في ندوة عُقدت عام 2018، لمناقشة كتاب  د. مصطفى الفقي “ذكرياتي معهم” ، تحدث د. علي الدين هلال عن تعريف “مثقف الدولة”، الذي تناوله الفقي في كتبه.

الاثنان هما من كبار اللاعبين من المثقفين المصريين أيام حسني مبارك، وتوليا عديدا من المناصب الهامة في عهده، فالفقي عمل سكرتيرا لرئيس الجمهورية للمعلومات، بين عامي 1985 إلى 1992، إضافة إلى قائمة طويلة من المناصب، لا يتسع المقال لذكرها، ويقدم نفسه بوصفه مثقفا أكثر منه دبلوماسيا مرموقا، فيكتب في تعريفه لنفسه على موقعه الإلكتروني: “خلال مسيرته، أسهم إسهامات كبيرة في المجتمع، بصفته باحثا أدبيا ومفكرا ومؤرخا وكاتبا ومعلما”.

أما علي الدين هلال، فكان أحد الكوادر الأساسية في الحزب الوطني الديمقراطي المنحل، وتولى وزارة الشباب، وصدر له قبل عامين كتاب ” الانتقال إلى الديمقراطية”، عن سلسلة “عالم المعرفة” بالكويت، وترشّح للقائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد. وكلاهما أصدقاء عمر، وعملا أستاذين بكلّيتي العلوم السياسية في الجامعة الأميركية وجامعة القاهرة.

يشرح هلال مصطلح “مثقف الدولة”، الذي عبّر عنه الفقي، بأنه المثقف الذي يرتبط بالدولة أكثر من ارتباطه بالنظام، مشددا على الفارق الجوهري بين الدولة والنظام، وعلى أن رهان المثقف يكون على الدولة، لأنها باقية، والنظام متغير. كما أنه “يؤمن بالتعددية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية”.

وتلك الألعاب اللغوية هي النموذج الأبرز للغة المثقفين المصرين المرضي عنهم، الذين تعاونوا مع السلطات المصرية منذ نشأة دولة يونيو 1952، لكن البارز أيضا، منذ عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، أن تلك العلاقة النفعية لم يستغن عنها النظام أبدا، حتى في عز احتقاره المبطّن للمثقفين، خاصة في عهدي أنور السادات ومبارك.

بعد سقوط مبارك، وعبر نفس الحيل اللغوية، تمكّن الفقي وهلال من الانسلاخ عن الانتماء، ذي الثمن الفادح، لنظام حكمه، بل وهاجم الفقي مبارك، فيما تحدّث هلال عن كوارث الحزب الوطني، وكأنه لم يكن أحد أعمدته. لقد نجيا من العاصفة، وبحثا عن أدوار داخل النظام الجديد، كما فعلا من قبل، على عادة “مثقفي الدولة”.

لكن المفاجأة، ورغم أنهما حصلا على ترضيات، مثل منصب مدير مكتبة الإسكندرية، الذي أُعطي للفقي؛ ومنصب مقرر المحور السياسي بلجنة الحوار الوطني، الذي ناله علي الدين هلال، إلا أنهما لم يجدا دورا حقيقيا للعبه في دولة ما بعد الثلاثين من يونيو ، ولا يمكن اعتبار منصب هلال الأخير أكثر من منصب كارتوني. لم يحدث ذلك لأنهما من مثقفي عهد بائد، بل ببساطة لأن لا دور للمثقفين في “العهد الجديد”، الذي لا يراهم أكثر من مجموعة غير مفيدة للدولة، مجموعة من “المنظّرين” فحسب.

ضد التنظير

بعد نجاح الرئيس السيسي في الانتخابات المصرية، لم يلتق المثقفين سوى مرتين، مرة عام 2014، والأخرى في عام 2016.

