سياسات الحجاب: هل تعيد “التقاطعية” إنتاج الهوية النسائية المسلمة؟

<strong>سياسات الحجاب: هل تعيد “التقاطعية” إنتاج الهوية النسائية المسلمة؟</strong>

“امرأة، حياة، حرية”

هذا الشعار، الذي حمله المنتفضون الإيرانيون ضد نظام الجمهورية الإسلامية، ترك، رغم بساطته، الأوساط النسوية في خجل مرتبك. خاصةً مع قيام كثير من المتظاهرات الإيرانيات بحرق الحجاب، المفروض عليهن بقوة الدولة وشرطة الأخلاق. أي نسوية بالضبط يمكن أن يربكها هكذا فعل؟ هذا السؤال يحتاج إلى كثير من التأمل، فالحدث الإيراني، وظواهر كثيرة مشابهة، لعبت فيها النساء “المسلمات” دورا أساسيا، تبدو قادمة من خارج إطار “النسوية” السائدة حاليا، بما فيها تياراتها الأكثر راديكالية وتفهّما للنساء “غير البيضاوات”، مثل النسوية التقاطعية والنسوية الإسلامية. بكل بساطة لا تتصرّف “النساء المسلمات”، في السياسة والمجتمع والثقافة، بالطريقة التي تتوقّعها النسويات المعاديات لـ”المركزية الغربية”؛ كما أنهن لا يلتزمن دائما بعناصر هويتهن المفترضة، التي حددتها في الواقع سياسات الهوية الغربية.
 
تدفعنا الأحداث الإيرانية لإعادة التفكير في بعض معايير “النسوية التقاطعية” بالتحديد، وتناول قضايا النساء والدين من وجهة نظر أشمل من توجهات يمينية عنصرية، أو يسارية متعاطفة بسطحية. ليست نساء المنطقة مضطرات طبعا للفعل بحسب ما تتوقعه النسويات الغربيات (حتى لو كانت الأخيرات “ملوّنات” أو “مهمّشات”)، ولكن من المثير للاهتمام التفكير بأسباب الفصام بين تيارات غربية تحررية، قامت على أساس نقد “المركزية البيضاء”؛ وبين الممارسات التحررية الفعلية على الأرض، التي تقوم بها مئات آلاف النساء في المنطقة، في ظروف تهدد أمنهن وحياتهن. فهل ضلّ كثير من نساء المنطقة طريقه إلى “الهوية الإسلامية” الصحيحة، كما يجب أن تكون؟ أم أن الناشطات النسويات “غير البيضاوات”، ولكن الغربيات جدا، أخطأن في تحديد هذه الهوية؟ أو أن المشكلة مختلفة عن هذا كله، وتكمن أساسا في المنظور والإطار العام الذي تفكّر من خلاله النسوية المعاصرة، وخاصة التقاطعية منها؟

تسامح “التقاطعية” وإعدام جدل “المسلمين”

في سياق القبول والتمكين والاعتراف بالتهميش، تسوّق النسوية التقاطعية فهما ينادي بقبول الناس كما هم، على أي انتماء أو هوية كانوا. يشمل هذا ميولا جنسية وهويات جندرية، جنسيات وأعراق ومستويات تعليمية، أديانا وأشكالا وقدرات. نظريا، يبدو الأمر أشبه بتصوّر عن المدينة الفاضلة: أناس يحبون أكثر مما يكرهون، ويتعاطفون مع الأضعف دوما. هذا بحق ما قد تطمح له الإنسانية عندما تفكر بعالم أفضل!

لكن “التقاطعية” لا تأتي من مدينة فاضلة للأسف، بل من العواصم الغربية والمدن الكوزموبولتية الكبرى، وبالتالي فهي تملك موقعا في منظومة عالمية، وتعبّر عن قضايا وهموم فئات معيّنة من النساء في تلك الحواضر. ويصعب القول إن الزاوية التي تنظر منها تتجاوز هذا الهم الغربي/المديني، لتصبح هي “العالمية” الجديدة، خاصة أن “التقاطعية”، للمفارقة الطريفة، قامت في جانب أساسي منها على نقد “العالمية” ونقضها. ترفض التقاطعيات “كونية” النسوية البيضاء، ولكنهن على ما يبدو يرين أن لديهن شرعية في فرض “كونية” بديلة، لا ينتبهن إلى “غربيتها”.

