كثيرا ما يقال إن الترجمة هي اللغة الأم لقصيدة النثر العربية، لكن الوضع أكثر تعقيدا من ذلك.  ليست قصيدة النثر وحدها ما انطبع إلى حد كبير بالترجمات، بل مجمل ما يكتب ويقال ويتم التفكير به في العربية المعاصرة مرتبط إلى حد أو آخر بلغات أخرى، وذلك قبل العولمة المعاصرة بكثير، بل يمكن إرجاعه لأزمان موغلة في القدم.

إلا أن العولمة المعاصرة أدت لنشر عدد من أساليب التعبير، بما فيها من مفاهيم ومفردات وعبارات، تُنطق غالبا بالإنجليزية/الأميركية. وإذا كانت إحدى سمات العولمة “انضغاط الزمان والمكان”، كما يؤكد كثير من المفكرين، فإن تلك اللغة حاضرة في كل الفضاءات “المضغوطة”. من الصعب تخيّل أي شخص متصل بواحدة من سلاسل العولمة وشبكاتها، سواء كانت اقتصادية أو معلوماتية أو إعلامية أو ثقافية، دون أن يتعامل، ولو بشكل جزئي، بالإنجليزية/الأميركية، وحتى لو كان لا يجيدها حقا. وبالتالي فإن العربية المعاصرة، بوصفها لغة مُمارسة في الحياة اليومية، وباعتبارها جزءا مما سُمّي بـ”القرية الكونية”، على ارتباط وثيق بلغة العولمة الأساسية.

لا يقتصر هذا التأثير على تلفّظ ناطقي العربية بكلمات وعبارات إنجليزية/أميركية معولمة، بل إن هذه اللغة تشكّل جانبا مما يمكن تسميته “اللاوعي اللغوي” لكثير منهم. فهي ليست مجرد ألفاظ أو دوال، بل مفاهيم ومدلولات، صارت أساسية في فهمنا لذواتنا وعالمنا وطموحاتنا ورغباتنا. إننا، بشكل من الأشكال، نفكّر بالإنجليزية/الأميركية.

اليوم، ومع الأحاديث عن “نزع العولمة”؛ وتفكيك الهياكل العابرة للوطنية؛ وكذلك ميل الولايات المتحدة لـ”الانكفاء إلى الداخل”؛ وبروز قوى ومراكز دولية وإقليمية مؤثّرة في نطاقات معينة، يمكن طرح أسئلة عن مستقبل التأثير اللغوي/المفاهيمي للغة الإنجليزية/الأميركية: هل يمكن أن تتراجع لمصلحة لغات أخرى تؤثر على الفضاء العربي؟ وما “العربية” التي سنتكلم بها مع كل تلك التطورات؟ باختصار: بأي لغة وبأية استقلالية سنفكّر في عصر “نزع العولمة”؟   

عربية الترجمة: التفكير بقارات أخرى

يمكن أن نعود سحيقا في الماضي، ونقول إن العربية حتى قبل القرآن استعارت كلمات، وبالتالي أسماء ومفاهيم، من لغات أخرى، بدليل وجود كلمات من أصل غير عربي في القرآن نفسه. أو أن نقول إن تطور العربية بوصفها لغة ثقافة، في أواخر العهد الأموي ومطلع العصر العباسي، مرتبط أساسا بالترجمات، سواء عن اليونانية أو الفارسية، واللقاء الفكري والتصادم الديني مع الهنود واليهود والمسيحيين وفرق المتكلمين الكثيرة. بل إن كلمة/مفهوم “الهوية” في لغة العرب، هي في حد ذاتها نحت من الضمير”هو”، وإضافة المصدر الصناعي “يـة” له. وقد تم ابتكار هذه الكلمة، التي لم تكن موجودة من قبل، للوفاء بمتطلبات ترجمة الفلسفة عن اليونانية.

لم تغب عن أبناء تلك الفترة الروابط بين لسان قومٍ ما وبين أفكارهم، مثلما تدلّ المناظرة، التي دارت في العصر العباسي، بين النحوي أبي سعيد السيرافي والفيلسوف والمترجم متى بن يونس. رأى البعض أن الفلسفة اليونانية ما هي إلا النحو اليوناني، وعلى ذلك فما حاجة العرب بها وعندهم نحوهم؟ وغاب عن هؤلاء أن نحوهم نفسه قد بني على منطق الفلسفة اليونانية، ومفاهيمها الأساسية في الفعل والحدث والزمان.