كتب الصحفي الثقافي المصري محمد شعير الوصف التالي في جريدة “السفير” عن لقاء 2014: “خرجت الشاعرة فاطمة ناعوت من لقاء عدد من المثقفين بالرئيس السيسي بتصريح أكدت فيه أن الرئيس كلفها بتصحيح صورة الإسلام. أما الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، فأكد أن الرئيس كلفه باستعادة دور الصالونات الثقافية القديمة للحوار مع الشباب وتبصيرهم بالمخاطر. بعد ساعات من تصريح ناعوت تمت إحالتها إلى محكمة الجنايات بتهمة ازدراء الأديان. أما أحمد حجازي، فقد بدأ – بناء على توجيهات الرئيس – اتصالاته لإقامة صالون ثقافي يحمل اسمه، واختار حجازي موضوع «دور المقاهي في الثقافة» عنوانا للنقاش في صالونه، الذي سيُعقد في الجمعة الأولى من كل شهر في مقهى “ريش” الثقافي في وسط القاهرة. نحن إذا أمام مثقفين ينتظرون توجيهات السيد الرئيس، أمام مثقفين خارج الزمان، وأمام سلطة تتصوّر أن الصالونات الأدبية، (على طريقة قوت القلوب الدمرداشية) في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته هي ما يجذب الشباب. ربما تلخص القصتان السابقتان علاقة المثقف المصري بالسلطة، ومدى فاعليته التي تأتي دائما خارج التاريخ وخارج الزمن. وتلخص أيضا تلك العلاقة التي ينبغي أن تحكى من البداية”.

في لقاء عام 2016، وهو الثاني والأخير، كانت هناك ملاحظتان بارزتان طرحهما الرئيس السيسي: “أغلب الحاضرين فوق الستين”، متسائلا: “أين الشباب؟”؛ والملاحظة الأخرى وجود “فارق بين التنظير والواقع”.

لكن ربما يكون التنظير هو ما أوصله للحكم، إذ يمكن اعتبار اعتصام المثقفين بوزارة الثقافة المصرية شرارة انطلاق مظاهرات الثلاثين من يونيو، التي أطاحت بالرئيس السابق محمد مرسي، ووصلت بعبد الفتاح السيسي إلى الحكم. فقد بدأ الاعتصام اعتراضا على قرارات وزير الثقافة في حكومة الإخوان علاء عبد العزيز بإنهاء ندب قيادات في الوزارة، وإحلال عناصر إخوانية محلهم، بعد أقل من شهر من توليه الوزارة. ثم تطوّر الاعتصام إلى حراك مهم في الشارع.

قاموس المثقفين العتيق

لم يقدّم الرئيس عبد الفتاح السيسي عند ترشّحه في عام 2014 برنامجا سياسيا أو اقتصاديا، أو على مستوى أي ملف، مكتفيا بصورته التي ترسّخت في الذهن الشعبي، بوصفه بطلا منقذا. وهي صورة لم يحظ بمثلها رئيس مصري منذ جمال عبد الناصر.

صورة ساهم في رسمها عدد كبير من المثقفين، ليس فقط “مثقفي الدولة” على طريقة الفقي وهلال، الذين يمكن اعتبارهم كوادر معلنة للنظام، بل أيضا عدد كبير من مثقفي الستينات، سواء اللذين استفادوا من النظام، لكن حافظوا على استقلالية ما؛ أو حتى الذين عُرفوا باستقلالهم على طول الخط، ودفعوا ثمن مواقفهم، أكبر نموذج معبّر عن هذه الحالة هو الروائي الكبير صنع الله إبراهيم، الذي ربما رأى في السيسي ما رآه عشرات المثقفين: عبد الناصر جديد.

الغرام بعبد الناصر، بوصفه حامل آخر مشروع مهم، هو نقطة ضعف المثقفين واليسار، حتى اولئك اللذين وضعهم ناصر في سجونه. ننقل اقتباسا عن صنع الله إبراهيم، في حوار منشور في اليوم السابع عام 2013، عن رأيه في السيسي: “تدخّله ممتاز، وهو ما تؤكده خطاباته، التي تتميز بالدقة والنظرة العلمية والبعد عن الترهل في الكلمات، فهو محدد وموضوعي، وأعتقد أنه مكسب للحياة السياسية المصرية، وأعتقد أن هذا ما دفع كثيرا من المصريين لفكرة ترشيح السيسي لانتخابات الرئاسة، وأنا من وجهة نظري أرى أن هذا حق أصيل له، فمن حق أي إنسان أن يسعى لكسب الشعب فما بالك برجل يقترب يوميا من المصريين، ويسعى دائما بما يمتلك من سلطات قانونية إلى تنفيذ مطالب هذا الشعب والوقوف بجانبه، لكن هنا عليه عمل أرضية سليمة لذلك، ويكفي أنه لأول مرة منذ عهد جمال عبدالناصر يأتي تحدٍ لأمريكا ودول الغرب، والفضل يرجع للفريق أول عبدالفتاح السيسي، وهو يكشف عن شخصيته الوطنية”.