تأتي “التقاطعية” لنساء المنطقة من الخارج، تخبرهن أن الحجاب مجرد خيار شخصي، بالانفصال عن كل العوامل السياسية والاجتماعية المعقدة في بلدانهن، ترتديه النساء أو تخلعه بناء على قرارهن النسائي الذاتي، وكأنهن يعشن بدورهن في مدن غربية كوزموبوليتية!

بهذا يظهر موقف “التقاطعية” من الحجاب مرهونا بموقعيتها الغربية، إذ تقف في الدول الغربية مع الأقليات المسلمة، ضد تعالٍ متوارث، يتراوح بين الاضطهاد المقصود وادعاءات “الإنقاذ من التخلّف”. ولعل تكريس الأدبيات الكولونيالية، خلال القرنين السابقين، للحجاب بوصفه رمزا للاختلاف والقمع والجهل، وشيوعه خلال العقود الأخيرة بين الجاليات المسلمة، لحماية الثقافة وإبراز الهوية، لا يصل بـ”التقاطعية” إلا إلى هذا المرفأ الأخلاقي، فتقبل بما يريده “المستضعفون”، دون بذل أي جهد فعلي لفهم القضايا الفعلية لأولئك المستضعفين. إنهم المستضعفون “هناك”، بعيدا عن جنة التقدمية الغربية.

وفي حين أن هذا الموقف يحتفي بتنوّع الثقافات، فهو يثبت اختلافها وحسب، مديرا ظهره نحو منشأ هذا الاختلاف، وما قد يحويه من عمليات وتقنيات سلطوية، تشمل الاضطهاد والعنف والرقابة والاقصاء. ما يجعل مهمة النساء “غير الغربيات” في التعاطي مع كل هذا، واتخاذ خياراتهن الفعلية، أكثر صعوبة. فضلا عن رزوحهن تحت ضغط الاتهام بأنهن “كارهات لذاتهن”، أو “خاضعات للمركزية البيضاء”.  

تشيد الأدبيات النسوية، وربما الفلسفة الحديثة الغربية بأكملها، بحرية المسلمات في اختيار ارتداء الحجاب على رؤوسهن في بلادهن، أو في بلاد اللجوء أو الهجرة، دون أي تساؤلات، فقط التعاطف معهن بوصفهن مضطهدات، مهاجرات، ومواطنات من الدرجة الثانية في الوطن والمنفى على حد سواء. ليس جديدا مساهمة الغرب بصياغة نظرتنا لأنفسنا، وإعادة إنتاجها عبر تصورات هجينة، وجعلنا موضع تفحّص، سواء كان معاديا يسعى للهيمنة، أو متعاطفا يعمل على “التمكين”، ولكن أن يصبح هذا التصوّر إلزاميا باسم معاداة المركزية الغربية، فهذا قد يحوى نوعا من الاحتيال الأيديولوجي، الذي يجب الإشارة إليه بحسم. 

حين تقتنص اللاجئات السوريات الفرصة لخلع الحجاب بعد هجرتهن إلى أوروبا،  أو تتظاهر النساء في إيران رفضا لإلزامية ارتدائه. تدعم النسوية التقاطعية هذا النضال أيضا، حسب مبادئها بدعم حرية الاختيار، وقبول ما تريده النساء أيا كان، تماما كما تدعم خيار النساء اللواتي يردن ارتدائه. يُعدم هذا النقاش الاجتماعي والسياسي في منطقتنا من أساسه،  ويجعل النساء خائفات فعليا من الخوض فيه، فكل الخيارات يجب أن تُحترم على قدم المساواة، وكلها تتمتع بالشرعية الأخلاقية والمغزى السياسي نفسه، وكأنه لا يوجد صراع اجتماعي وسياسي حاد على قضايا الحريات الشخصية في بلدانهن، أو أن حله الوحيد نمط من البلاغة السطحية حول “احترام الحريات الفردية”. ربما آن الوقت كي يُقال للنسويات الغربيات، خاصة التقاطعيات منهن: عفوا، ليس هذا هو النقاش لدينا!

