المواضيع والمقاربات التي قدمتها كثير من الكتب والأبحاث، وإن كان بعضها مستعجلا يخضع لاعتبارات سوق النشر، على اعتبار أن الانتفاضات العربية كانت موضوعا مطلوبا مطلع العشرية الفائتة. إلا أن عناوين كثيرة استطاعت أن تكون أكثر دقة وإحاطة، قدّمَ بعضها باحثون وأكاديميون مختصون بالعالم العربي والشرق الأوسط.

في هذا السياق يأتي كتاب “زمن الوحوش: العالم العربي 2011-2021″، للمؤرخ وأستاذ العلوم السياسية حميد بوزرسلان، الصادر باللغة الفرنسية في آذار/ مارس2022 عن منشورات “لاديكوفرت” في باريس، ليُغطّي عقدا من الانتفاضات العربية والحروب الأهلية والتدخّلات الخارجية، عبر عدد من المقالات الأكاديمية، التي كان الباحث أعدّها على مدار العقد المنصرم.

يقرأ بوزرسلان تحولات الانتفاضات العربية، التي اتخذت مسارات مختلفة حيثما حلّت، من الحروب الأهلية والتدخلات الخارجية في سوريا واليمن وليبيا، إلى الانقلاب العسكري أو السياسي، كما في مصر وتونس والسودان والجزائر، وصولا إلى الحالتين العراقية واللبنانية، واتصالهما بالواقع السوري للدولة الفاشلة، ونهاية النموذج الفيستفالي (نسبة لمعاهدة فستفالن 1648، التي اعتُبرت مؤسسة لمفهوم الدولة الحديثة).

ولا يتجاهل الكاتب ربط المنطقة العربية بمحيطها الممتد من باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا إلى دول جنوب الصحراء الكبرى الإفريقية، وما شهدته هذه المجتمعات من دورات عنف محلية أو عابرة للحدود.

بهذا يحاول بوزرسلان رسم صورة أشمل لفترة الربيع العربي وما بعده، مبتعدا عن الصياغات النمطية والمقولات الإنشائية حول انتفاضة “شعوب” واضحة الهوية والتشكّل الاجتماعي والثقافي، ضد سلطات “استبدادية”، تمنع “الحرية”؛ ويركز على مفاهيم قابلة للتحديد والدراسة، مثل العنف والدولة والبنى الاجتماعية.

ضمن هذا الإطار يمكن التساؤل مع الباحث الفرنسي من أصول كردية تركية: كيف ساهم العنف في تشكّل المنطقة العربية ومحيطها، وفرض تحوّلاته على الدولة العربية والمجتمع في سياق الربيع العربي؟ وهل بالفعل الثورات العربية ثورات ديمقراطية؟ وهل يمكن أن تكون الثورة ديمقراطية ومحافظة في آن واحد؟

1979: حرب الأربعين عاما

في بحثه لجذور العنف المتوحّش الذي انفلت في المنطقة، يعود حميد بوزرسلان، على عادة المؤرخين، إلى سنوات إلى ما قبل الحدث الذي يعالجه كتابه، بالتحديد إلى سنة صار ذكرها تقليدا شائعا في غالبية الدراسات التي تتناول العالم العربي ومحيطه الجغرافي والثقافي، أي سنة 1979، والسياق التاريخي الذي تبعَ هذه السنة، التي تعتبر فاتحةً للعنف، أو ما يستعير له تسمية “حرب الأربعين عاما”، إذ شهدت تلك السنة  أربعة أحداث أساسية سوف ترسم وجه الصراع خلال العقود التالية: الحدث الأول اعتراف مصر بدولة إسرائيل، بعد اتفاقيات سلام كامب ديفيد والخروج من حالة الحرب، غير أن هذا السلام صار حجةً لانفلات عنف آخر داخل مصر، سيؤدي في واحدة من نتائجه إلى اغتيال الرئيس المصري أنور السادات على يد الجناح العسكري للجماعة الإسلامية في مصر؛ الحدث الثاني في ذاك العام احتلال مجموعة جهيمان العتيبي للحرم المكّي، وما حمله من دلالات على ازدياد نفوذ وقوّة الجماعات الإسلامية، المستفيدة من صعود أسهمها سياسيا ضمن مجتمعات محافظة ومتديّنة بالعموم. الحدث الثالث هو الثورة الإسلامية الإيرانية، والتي أطاحت حكم الشاه، ورسّخت نظاما أوتوقراطيا، يحمل مشروع تصدير الثورة الإسلامية إلى خارج حدوده الرسمية، وهي الأيديولوجيا التي ستكون سببا في صراعات وحروب مستمرة وعابرة للحدود؛ الحدث الرابع الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، الذي حوّل البلاد إلى ساحة من العنف والصراع، وجد فيها ما لا يقل عن 35 ألفا من المجاهدين العرب مكانا لتعزيز خبراتهم القتالية وبناء شبكات علاقاتهم، ومن بينهم أسماء مؤثرة، مثل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبو مصعب الزرقاوي، عدا عن الجهاديين العائدين لبلادهم، حاملين إرث التجربة الأفغانية معهم.