في عصرٍ أقرب إلينا، فإن تجدد الفصحى العربية وظهورها في حلّتها الحديثة، لا سيما على يد أدباء ومترجمين لبنانيين، أمثال أحمد فارس الشدياق، ناصيف وإبراهيم اليازجي، بطرس وسليمان البستاني، ارتبط برباط وثيقٍ أولا بترجمات العهد الجديد التي شاركوا فيها؛ وثانيا باستقبال فكرة الصحافة، خاصة مع الشدياق، وما تطلّبته من ترجمة الأخبار والبحث عن لغة جديدة في الكتابة؛ وعن أسماء جديدة لمخترعات الحداثة، التي عايشها الشدياق عن قرب في عيشه المطول في أوروبا؛ وكذلك عن طريقة لنقل المفاهيم الحديثة بتشابكاتها وتقاطعاتها، فالمفهوم لا يكون معزولا عن سواه.

كما ارتبط تجديد العربية، في جهة لم تتم دراستها بشكلٍ وافٍ بعد، بترجمات العلوم، لا سيما الطب والقانون في مصر مثلا، حيث تم أيضا ابتكار مقاربة جديدة للعربية، لاستيفاء نقل تلك المناهج الحديثة إلى العربية.

حصل هذا كله في الحقيقة قبل الاستعمار الغربي المباشر، وإن كان قد تعاصر مع صعود ثقافي غربي لا مراء فيه، ذلك أن من يبتكر العالم الجديد ويخترع أدواته هو بطبيعة الحال من يسميه، على ما لاحظ المفكر اللبناني أحمد بيضون. وهو صعود كان الناطقون بالعربية يحاولون مجاراته، وأحيانا مضاهاته أو الرد عليه. أي أن تجديدات اللغة حصلت دوما في سياق جدالات وتفاعلات وصدامات فكرية وحضارية، وأحيانا عسكرية. وقد نتج عن ذلك تقريبا كل اللغة العربية التي نعرفها اليوم، والتي ما تزال قادرة على الاستمرار بعد أن تم نسيان الوحشي منها والقديم والمتفاصح الذي أبلاه الدهر. كما نتج عنه عمليا معظم عالمنا العربي المعاصر ومعارفه ونقاشاته، باستثناء ما تسنّى لنسبة ضئيلة من مواطني الدول العربية من تمكّن كافٍ من لغات أجنبية، وقدرة على الوصول إلى مصادر المعرفة فيها بشكل مباشر.

في المحصلة ليس هنالك تجدد في التفكير دون حضور الآخر، والتنازع ما بين الماضي، الذي شكّل جزءا من اللغة التي نفكّر بها؛ والحاضر الذي يستثير رغبات تحضّ على التفكير، أو يستفز احتياجات المنافسة والمجادلة. وليس حضور هذا الآخر، بما في ذلك داخل اللغة، عائقا أمام الابداع، إذا ما توافر سياق مؤسسي وتراكمي للتفكير.

هل يعني هذا إننا “نفكّر بلغات أجنبية” جزئيا، ومنذ مطلع الحداثة العربية؟ يرتبط هذا بالطبع بموضوع التفكير وتوقيته، فالتفكير في مواضيع القانون الدولي أو الطب أو الفيزياء مثلا، مع آخرين لا يتحدثون العربية، يستتبع بالضرورة التفكير عموما بلغة النقاش. أما خارج ذلك، فقد يستعير المرء أحيانا مفاهيم يلفظها بلغتها الأصلية، لكنه يدرجها في حديثه العربي، سواء أكان فصيحا أم دارجا. إلا أننا نفكّر، طبعا، بلغات أجنبية ما دمنا نستعمل هذه المفاهيم، لكنه تفكير جزئي أداتي، يستخدم المفاهيم بوصفها أدوات في مواضع محددة. وقد يكون الجميع مشتركا بهذا، بحكم أن العالم المعاصر كما نعرفه تشكّل في ظل حضارات أجنبية عنا، بلغاتها المختلفة والمتحاورة، والتي تستعير من بعضها هي أيضا. وقد تكوّنت معرفتنا بهذا العالم أساسا من خلال الاستعارات والترجمات، سواء القديمة أو الحديثة.