لكن ما النقاش فعلا؟

عمّ نتحدّث عندما نذكر الحجاب؟

النقاش في بلداننا متعدد ومتشعّب، وليس حول “الحريات الفردية” و”الخيار الشخصي” بحد ذاته، بل عن قضايا تتعلق بمفاهيم أكثر جمعيّة وتركيبا، والنساء لسن معزولات عن هذا الجدل، خياراتهن “الفردية” موقف سياسي واضح وصريح، له تأثيراته على كامل المجتمع، وعلى التصورات عن الذات الجمعية والفردية. الحديث عن “إبعاد المجتمع عن خيارات النساء” يعني فعليا عزلهن عن قضاياهن الأساسية. وهذا التصوّر، فضلا عن كونه مسيئا للنساء، ومُغفلا لدورهن الاجتماعي الأساسي، فهو غير ممكن التحقيق على أرض الواقع.

في قضية الحجاب بالتحديد، فإن المحاور الأساسية للنقاش في بلداننا تتعلّق بالسياسة والجسد والدين ومفهوم “الرجل”، وليس بمجرد منظور ليبرالي عن “الحريات”:

السياسة: ربما كانت الأدبيات العربية والغربية حافلة بالحديث عن الحجاب، ونستطيع رصد تاريخية ربطه بالأحداث السياسية بوضوح: تتحرّر طبقات من النساء منه خلال عهود وفي مناطق معينة، وتخبو أهميته استجابةً لنداءات “النهضة العربية”، ليعود مع صعود أيديولوجيات “الصحوة” والعودة إلى الماضي، وانهيار المشروع القومي، ودفاعا عن هوية مدينية في وجه عسكرة “علمانية”، فيبدو كأنه بديل اجتماعي عن الهوية السياسية، لا ضرورة له حين تتقوّى الهوية بطرق أخرى. ويبقى رمزا للبقاء والعنفوان في الأوقات الصعبة، كقنفذ يدافع عن وجوده بتحصين الجسد بالأشواك.

الجسد: يأتي الحجاب، بوصفه عنصرا فيزيائيا، أداة فصل واختلاف، حقا بالانطواء، ترفّعا، سعيا للوقاية من الآخر يشبه كمامة كورونا أحيانا، أو النظارة الشمسية. وهو إذ يقاوم صورة جنسية معيّنة للنساء، يعرض أخرى مٌخَبِّئة، تحصر نفسها في إطار كلام المرأة لا المُشاهد منها. يبدو الجسد هنا حصينا، مدرّعا، لكنه لا يفتأ ينشد الجمال أيضا ويدخله في المعادلة، بتزيين اللباس والوجه والحجاب نفسه أحيانا، لتحلّ الألوان وأشكال إحاطة الرأس محل ما يشيع من أنماط تصفيف الشعر. في هذا التداخل بين الدفاع عن الجسد وإرساله تنوس النساء في حيرة، لم توجد لولا العلاقة مع الآخر: الرجل.

الرجل: يتداخل مع ما سبق الاشتراط الاجتماعي للجسد الأنثوي، أي رغبة الرجل بحماية نفسه بصون نساء القبيلة، وإزالة جنسانيتهن من أعين الذكور الآخرين، وعدم القبول بتواجد الجسد الأنثوي في المجال العام دون تدخّل. في المقابل يزيد الحجاب الفضول، ويبقي الجسد الأنثوي في موضع المتعة، الأمر الذي يروق للبعض، فهو يعلي من قيمة للنساء، تستمد نفسها من الوجود والمنع لا أكثر. يبدو الحجاب هنا أداة الذكور للتحكّم، وتبدو النساء لاعبات لا أكثر، وقد آن لهن التدخّل في قوانين اللعب.

الدين: يعترض المقدس هذا كله، لينهي النقاش الدنيوي بذريعة الفرض. لكن الجدل على الديني يستخدم حججا مرتبطة بالممارسة اليومية، أردنا أم لم نرد، ومروياته جزء من حياة معاشة لأقوام بشرية مثلنا، سعت لنيل مزيد من “الحريات الفردية” على أرض الواقع، لتستمر تلك النصوص حية في عالمنا الحاضر. يُناقش البعض تفسير وبنيوية النص الديني، ويذهب آخرون إلى ربط الحجاب بسلسلة من الأوامر والنواهي، تحدد جميعها مكانا ما للمرأة، يتراوح بين مزاعم التكريم والإذلال. وفي حين لا يبدو انتزاع الدين من الممارسة ممكنا في المدى المنظور، يبدو نقاش الفرائض والمقدس جديرا أيضا بالتناول، وربما يجب أن تدرك النساء ثقلهن العددي، وما يسمح به من تداول ديني وفلسفي لسير الأمور الحالي.