 بالتوازي مع هذه الأحداث، كانت المسألتان الكردية والفلسطينية تتطوّران كل واحدة ضمن سياقها وخصوصيتها، لكنهما ستكونان مولّدا أساسيا للشعور بالغضب والقهر، سواء من أنظمة المنطقة، أو من النظام الدولي عامة، والذي ترافق التمرّد عليه بتبنّي خيارات العنف في كثير من الأحيان. كما أن القوميين العرب لم يكونوا بأفضل حال، عقب انكسار مشروعهم الذي حشدوا لأجله الشارع العربي لسنوات، بعد هزيمتهم في حرب حزيران/يونيو 1967، وانحطاط الأنظمة التي تمثلهم في السلطة إلى مواقع قبلية وطائفية.

ولا يمكن في هذا السياق تجاهل ثقل التدخلات الاستعمارية والخارجية في توليد العنف وانتشاره في المنطقة، سواء سياسة الانتداب التي أعادت رسم خرائط المنطقة في المشرق العربي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى 1914-1918، وانهيار الدولة العثمانية، وما تبعه من تشكيل اعتباطي لخرائط الدول وحدودها؛ أو ذلك العنف الأحدث حضورا بالذاكرة، والذي تمثله الحروب الأميركية والإسرائيلية، المتزامنة مع وقوع المنطقة العربية بأيدي أنظمة سلطوية وفاسدة، غير قادرة على تقديم الحد الأدنى من الحريات السياسية والأمان الاقتصادي الاجتماعي لمجتمعاتها، والمنزلقة بتسارع مستمر في العقود السابقة نحو صراعات هويات دينية وطائفية وإثنية متفجرة.

والسؤال المهم في هذا السياق، كيف عبرنا من عنف قاده مقاتلون وفدائيون في سنوات السبعينيات والثمانينيات إلى العنف الإسلامي الذي ضربت هجماته مصر في عقد التسعينيات، وأشعل الحرب الأهلية الجزائرية في العشرية السوداء (1992-2002)، وصولا إلى العنف الذي لا يُبقي ولا يُذر، والمتمثل بآلاف العمليات الانتحارية المتنقّلة على مساحة العالم العربي والإسلامي؟

من مالي إلى باكستان، تفجّرت خلال العقود الماضية أشكال من العنف، سواء داخل حدود الدولة الواحدة، أو العابرة للحدود، وخلال العقود الثلاثة التي سبقت الربيع العربي عرف الشرق الأوسط احتجاجات طبعتها الحركات الإسلامية بقوة؛ أما في مطلع الألفية فكانت المنطقة تعيش عواقب اعتداءات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وما تبعها من حروب في أفغانستان والعراق، ليأتي بعدها موسم الاحتجاجات والانتفاضات 2010-2011 ويعلن تعبئة عامة، فيما سيصطلح على تسميته “الشارع العربي”، وذلك بهدف التغيير، والمطالبة برئيس منتخب، وعدالة اجتماعية، وإنهاء وجود أنظمة سلطوية، تشكّلت خلال عقود حول شخص الرئيس وعائلته، ولم تتردد بالتوجّه إلى التوريث العائلي، الذي نجح في سوريا عام 2000، وكان وشيكا في مصر وتونس واليمن وليبيا.  