بعد عامين فقط من الصورة، التي رسمها صنع الله للسيسي، سيكتشف أنه رسم صورة لشخص آخر في خياله، وسيقول في حوار منشور في موقع جدلية، أن شيئا واحدا يجمع بين عبد الناصر والسيسي، هو “الرغبة في الانفراد بالسلطة، وقمع كل القوى المعارضة والمنافسة، سواء كانت يمينا أو يسارا. أما فيما عدا ذلك فلا وجه للشبه. التجربتان مختلفتان من كل النواحي. عبد الناصر نشأ في بيئة ثورية، واشتبك في معارك ضارية مع الطبقة الحاكمة والقوى الأجنبية، وسعى إلى تحقيق تنمية اقتصادية مستقلة ونوع من العدالة الاجتماعية وتحديث البلاد. أما السيسي فقد نشأ في حضن نظام مبارك، بل قمته، ولا تبدو حتى الآن أي مؤشرات عن اتجاهات مختلفة عن ذلك لديه”.

لم يملك أغلب المثقفين شجاعة المراجعة، مثل التي امتلكها ابراهيم، وفضّلوا الأمن ومواجهة التيار الديني على الحريات والديمقراطية، ومازال بعضهم متشبّثا بصورة المنقذ حتى اليوم، رغم زوال خطر التيار الإسلامي، الذي تفككت قواعده بعنف غير مسبوق.

لكن تظل هناك دلالة لموقف صنع الله ابراهيم، الذي تغيّر من التأييد شبه التام إلى الرفض. في المرتين بنى وجهة نظره على خيال قديم، غير صالح لتفسير الأحداث، الأولى صورة عبد الناصر، والثانية الأسباب نفسها التي زجّت باليساريين في سجون عبد الناصر، أي “اختلاف النظرية عن التطبيق”، مستخدما قاموسا شيوعيا قديما في التحليل.

الصحوة بعد فوات الأوان

رغم حماسة صاحب “مثقفون وعسكر” الكاتب صلاح عيسى، وكذلك اليسارية فريدة النقاش، للدولة العسكرية الناشئة، عكس كل تاريخهما النضالي، إلا أن اللقاء الأخير للسيسي بالمثقفين عام 2016، حمل صوتا شجاعا من أغلب الحاضرين.

ففي ذلك العام، كانت ملامح الدولة الأمنية قد بدأت في التشكّل، بوصفها حقيقة لم يعد من الممكن إنكارها، مسألة تتجاوز ملاحقة التيار الإسلامي وحده، وتفكيك كوادره.

عام شابه كثير من الانتهاكات، بدعوى الحرب على الإرهاب، وأُطلقت يد وزارة الداخلية، في الإخفاء القسري والاعتقال، ولم يسلم حتى الأجانب من الموت على يد الأمن الوطني، مثل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، وكذلك تردت أوضاع السجون، ورُصدت وقائع التعذيب في أقسام الشرطة، وارتفعت وتيرة المحاكمات العسكرية، وصدرت من القضاء المصري أحكام جماعية بالمؤبد، وأحكام الإعدام، وطوردت منظمات المجتمع المدني، وأغلقت مراكز حقوقية، وحُبس الروائي أحمد ناجي بتهمة خدش الحياء العام؛ بسبب روايته” استخدام الحياة”، كما حُبس إسلام البحيري بتهمة ازدراء الأديان. ومارست الدولة سياسة حجب المواقع الصحفية بشكل منتظم، فبلغ عدد المواقع المحجوبة حوالي خمسمئة موقعا، بينها مواقع عربية وأجنبية.

الروائي إبراهيم عبد المجيد طالب في اللقاء مع السيسي بالإفراج عن بعض المعتقلين،  ووقف التضييق على التمويل الأجنبي، قائلا: “الحكومة نفسها ممولة، فلماذا نحاكم منظمات المجتمع المدني؟”

كان هناك شبه إجماع في الحوار على ضرورة فتح ملف السجناء السياسيين وسجناء الرأي، وطالب المثقفون الرئيس أن يستخدم صلاحياته لإلغاء قانون ازدراء الأديان ودعم حرية الرأي، دار الحديث حول “الأماني الديمقراطية والعدالة وقضايا الحريات”، استمع الرئيس باهتمام ودوّن كل الملاحظات، وطلب أن يساعده المثقفون على صناعة التوازن بين ” الأمن والحريات”.

