طقس الفرجة الرمضانية: لماذا نحب الدراما الرديئة؟

طقس الفرجة الرمضانية: لماذا نحب الدراما الرديئة؟

نصرخ كل عام من رداءة مسلسلات الموسم الرمضاني، مقارنة بمسلسلات الثمانينات والتسعينات. فقد تشكّلت في مصر، وانتقلت منها إلى بقية العالم العربي، طقوس للفرجة، اعتاد فيها الناس على مشاهدة المسلسلات في رمضان. ورغم التشكّي المستمر من انحدار مستوى معظم الأعمال، لا يتوقف أغلبنا عن متابعة تلك “الرداءة المحببة للنفس”.

بحسب الكاتب المصري محمد نعيم، في مقاله رمضان هو العيد، تأصّل ذلك الطقس التليفزيوني في الأساس، من خلال حضور وسيطرة أجهزة الإعلام المركزية التابعة للدولة، التي صنعت  “هندسة اليوم الرمضاني في كل تفاصيله، لدرجة ضبط إيقاع الأنشطة الحياتية الأخرى مع فقرات الإذاعة ثم التليفزيون، وقد انتعش رمضان الترفيهي في الخمسينات بعد ثورة يوليو، حيث كانت أفضل المسلسلات الإذاعية تقدم في فترات الالتفاف حول مائدة الإفطار وما بعدها، لكن مع التليفزيون أصبح هناك برامج حوارية ومسابقات واستعراضات… ومع أواخر الثمانينات ظهر غول المسلسلات التليفزيونية ذات المستوى الفني المرتفع والإنتاج السخي، حين عرض مسلسل ليالي الحلمية (1987) متبوعا بمسلسل رأفت الهجان (1988)، لتتحول بعدها الدراما التليفزيونية المتتابعة إلى ما يشبه الديانة المستقلة تقريبا”.

لكن الثابت أيضا، بحسب نعيم، أن “رمضان التليفزيوني، وحتى منتصف العقد الأول من الألفية الثانية، كان منضبطا بانضباط عدد قنوات العرض ومنصاتها. كان “البرنامج” موحّدا إلى حد كبير، وكان السواد الأعظم من الناس يشاهدون مواد متشابهة، يتم عرضها عليهم جميعا، تخلق بينهم لغات مشتركة، يجترحون منها شفرات وتركيبات وخيال، وبالتالي ثقافة”.

مازال طقس الفرجة ثابتا إذن، لقد ترسّخ فينا، ولا خروج من سلطان استهلاكه بالنسبة لأغلبنا،. إلا أن المسلسلات لم تعد للجميع، أو لجمهور بعينه، بل لجماهير متعددة، لكل فئة منها لغة مختلفة، أشبه بأكواد تفصل بين العوالم، لا يمكن أن يفهمها إلا من يعيش داخلها، وهو الأمر الذي تتقبله تلك الجماهير على مضض، إذ تشتكي من أن بعض المسلسلات لا يعبّر عنها. كيف ينجح الموسم الرمضاني إذن، ويبقى مطلوبا دوما، رغم رداءة محتواه وتشتت جمهوره؟ وما الوظيفة الفعلية لـ”الرداءة المحببة للنفس”، التي تطلّ علينا دائما في رمضان؟ 

عبر العوالم: لماذا نجح “العمدة” و”الصفارة”؟

يرى  الناقد الفني عصام زكريا، في مقاله “قل لي ماذا تشاهد أقل لك من أنت“، أنه “منذ الحلقات الأولى لمسلسلات رمضان، بل قبل أن تبدأ، بدا واضحا وجود أنواع عدة من الجماهير، كل منها ينحاز لذوقه وتفضيلاته، ويسخر أو ينزعج من تفضيلات الآخرين. ويظهر هذا الانقسام كأفضل ما يكون حين نقارن بين أعمال مثل “الهرشة السابعة” و”جعفر العمدة”.

يخاطب “الهرشة السابعة” نوعية بعينها من أبناء الطبقة الوسطى الجامعيين، من صغار ومتوسطي العمر، ومشاهدي الأفلام الأميركية دائما والأوروبية أحيانا، ممن يحبون كتب التنمية البشرية والدعم النفسي، وتشغل المشاكل العاطفية والزوجية قسطا كبيرا من حياتهم.

بمزيد من التحليل يمكن القول إن الموضوع الرئيسي الذي يتمحور حوله المسلسل هو مشاكل العلاقة بين الجنسين، وهو يطرح، من خلال وجهة نظر نساء عربيات متعلمات مستقلات، أحلام ومتطلبات هاته النساء في مواجهة ماضيهن وواقعهن الاجتماعي والنفسي.