الحرب الأهلية العربية: في وداع  نموذج فستفالن

خلال مراجعة المقالات التي احتواها الكتاب تبدو بعض الاستنتاجات والتحليلات قد فات أوانها، إلا أن تتبع تسلسلها يفسح مجالاً للتفكُّر في سياق الأحداث المتسارعة، وصعوبة مواكبتها، وكيفية التفكير فيها، واحتمالية الخطأ الذي يمكن أن ترتكبه العلوم السياسية في قراءاتها. خاصة وأنه في الفترة الممتدة ما بين 2011 وحتى عام 2017 كان هناك تغيّر عام في المشهد وخرائط الصراع والسيطرة، تشهده بعض الدول العربية كل عام، بحيث لا يوجد سنة تشبه ما قبلها. وهو ما شهدت عليه الحالة الليبية أو اليمنية على سبيل المثال، أو الحالة السورية، بوصفها المثال الواضح على تجاوز العنف للحدود، لتعبر الجماعات المتطرفة السنية والشيعية من دول الجوار، وتخوض حروبها الدامية، ملتحقة بطرفي الانقسام بين النظام ومعارضته، ومتجاوزة لهما فيما بعد، في وضع يعتبره بوزرسلان انهيارا للنموذج الفستفالي للدولة.

 تزامن هذا الانهيار مع تدخلات عسكرية دولية أو إقليمية، ساهمت في تعزيز نفوذ بعض الدول المجاورة مثل إيران وتركيا، وفي تأجيج نار العنف، ضمن إطار التصعيد الطائفي الذي انخرطت به دول نافذة في الإقليم، لم تتردد في استخدام الجهاديين، وتسهيل عبورهم وطرق الإمداد لهم، كما في العلاقة الناشئة بين تركيا والجهاديين العابرين إلى سوريا، على اختلاف الفصائل والجماعات التي التحقت بها، ومنها وجبهة النصرة (تنظيم القاعدة في سوريا).

أدى ما سبق إلى تحوّل الدول العربية نفسها وجيوشها إلى طرف من أطراف الحرب، وبروز شكل من أشكال “الحرب الأهلية العربية” في مواقع مختلفة على امتداد الخريطة، أي الحرب بين دول وشعوب عربية متجاورة، وربما كانت بعض ملامح تلك الحرب قد تشّكلت في التدخّل الخليجي العسكري إثر الانتفاضة البحرينية، ثم التحالف العسكري الذي قادته السعودية في اليمن، بعدما سيطر الحوثيون على صنعاء، عدا عن الانقسام الليبي بعد الحرب والتدخلات المصرية فيها، والصراعات العابرة بين سوريا والعراق ولبنان، ما يشير إلى حالة التفتت داخل المجتمعات نفسها، وسيلان صراعاتها إلى ما وراء حدودها، بعدما تراجعت الدولة عن دورها، وتنازلت عن جزء من سلطتها وسيادتها، لكي تحافظ على أجزاء أخرى تحت سيطرتها، فانكشفت على الصراعات الطائفية والقبلية والإقليمية، لتتوالد دينامية ميليشيوية مستمرة عابرة للحدود، تفرض سلطتها على المجتمعات، من خلال سيطرتها على مساحات صغيرة من الأرض، ما ساهم بخلق آليات تفتت دائمة، وهو ما شهدته الحرب السورية، التي تجاوز فيها عدد المليشيات والفصائل المسلحة في بعض السنوات 1200 مجموعة.