إلا أن مفردة “العالم” هنا قد لا تكون دقيقة للغاية، أكثر لغتين “نفكّر من خلالهما” فعليا هما الإنجليزية والفرنسية. هل هذا مجرد أثر استعماري؟

الإشعاع المتراكم: قواعد الانتشار الغربي

في زمن أسبق كان ما يعرف بـLingua franca منتشرا في موانئ البحر المتوسط في العصور الوسطى ومطلع العصور الحديثة، وهي لغة وسيطة ذات جذور لاتينية، استوعبت تأثيرات لغوية وحضارية متعدد، ومنها التأثيرات العربية. ارتباط اللغتين الإيطالية والاسبانية بـLingua franca، جعلهما حاضرتين  في الموانئ العربية المتوسطية، وترك أثرهما في اللهجات العربية المعاصرة.

نشأت العلاقة مع الفرنسية والإنجليزية في العصر الحديث مع الانفتاح الذي اضطرت إليه الدولة العثمانية، وسمح بهامش حركة واسع، لا سيما للحركات الإرسالية المسيحية، الفرنسية والأميركية خصوصا. وبهذا فإن هذا إشعاع الإنجليزية والفرنسية كان سابقا على الاستعمار، مثلما أنه استمر حتى في عهد ما بعد الاستعمار.

بالنسبة للإشعاع اللغوي الفرنسي فهو لم يقتصر على العالم العربي، بل كان حاضرا في المجال القاري الأوروبي أيضا منذ مئات السنين، حين كانت النبالة الأوروبية، من روسيا إلى بريطانيا، تتحدث بالفرنسية، رغم العداء السياسي والحروب؛ وكان فولتير وديكارت وغيرهما يجوبان القارة ويلتقيان بكبارها. واستمر هذا التأثير طاغيا حتى وقت قريب، فالترجمة إلى الفرنسية اعتُبرت دائما المدخل الأساسي لحضور كتّاب كبار في المجال العالمي، ونيلهم الشهرة، سواء كانوا من أميركا اللاتينية أو أوروبا الوسطى.

تولّد هذا الإشعاع من السياق المؤسسي التراكمي للثقافة الفرنسية، منذ تأسيس جامعة السوربون، أي إقامة مجال تعليمي عالٍ ومنفصل، بل مواجه للتعليم الديني الذي كان القاعدة في أوروبا المسيحية، دون انفصال بين حياة الطلاب وحياة المدينة؛ ومن ثم إنشاء متواصل لمعاهد وجامعات ومؤسسات، مثل Collège de France والأكاديمية الفرنسية وسواهما؛ وأيضا بنية اقتصادية/ثقافية كانت فرنسا سّباقة إليها، عبر أسواق الكتب والنشر وحقوق الملكية الفكرية (بداية من الموسيقى وطبع نوتاتها في القرن الثامن عشر). أنتج هذا أدبا وفكرا وهندسة وموسيقى أكثر تعقيدا (بدأت البوليفونية الغربية في الموسيقى مثلا من كنيسة نوتردام، مثلما بدأت العمارة القوطية من جوار باريس)، أعطى هالةً ثقافية لفرنسا، أضيف إليها غواية أساليبها في العيش والسياسة.

في مقابل هذا “الإشعاع”، يتبدّى أن التأثير البريطاني كان أقل حضورا بكثير على المستوى اللغوي والمعرفي حول العالم، على الرغم من الاستعمار، باستثناء مهم وكبير هو الهند، التي منحها الاستعمار البريطاني لأول مرة لغة موحّدة. وكان علينا انتظار منتصف القرن العشرين، وصعود الولايات المتحدة لتشكّل قطبا جديدا، لانتزاع الصدارة الفرنسية في التأثير الفكري والترجمات. وذلك بوسائط يمكن تحديدها: السينما؛ استقبال المهاجرين؛ الترجمات الكثيفة؛ استقبال أفكار الآخرين (انتشار “النظرية الفرنسية” في الجامعات الأميركية على سبيل المثال)؛ الإرساليات التبشيرية؛ المنح الأكاديمية؛ ومؤخرا المنظمات غير الحكومية بتمويلها الأمريكي الضخم؛ والإعلام الحديث منذ اختراع التلفزيون؛ صدى الانتصارات العسكرية؛ مراكز الأبحاث الهائلة، التي لا تتوقف عن الاختراع؛ الإنتاج الموسيقي بالغ التنوّع (بفضل تنوّع منابت الأمريكيين)؛ ثم انتشار الانترنت، ومحتواه الأهم والأضخم بالإنجليزية. أي وجود صناعة ثقافية ومعرفية، ومؤسسات علمية، ووسائط لنشر نمط الحياة الأميركي على مستوى عالمي، بغوايته الاجتماعية، وكذلك باختراعاته ومفاهيمه.