انتهى اللقاء بوعد من الرئيس، بأن تجتمع المجموعة نفسها مرة أخرى خلال شهر، وتشكيل لجنة مصغّرة من بين الأربعة والعشرين مثقفا اللذين حضروا الاجتماع، يكون عملها استقبال الملاحظات والرؤى والأفكار، وكل ما هو مفيد لصانع القرار. وهو ما لم يحدث.

لم ينس الرئيس أن يطالب المثقفين بما طالب به الإعلام بعد ذلك حول “التحدث عن إنجازات الدولة”، إلا أن أيا من مطالب المثقفين، بالمقابل، لم يُلب.

أي مثقفين يحتاج النظام؟

رغم أن التنظير هو مهمة المثقف الأولى، واللعبة الوحيدة التي تجعل من “مثقف الدولة” ذي فائدة، إلا أن الدولة الجديدة على ما يبدو لا تؤمن إلا بالتوجهات العملية العارية، وترى أن البنية التحتية أهم من التعليم “اللي هيعمل إيه في وطن ضايع”، حسب تعبير السيسي، الذي يرى أيضا أن دراسات الجدوى “مضيعة للوقت”، ويتحدث طويلا عن الغيبيات واختيار القدر له، وأنه ” أوتي الملك”، وهو قاموس يلغي بعمق أي أفكار عن الثقافة.

يكنّ النظام الحالي للمثقفين ما هو أكثر من التقليل من شأنهم. إنه لا يراهم من الأساس.

لكن هل لا يحتاج النظام إلى المثقفين في العموم؟

لا، بل يحتاجهم، لكنه لا يحتاج إلى المنظّر، بل من يحمل أداة واسعة الانتشار، تعتمد على تبسيط المعنى، والوصول إلى أكبر كم ممكن من الجماهير. أدوات لم تعد ضمن جعبة وحيَل المنظر القديم، في عصر رقمي تنتشر فيه الأساس ثقافة تبسيط العلوم والفنون، لهذا لن يلفته من الأدوات التقليدية للمثقف سوى الدراما التليفزيونية، بوصفها أداة شعبية.

لذا فالمثقف الوحيد، الذي أبدى به الرئيس عبد الفتاح السيسي اهتماما علنيا، كان الروائي والسيناريست عبد الرحيم كمال، وهو كاتب مسلسلات تليفزيونية لافتة، بعضها كان أقرب إلى تحقيق حلم الرواية التليفزيونية، الذي آمن به أسامة أنور عكاشة، مثل مسلسل “الخواجة عبد القادر”.

في لقاء مع السيناريست عبد الرحيم كمال ببرنامج صالة التحرير بقناة “صدى البلد”، عقب عرض مسلسل “القاهرة- كابول”، الذي لاقى انتقادات واسعة، بسبب حسه التعليمي عن الهوية المصرية، أجرى الرئيس مداخلة هاتفية مع البرنامج، عبّر فيها عن استمتاعه بخطاب كمال عن “تجديد الخطاب الديني”، وقال إنه “يدعمه هو ومن معه، بشكل كامل”.

ما رآه السيسي هنا هو أن حشد المواهب وراء فكرته عن بناء المواطن “أهم من التعليم الجامعي” وفقا للحوار، وقائمة القضايا التي طرحها في مداخلته كانت كلها تدور حول “تحديات إسقاط الدولة”.

في المقابل، انتقد السيسي في خطاب رسمي، فيلم “الإرهاب والكباب” الشهير للكاتب وحيد حامد، الذي قدّم فيه عام 1992، مع المخرج شريف عرفة والممثل الشهير عادل إمام، انتقادا واضحا للحكومة من وجهة نظر المواطنين، قائلا: “بدل ما تجيب فيلم الإرهاب والكباب وتجيب المواطن يشتكي، خلى البلد خصم، لم يجعل السلبية خصما، أنت مفروض تخلي السلبية خصم”.. مضيفا: “المواطن الذي لا يعمل هو الخصم وليس البلد. لما حولتها (في الفيلم) لخصم في 2011 هدّوها. خلوها إيه؟ هدّوها. لولا فضل الله علينا وكرمه لكانت البلد دي، زي كل البلاد اللي أنتم شايفينها، مقامتش تاني ولا ترجع تاني خلاص. اللي يروح يروح مايرجعش، لكن هو أفاض علينا، طيب بعد ما أفاض علينا هنفضل زي ما احنا كده؟”.