ضمن هذا السياق، انهار الإطار الفستفالي، الذي انتظمت به الدول العربية منذ الاستقلال، ولم تلبث الموجة التفاؤلية، التي رافقت اندلاع الانتفاضات العربية بالتحطم، وتراجعت الهالة السحرية التي أضفيت على هذه الانتفاضات، بوصفها ثورات تسعى إلى الالتحاق بالنموذج الليبرالي الديمقراطي، ليأتي تَتبُعُ سياق الأحداث، الذي تعرضه المقالات المتنقلة بين الدول العربية، ويجيب بشكل واضح على حالة ما يمكن تسميته “ما بعد الربيع العربي”، بوصفها نتيجة أزمة تكوينية عميقة في الكيانات العربية، انفجرت بعد طول كمون، وليس مجرد ممارسات شريرة من دول “استبدادية”.

دومينو العروبة: في حقيقة “المصير العربي المشترك”

انتقل التظاهر بين الدول العربية، في موجته الأولى، بتأثير الدومينو، وهو المصطلح الذي يثبت استخدامه وجود فضاء عربي مشترك مترابط فيما بينه، بحسب بوزرسلان، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات بين دول هذا الفضاء، من حيث شكل القوى السياسية، ومن حيث بنى الأنظمة وطبيعة كارتل السلطة، وهو ما تظهره مقارنة الاختلافات بين الحالة السورية والحالتين المصرية والتونسية، فيما يظهر التقاطع الواضح بين أنظمة سوريا وليبيا واليمن، من ناحية استعدادها لاستخدام العنف، واعتمادها على صراعات المجتمع الطائفية والقبلية والإثنية، ثم تحوّلها إلى طرف في حرب أهلية. ورغم أنه كان لدى المتظاهرين في هذه الدول جميعها مطالب ديمقراطية متشابهة، إلا أن احتجاجاتهم عبرت خلال أسابيع أو أشهر إلى حالة العنف المرتبط بدوائر متداخلة، عشائرية وطائفية ومناطقية وحتى جيليّة، مع التحاق عدد كبير من المراهقين والشباب الصغار بالحركات والجماعات المسلحة.

قد يعني ذلك أن “الفضاء العربي” قد لا يكون مجرد ميل قومي عند سكان المنطقة، بقدر ما هو حالة واقعية، نتيجة عدم قدرة الإطار الفستفالي للدولة الوطنية العربية على الصمود. مصير العرب المشترك تحتّمه صراعاتهم البينية وانزياحاتهم خارج حدود دولهم، وليس فقط “شعورا مشتركا”.

الديمقراطية التعيسة: فشل “المينستريم”

رغم ما سبق، يؤكد بوزرسلان على الطبيعية الديمقراطية لثورات الربيع العربي، وبُعدَها الاقتصادي الاجتماعي، بوصفها ثورات قامت ضد “رأسمالية الأصحاب والأقارب”، حسب تعبيره، التي فرضتها الدولة السلطوية العربية على مجتمعاتها، بحيث لم تعد في هذه المجتمعات قابلية لا لتُحكم من الأعلى، ولا لتحافظ على تماسكها من الأسفل، فوصلت إلى حالة الانفجار، التي بدأت على شكل حركة احتجاجية، نهض بها جيل شاب غالبا، مستخدما ما لديه من تقنيات اتصال، وخبرات سياسية وتنظيمية بسيطة، فكانت كل الاحتجاجات في ميدان التحرير، أو شارع الحبيب بورقيبة، توثقُ لكي يرى العالم كله حركة الاحتجاج، ودينامية التظاهر التي تتطور بشكل يومي، فتُسقط الرئيس بعد عدّة أيام من المظاهرات.

بالنسبة إلى بوزرسلان، تظهر تجارب الماضي أن الثورات الديمقراطية ليست دائما ثورات سعيدة، ولا تعني بالضرورة الخروج من مرحلة الأنظمة التسلطية، فديناميات الشارع تسمح بحشد قوى سياسية واجتماعية ضخمة من أجل إسقاط النظام، دون أن تمنع تشكُّل فئة سلطوية جديدة، أو كارتل سلطوي جديد، قادر على شرعنة نفسه من خلال الهيمنة السياسية التي تقدمها له صناديق الاقتراع. وعلى هذا المنوال كانت ثورة 1848في فرنسا، التي فتنت كارل ماركس، لكنها رغم ذلك جلبت على رأس السلطة فيما بعد نابليون الثالث، المدعوم بحملة قادتها البرجوازية. وهكذا بعدما أزاحت الثورة نظام “ملكية تموز”، أفضت الحالة الثورية إلى شكل جديد من التسلطية. بدوره كشف الربيع العربي أن الثورة يمكن أن تتحقق بوقت قصير، بينما الأزمة هي التي تأخذ وقتا طويلا لإدراك مفاعيلها، حتى ولو رفع الثائرون مطالب ديمقراطية، ورحل الرئيس. ولعل حال الأزمة هذه هو جوهر فترة ما بعد الربيع العربي.