لاقى هذا هجوما من اولئك الذين لم يجدوا لأنفسهم تمثيلا حقيقيا داخل عوالم المسلسل، فانحازوا لمسلسل يتجه إلى العكس تماما: العوالم الشعبية في حي شعبي مثل السيدة زينب، أي مسلسل “جعفر العمدة” لمحمد رمضان والمخرج محمد سامي، المثيران للجدل كل عام. ويبدو من النجاح الطاغي لمسلسلهما أنهما حققا انتصارا، ونجحا في أن يجبرا عددا من المثقفين على مشاهدة المسلسل، رغم أنه يحمل كل سمات “الذكورية السامة”، فهو بحسب عصام زكريا: “عمل ذكوري يخاطب الرجال المحافظين قليلي ومتوسطي التعليم من الطبقات الشعبية، ويعكس تصوراتهم المتخلّفة عن الفحولة والفتونة، وهو كذلك بالفعل. لكن تحت ذلك السطح، فإن المسلسل يعالج، أو بالأصح يهرش ويداعب، حساسية ذكورية ملتهبة، مرضها ظاهر للعيان. من خلال البناء الميلودرامي، الذي يتسم بالإفراط حد الغرائبية. في المسلسل يسري الإحساس بلا واقعية المشهد كله، وخيالية البطل، الذي يستخدم هنا كمرآة عاكسة لضعف وقلة حيلة وذكورة الرجال الآخرين، الواقعيين”

ورغم جدية كل التحليلات، التي حاولت تحليل أسباب نجاح العمل بردها إلى حساسيات جندرية وطبقية، إلا أن لم تلتفت كثيرا للعوامل الفنية البحتة، التي جعلت العمل يتجاوز جمهوره المفترض من “شعبيين”، ويصل إلى المثقفين وبعض أفراد الطبقات الأعلى. ومن أهمها أن رمضان وسامي قدما قصة مسلّية، لعبت على مفهوم المفارقة الدرامية، وإغلاق الحلقة عند نقطة مشوقة، محققة التورّط الناتج عما للقصص بشكل عام من سحر. قصص المسلسل لا تحتاج إلى تفكير كبير، فيها بطل لا يقهر، ينتقم من الجميع. قد يكون هذا كل ما نحتاجه في رمضان.

ربما لهذا أيضا كان أنجح مسلسل كوميدي هذا العام هو مسلسل “الصفارة” للممثل المصري أحمد أمين، الذي منحته الصورة التي رسمها عن نفسه، بوصفه رجل طبقة وسطى محايد، يتمكّن من عيش حيوات موازية ومختلفة باستخدام صفارة، القدرة على التعبير عن تلك العوالم ذات الوجدان المنفصل. مثل عوالم الأثرياء خلف أسوار الكومباوند، الطبقات الشعبية، مطربي المهرجانات، الأجيال الجديدة ذات المصطلحات والرؤى غير المفهومة لمواليد الثمانينات. وتنشأ الكوميديا من اندهاش رجل الطبقة الوسطى من تلك العوالم.

متعة الثرثرة: هل نُعتقل بتهمة “ازدراء المسلسلات”؟

لكل جمهور إذن مسلسلاته، وهي ظاهرة ليست ابنة هذا العام، بل كانت موجودة في أعوام سابقة. وبمتابعة عناوين المسلسلات، التي بحث الجمهور عنها في غوغل أكثر من غيرها، نكتشف أنها لم تكن ضمن المسلسلات التي أثارت نقاشا على وسائل التواصل الاجتماعي، لأن ما نراه على السوشيال ميديا ليس العالم، والناس باتت لا تلاحظ إلا “الجمهور” الذي تنتمي إليه، وليس الجماهير بالعموم. كثيرون مثلا لم ينتبهوا لأثر مسلسل “تلت التلاتة” لغادة عبد الرازق، وما حظي به من نجاح، فهو يقدّم على ما يبدو النسخة النسائية من “جعفر العمدة”، إذ تتعرض بطلة المسلسل للخيانة من زوجها في الحلقة الأولى، فتدفنه حيا في الحلقة الثالثة.

لكن بغض النظر عن هذا، تظل متابعة تلك “الرداءة المحببة إلى النفس”، والانتقاص منها وانتقادها، وحبها والتعلّق بها، والسخرية من تفضيلات الجماهير الأخرى، ترسيخا لطقس الفرجة الرمضاني، لا تجاوزا له. ومن ضمن هذا الطقس  أن نستريح أمام سحر” الكليشيه الدرامي”، خلال فترة لا تتعدى ثلاثين يوما في السنة، من عناء عام كامل من الأحداث الاقتصادية والسياسية الصعبة، التي لا تتوقف ولا تنتهي ولا نسيطر على آثارها الصعبة. وهي آثار قد تسبب” تراوما” حقيقية، لا يحلّها انتصار “جعفر العمدة”، ولا شكوى أبطال ” الهرشة السابعة” للمحللين النفسيين.