دروس إيران النسوية

يبرز شعار “امرأة، حياة، حرية” وكأنه تحدٍ لما يبدو أنه الرجل والدين والإلزام، وكذلك لـ”النسوية” بنسخها الأكثر “تقدمية”، ويتيح لنا هذه المرة، أكثر من أي لحظة سابقة، إيجاد مكان لنسوية أخرى، فيما يتعدى قضايا النساء و”المهمّشين”، ليطرح العدالة فكرةَ عامة، تكافح الفرض والاستقواء أيا كان مصدرهما.

ما قدمته نساء إيران، اللواتي لا ادعاءات لهن إلا الحرية والحياة، بمعناها السياسي المتعيّن في سياق اجتماعي وتاريخي واضح، يستحق أن نعيد التفكير فيه مرة أخرى، بوصفه مصدرا لنسوية مغايرة لا تأتي من أكاديميات أو منظمات لديها تمويل غربي جيد، وإنما من انحياز لخيار الفعل. هكذا نسوية قد تساعد نساء المنطقة في المساهمة بإنتاج المعرفة: معرفة عن وجودهن الفعلي، لا سطحه وانعكاسه؛ ما هو داخلي بالنسبة لهن، لا خارجي.

أما العلماني والديني فلطالما وجدا معا لإغناء الفكر الإنساني، وأخذه إلى المجالات التي يشاء أن يدخلها، وليس لاجتثاث النقاش من أساسه، تحت حجج الحرية الشخصية أو المقدس. النقاش والجدل لا يجب أن يكون مرتبطا بحق موقعي، أي بكون المرأة أو المرء منتمين إلى هوية أو بلد أو فئة اجتماعية ما، بل هو مفتوح، كي يعمل كل المعنين بالموضوع سويا لسد فراغ معرفي، لا يملؤه اليوم إلا نقد اليمين الغربي، الجريء بإبداء الكراهية.

ولعل هذا يعيدنا لبعض النقاشات الإسلامية مرة أخرى، لأن استعادة الحيوية الفكرية، عبر قضية مثل الحجاب، سيؤدي إلى نقاش عدد آخر من الممارسات الدينية، فلا نكبّل أيادي نقدنا من الداخل بما يقوله ناشطون وأكاديميون غربيون، لديهم حساباتهم الخاصة، القائمة على “مركزية” واضحة. آن لنقد الإسلام أن يأتي من خارج سلطة الغرب “التقدمي”، ولعله يعود على أيدي النساء، بوصفه ثقافة تأخذ موقعها من التاريخ والتجربة الإنسانية، وتعيد إنتاج نفسها كما هُيئ لها أن تكون: تجربة تحرر وعدالة.

قد يعيد الحجاب إنتاج نفسه بعيدا عن التجريم والتقديس، وينتقل إلى عالمنا مبسّطا من عوالق الكراهية، متحوّلا إلى معطى ثقافي أو نفسي أو غيرهما، فينجو من الاستعمال السياسي، ولكن كل هذا غير ممكن عبر تجاوز أو تجاهل الصراع السياسي والاجتماعي المرير، الموصوف أعلاه، والذي تعرفه كل امرأة من المنطقة، الحجاب الآن قضية سياسية شديدة الراهنية، تعني الجميع، وهكذا يجب مقاربتها نسويا.

بكل الأحوال يبدو أن إعادة إنتاج الحجاب، بصورته الحالية، مهم حاليا لبعض القوى “التقدمية” الغربية، نظرا لأيديولوجيات الاختلاف والاعتراف والفردانية والصراع مع اليمين الشعبوي والمتطرف، وهذا شأنهم، ولكن يجب أن يكون لجدلنا الداخلي شأن آخر، لا أن نظل عالقين بقضايا “غربية” تعيد إنتاج حجابنا، ظانين أن هذا أفضل ما جادت به الإنسانية للخروج من “المركزية الغربية”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.