ضمن هذا السياق، مرّ العالم العربي من حالة عدم ثقة ثورية إلى حالة عدم ثقة ديمقراطية، في وقت كانت فيه القوى الديمقراطية لا تستطيع إنجاز ما تسعى إليه، بينما كان هناك النموذج الإسلامي السائد أو “المينستريم” المحافظ اجتماعيا والليبرالي اقتصاديا، والذي كسب بعد تماهيه مع التحولات الاقتصادية الاجتماعية جزءا أساسيا من الطبقات الموسرة، إضافة إلى الفئات الشعبية، من خلال خطاب يجرّد الفقر من كونه قضية سياسية. فصعدت تيارات الإسلام السياسي إلى الحكم، في تونس ومصر والمغرب وجزء من ليبيا، بعد طول سنوات من الصراع، ما أعطى فرصة لاختبار هذه التيارات، وتحليل وضعها وأدائها بين التاريخ والسياسة، وإمكانياتها على العمل وممارسة السلطة، أو حتى البقاء فيها، وقبول مبدأ التداول السلمي. لتنتهي تجارب معظمها سريعا، مفضية إلى عودة العسكر كما في المثال المصري، أو إلى تسليم السلطة إلى الشعبوية المحافظة كما في المثال التونسي.

حصاد الخواء: في حدود المعرفة النظرية

على امتداد صفحات كتابه يستند حميد بوزرسلان، كعادته، إلى قاعدة واسعة من المعرفة النظرية، التي تقاطع نظريات علم الاجتماع والسياسة بالتاريخ والاقتصاد، فمن ابن خلدون إلى ماركس وتوكفيل، وصولا إلى غرامشي وحنا أرندت وبيير بورديو، لا يوفر ما يدعم قراءته وتحليله، كما لا يتردد في الاستشهاد بالأدب والرواية، وقراءة دلالات أحداثها وشخصياتها سوسيولوجيا. والملفت إشادته بالإنتاجات الثقافية والفنية، من سينما وتصوير وكتابة، التي انفتح عليها الربيع العربي، وهو ما يمكن أن يطرح تساؤلا عاما: هل من المعقول أن كل هذه السنوات من العنف والحروب والنضالات المريرة لم تتمخض عن شيء يذكر أو نتيجة “سياسية” يشار إليها سوى بضعة كتب وأفلام، نعلم  أنه جرى الاحتفاء بكثير منها في سياق الانتفاضات لا أكثر، ثم دخلت عوالم النسيان؟

ربما كان هذا الخواء السياسي، الذي تمخّضت عنه الانتفاضات العربية حتى الآن، ما يدفع  بوزرسلان نفسه ليتساءل كيف وصلنا إلى هنا، ويكتب تاريخيا معقدا للمنطقة. فبعدما كان الظن أن عصفور الديمقراطية طار من جنوب أوروبا إلى شرقها، ثم إلى أميركا اللاتينية، ليصل إلى الشرق الأوسط، يبدو أن مسيرته تعثّرت، ودخلت في أنفاق الصراعات الأهلية والعابرة للدول. وفي إطار جغرافي قلق مثل العالم العربي يرى بوزرسلان أنه من الصعب رسم سيناريو للسنوات القادمة وصولا إلى 2030، لنعلمَ هنا أن كل الاحتمالات مفتوحة، وبقدر ما هي متوقعة الحصول فقد لا تحصل، هنا بالتحديد تبدو علوم السياسة أشبه بتوقعات الأبراج لمن انتظروا ربيعا فداهمهم زمن الوحوش.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.