فهل يمكن لكل هذه الغواية أن تنتهي؟

أوروبا خارج إطارها: لغات نزع العولمة

من المستبعد أن التغييرات التي تلحق بالعولمة ستغيّر هذا الوضع سريعا. العولمة نفسها عولمات متعددة، ولم تبدأ فقط في التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتشار الإنترنت. لكن طورها الحالي يخضع لمراجعة عميقة، وهو الذي تميّز بسرعة هائلة في نقل المعلومات والتقنيات والأموال؛ وحرية نسبية في انتقال الأشخاص؛ واعتماد متبادل بين الدول في التصنيع والاستهلاك على امتداد سلاسل إنتاج بالغة الطول؛ وديون هائلة للدول الكبيرة؛ واستخدام فظيع الكلفة البيئية للطاقة.

اعتماد الولايات المتحدة ودول أوروبا على هذا النموذج للعولمة كان مبنيا إلى حد كبير على ما تبيّن أنه وهم اقتصادي مخيف في تأثيره البيئي (النمو غير المحدود في عالم محدود الموارد)؛ ووهم جيوـ استراتيجي، أي إمكانية دمج أعداء الأمس الشيوعيين (روسيا والصين)، من خلال الانفتاح والتشبيك الاقتصادي في أفق سياسي مسالم لا يشكل تهديدا وجوديا، وهو بالضبط ما ضربته الحرب الأخيرة في أوكرانيا، والتصعيد الاقتصادي (وكذلك التوتر العسكري) بين الصين وأميركا.

عمليات تغيير العولمة، التي قد يسميها البعض “نزع العولمة”، أي تقصير سلاسل الإنتاج؛ وزيادة الاعتماد على الذات في عدد من السلع والقطاعات الاستراتيجية؛ والتوجّه نحو سياسات حمائية؛ ومعاداة أكبر للمهاجرين؛ وازدياد الانقطاع عن روسيا والصين بالدرجة الأولى، وإن بشكل تدريجي؛ وعودة التنافس العسكري، كل ذلك لن يؤثر بشكل مباشر وسريع على التراكم المؤسسي (الأميركي بالدرجة الأولى) والإشعاع اللغوي للغات الأوروبية. تظل الفرنسية من بين أسرع اللغات نموا في العالم بسبب حضورها الافريقي؛ وكذلك الإسبانية بسبب حضورها الأميركي الجنوبي، وصولا إلى قلب الولايات المتحدة؛ كما أن الإنجليزية تظل Lingua franca عصرنا، فضلا على كونها اللغة الموحِّدة (بكسر الحاء) للبلد الذي سيصبح الأكثر سكانا في العالم، أي الهند. ذلك أنه لا يبدو أن هنالك سياقا حتى الآن يسمح ببناء مؤسسات وأطر إنتاج ثقافي، ونشر لنمط حياة مغوٍ في روسيا أو الصين، أما اليابان والنمور الآسيوية فيظل وزنها الديمغرافي أضعف من أن تحقق انتشارا عالميا كافيا، وإن كانت ثقافتها تنتشر في صورة “ترندات”، مثل البوب الكوري الجنوبي، أو المانغا اليابانية المترجمة إلى لغات أخرى.