كل تلك الأفلام كانت في عصر مبارك، رغم انتقادها الواضح له، صدرت في الأساس من “مثقفين دولة”، بالتعريف النموذجي لهلال والفقي.

في فيلم آخر لوحيد حامد هو “اللعب مع الكبار”، يظهر بنفسه وهو يلعب الطاولة مع عادل إمام، وهما يجلسان في وضع المرآة. كأن حامد يخبرنا أنه هو نفسه “حسن بهنسي بهلول”، بطل الفيلم، الوسيط الذي يستشرف الفساد عبر أداة “الحلم”، أي “الرؤيا” التي يملكها المثقف من ناحية؛ ومن ناحية أخرى القدرة على التنصُّت على عالمين: أوجاع الصعاليك، وفساد المماليك. حسن/ حامد هو رسول إصلاحي، جسر بين طرفين، لكنه يجيد التفريق بين “الضابط الصالح” المتفهّم، الذي يتمكّن من سماع الرسالة، و”الضابط الذي يصم أذنه عن التحذير”. في النهاية هو لا يرغب في أن يكون ضد الدولة، لكن أن يكون المحذّر لها من أسباب سقوطها، لأنه يؤمن بها أيضا، كإيمانه بالتعددية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كما يرى الفقي، وهلال في تخيّلهما عن أنفسهما، بوصفهما من “مثقفي الدولة”.

لكن حتى هذا النوع من المثقفين لم يعد وجوده مقبولا، والآن يتحسّر كثيرون على تلك الأفلام، التي لا يمكن إنتاج مثلها في ظل موجة الدراما الدعائية.

ثقافة “الثورة”: من وائل غنيم إلى محمد علي

ولكن ماذا عن “مثقفي” المعارضة؟

ثمة مفارقة في المقارنة بين وائل غنيم، أحد أهم محركي ثورة الخامس والعشرين من يناير، وبين النسخة الهزلية منه، أي المقاول محمد علي، الذي يعيش الآن خارج مصر، ويحاول استنساخ ما فعله غنيم، بدعوة الشعب، بين حين وآخر، إلى الاحتجاج في ميادين، وتفشل هذه الدعوات في كل مرة، ولا ينتج عنها سوى اعتقال مزيد من المواطنين، والتأكيد على استقرار حكم السيسي.

في الوقت الذي ثار فيه غنيم، كان آخر رئيس وزراء مصري، وهو أحمد نظيف، خبير اتصالات رقمية، وقد جاء إلى الحكومة المصرية في عام 2005 لينقلها إلى العصر الرقمي، ولم يتوقّع أن يكون الثائر عليه هو ابن الجيل الذي أتيحت له تلك الأداة.

يمكن اعتبار غنيم مثقفا بالمفهوم الواسع للمفردة، مجاله الاتصال الرقمي، ونجح عبر فهمه العميق لتلك الأداة في نقل قضية حقوقية، مثل مقتل خالد سعيد، بعد تعذيبه على يد الشرطة، إلى الجماهير الأعرض. قدّمها بوصفها جريمة يمكن أن تتكرر مع أي مواطن عادي بلا أية انتماءات سياسية. فكانت إدانة الجريمة نقطة التقى حولها الجميع: النخبة الثقافية والسياسية والمواطنين.

في عصر دولة تهتم أكثر بالمقاولات، ظهرت النسخة الهزلية من غنيم، أي محمد علي: مقاول بلا ثقافة تقريبا، لا يملك سوى النميمة، وكذلك ظهر له أشباه يفعلون الشيء نفسه، والاتهام الجدي الوحيد الذي أثار غضبا حقيقيا، عند ظهوره في سلسلة من الفيديوهات أول مرة، هو حديثه عن كلفة الإنشاءات والمباني الرئاسية، في وقت يشتكي فيه الرئيس من عدم توفر موارد، ومطالبة الشعب بالتقشّف والصبر.

ما يربط هذا النمط من المعارضة بالسلطة قد يكون الشعبوية، اللعب على المشاعر، التوكّل على الغيبي، البرجماتية وإنكار الثقافة بوصفها منظورا،

فشل المقاول الأصغر، محمد علي في أن يكتسب أي دعم على المدى الطويل، فهل ينجح المقاول الأكبر في الاستمرار، دون الاعتماد إلا على رؤاه الشخصية لمستقبل مصر؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.