في ثلاثين يوما، يكون اكتشاف “جعفر العمدة” أن “سيف” هو ابنه، وانتقامه من “بلال شامة”، أهم من ارتفاع سعر الدولار وآثار الحرب الروسية الأوكرانية. قد لا يكون ذلك تخديرا للعقل، بل استراحة مستحقّة. كما أنه الفرصة الوحيدة المتاحة، التي نتحول فيها إلى نقّاد بلا خوف من الرقابة السياسية، التي أممت المجال العام للكلام. فيكون مسلسل مثل “رسالة الإمام الشافعي”، فرصة للحديث عن جدالات تخصّ التسامح الديني، أو حتى الجدل بشأن استخدام الفصحى والعامية؛ ويتحوّل خالد يوسف بمسلسله الرديء “سره الباتع” إلى نكتة الموسم، التي تعبّر عن “غثاء الرواية الوطنية المخترعة”، دون أن تتوقع مثلا أن تعتقل بتهمة “ازدراء المسلسلات”.

لكن هذا أيضا لم يعد مضمونا، فبعد عام 2016، عادت الدولة المصرية لإنتاج المسلسلات بمنطق الاحتكار، من خلال “شركة المتحدة”، التي نعرف جميعا أنها تابعة لـ”جهة سيادية”، وبهدف واحد: إعادتنا جميعا إلى مسلسل الساعة السابعة، والمسلسلات الرمضانية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، التي كانت سردية واحدة تلوي عنقها. إنه هدف غير عقلاني، أن تعود عقارب الساعة للوراء، ونرجع جميعا لنحمل الوجدان الجمعي نفسه، ولكن الدولة تحاول.

 لم تعد الدولة تكتفي بالتدخّل في المسلسلات الوطنية، بل تحاول تحديد سقف المسلسلات الكوميدية والاجتماعية، لبث فكرة العائلة الموحّدة خلف كبير واحد، لا تخرج عن قيمه. رب الأسرة يصبح ممثلا عن رب أسرة أكبر تدعى الوطن، وهي فكرة، كشأن كل الشعارات الأخلاقية، التي يبيعها مثقف ما للجهاز السيادي، تبدو برّاقة من الخارج، لكن باطنها يحمل فكرة شديدة القبح: نحن المسؤولون عن ما حدث لنا، بخروجنا عن تقاليد مسلسل الساعة السابعة.

لذا كان من اللافت هذا العام، وفي “هجمة مرتدة”، بتعبير مسلسلات الأجهزة السيادية، وصف اللجان الإلكترونية والصحف التابعة للدولة منتقدي المسلسلات والساخرين من رداءتها بأنهم من “المؤلّفة جيوبهم”، واتهامهم بالعمالة لجهات أجنبية. وأن وراء ذلك النقد لإنجازات “شركة المتحدة” حملة مموّلة من الخارج، لتشويه سمعة مصر والدراما المصرية.

الدرما السيادية: هل لم تعد الدولة قادرة على الرداءة المحببة؟

قد يكون من المثير للتأمّل أن الملايين، التي صرفتها الجهات السيادية على المسلسلات الوطنية، لم تنجح في تحقيق المرجو منها، فمسلسل “الكتيبة 101″، ومسلسل “حرب”، لم ينجحا في إثارة أي اهتمام من أي نوع، رغم أنهما حظيا بإنتاج ضخم، ومن بطولة نجوم بحجم أحمد السقا وآسر ياسين ومحمد فرّاج.

كانت المسلسلات “السيادية” قد نجحت بلفت الانتباه في الأعوام الماضية، وخاصة مسلسل “الاختيار”، وذلك بسبب تسريبات أقرب للنميمة، عن طريقة صناعتها، والرسائل والمعلومات التي قد تكشفها الدولة من خلالها. أي أنها استجابت لشرط نجاح المسلسلات الرمضانية، بأن تقدم لنا رداء محببة إلى النفس. لماذا لم تعد الدولة قادرة حتى على الرداءة الدرامية؟ هل لم تعد لديها حكايات قابلة للنميمة؟ أم لم تعد توجد أية فئة أو طبقة يمكن أن ترى الخطاب الرسمي معبّرا عنها؟

يمكن القول إن التغيير الأساسي في طقس الفرجة الرمضاني أنه نجح بتجاوز الدولة، التي لم تعد قادرة على تجعلنا نتسمّر جميعا أمام الشاشات في وقت واحد، كي نشاهد بطولات وميلودراما رأفت الهجان؛ أو تاريخا سياسا اجتماعيا، مرضيّا عنه، يكتبه أسامة أنور عكاشة. الفرجة تخصخصت ولم يعد بالإمكان تأميمها. إلا انها ما تزال طقسا اجتماعيا، من غير المجدي مطالبته بأن يكون عميقا، فقد لا نحتاج في الظرف الحالي أكثر من التفاهة المسلية، التي تجعلنا نلتقى ونثرثر وننتقد، حتى لو لم نعد جمهورا واحدا، وربما لم نكن كذلك في يوم من الأيام، فقط بات “الأب”، الذي يفرض نفسه علينا، أقل هيبة، وإن كان عنفه لم يتراجع، بل ربما العكس هو الصحيح، فكلما قلّت الهيبة زاد العنف العاري.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.