على المدى الأبعد، إذا كان للمرء أن يتجرّأ على التنبؤ بالمستقبل، ربما يتصاعد دور الهند، التي تملك “غنيمة حرب”، هي اللغة الإنجليزية، تسمح لها بالوصول بسرعة إلى السوق الثقافية والاقتصادية العالمية، وصولا إلى قمة الشركات الأكبر والأحدث في العالم. وتملك من التنوّع البشري والتعدد، ومن التاريخ والموسيقى والتقاليد الروحانية، ما يمكن أن يولّد نمط حياة مغوٍ جديد، لا سيما للعيش في أوساط كثيفة ديمغرافيا ومدن ضخمة. وقد يسمح ذلك مستقبلا بانتقال قسم من الهيمنة الثقافية الأميركية باتجاه الهند.

كما قد يتصاعد دور أميركا الجنوبية واللغة الاسبانية، لوجود إمكانيات تطور اقتصادي داخلي هائلة فيها؛ وكذلك بسبب سرعة انتشار اللغة الاسبانية داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها؛ فضلا عن أثر تقصير سلاسل التوريد، الذي قد يستتبع نقلا أكبر للتقنية والمعارف والتصنيع إلى الجوار الجنوبي للولايات المتحدة. كما تملك أميركا الجنوبية حيوية ديمغرافية ومعدلات أعمار شابة نسبيا؛ وتعددا داخليا، بسبب الهجرات المتنوّعة، وبالتالي علاقات مع مناطق جغرافية كثيرة حول العالم؛ وإرثا فنيا وموسيقيا وبصريا ثريا، ربما يسمح لها بتوليد نمطها الخاص لغواية العيش، وقد يتيح لها أيضا احتلال جزء من المشهد الذي تهيمن عليه حاليا الولايات المتحدة، مثلما فعلت قبل نصف قرن مثلا في مجالات الأدب والموسيقى ولاهوت التحرير.

أي أننا نظل أمام لغتين أوروبيتي الأصل، خرجتا عن إطارها الجغرافي الأول (اسبانيا وبريطانيا)، وربما بدرجة أقل قد نشهد عودة لحيوية اللغة الفرنسية، إذا تشكّلت مؤسسات وبنى تحتية معرفية وثقافية كافية في إفريقيا الفرنكوفونية شمالا وغربا. أما اللغة الألمانية، على أهمية ثقافتها، فقد تغدو أكثر حضورا بقليل في الفضاء العربي تحديدا، وليس العالمي عموما، بسبب اللجوء السوري والعراقي والحضور المصري المعزز فيها مؤخرا، لكنها تظل غير قادرة على المنافسة على المستوى الدولي.

بالنسبة للصين فمن المستبعد أن تقدّم نموذجا عالميا، لأسباب متعددة، منها انكفاؤها الذاتي؛ ونهاية الانفجار الاقتصادي فيها؛ والتراجع الديمغرافي؛ وعدم وجود مساحة تواصل مع الداخل الصيني، لغياب الهجرات التي تسمح لأقوام آخرين بالتعرف على ذاتهم داخل بلاد كبيرة مستقبلة للهجرة، مثل ما يحصل في الولايات المتحدة وفرنسا؛ وكذلك نظرا إلى تاريخ الانغلاق الصيني على الذات، وفرادة الإرث التقليدي الصيني، وابتعاده عما بات سائدا في العالم.

في المحصلة النهائية، وإلى أن تتكوّن مراكز بديلة لإنتاج المعرفة بشكل مؤسسي مستدام، ووسائط لنشر الأثر والهالة الثقافية، فإن الوضع لن يتغيّر على المدى المنظور. وإذا حصلت التغييرات التي أشرنا إليها على المدى الأبعد، فإن الأفكار والمصطلحات واللغة في العالم العربي قد تتأثر بذلك، وإن ظل التأثير قادما من لغات أوروبية.

أما تحديث اللغة العربية نفسها فنقاش آخر، لا سيما وأن أي نزرٍ من طاقة التجديد يتم استنزافه في سجالات عقيمة حول العامية والفصحى، أو النقاشات الدينية والمعجمية. كما أن جدوى تعلّم العربية حاليا، على المستوى المعرفي والاجتماعي، متضائل بشدة في كل الدول العربية، ما يُضعف أصلا الرغبة في تجديدها وتعزيزها. وإلى أن يعود العرب إلى المشاركة في صناعة العالم (ماديا ومعرفيا) فمن المنطقي أن يظلوا في موقع المتلقي، الخاضع لتأثير التغييرات العالمية، المحدودة ربما في المستقبل القريب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.