يمكن قول كثير من الأمور عن الحدث السوري، ومدى تكلفته السياسية والإنسانية. ولكنّ التجربة الذاتية الفريدة، التي عايشها السوريون في ظرف تاريخي شديد الصعوبة، لا يمكن اختزالها بالتأكيد بلغة الأرقام، أو حتى الصور والتقارير التوثيقية، التي تستعرض معاناة وخسائر مئات الآلاف، ممن كابدوا ذلك الحدث. هنا يمكن للمعالجات الأدبية والفنية أن تعيد بناء ما جرى، من منظورات أكثر غنىً وتعقيداً. خاصةً إذا كان الهدف إظهار الأبعاد المركّبة للمفاهيم التي شكلت “الواقع” الذي اختبره السوريون: الحقيقة والذات والهوية والرغبة والتواصل مع الآخر. وأيضاً العلاقات الاجتماعية والألعاب اللغوية المعقدة، التي مارسها معظم الأفراد كي يتأقلموا مع واقعهم، ويعيدوا إنتاجه. أو بالأصح كي يستطيعوا النجاة والاستمرار. وربما ضمن هذا السياق يمكن قراءة مسرحية “واجب منزلي”، من تأليف وإخراج المسرحي السوري “زياد عدوان”. التي تعرض حالياً، باللغة الإنجليزية، على خشبة “المسرح الإنجليزي” في العاصمة الألمانية برلين.

“عدوان” كتب مسرحية عن “الناشطين والفاسدين”، كما يؤكد بروشور العمل نفسه، إلا أنه سعى إلى ما هو أكثر: ما الذي يمكن أن يحدث عندما نجد أنفسنا معزولين ومحاصرين في أمكنة لم نخترها، مهددين بأخطار لا يمكن تحديدها بدقة، ولكن يمكن تخيّل مدى هولها وإيلامها؟ إلى أي مدى يمكن أن نتعامل مع هذا الشرط ونتأقلم معه، لنحوّل مواطن معاناتنا إلى “المنزل”، الذي نؤدي فيه ما نرى أنه واجباتنا والتزاماتنا؟ والأهم ما التغيّرات التي يمكن أن تطرأ على ذواتنا، وعلى علاقتنا بالآخرين، خلال محاولاتنا للنجاة؟ وما الذي تعنيه الحقيقة، والصدق والكذب، بل الواقع نفسه، عندما نضطر لخوض تلك التجربة؟ لا يسعى المسرحي السوري في عمله إلى التوثيق. أو تقديم الصور المألوفة عن الناشطين الثوريين وسجّانيهم ومعذبيهم. أو حتى لما يسمى “إطلاع العالم على المأساة السورية”. بل لمعالجة الشرط الإنساني نفسه في أوضاع شديدة الاستثنائية.

ألعاب الحقيقة والقوة

بطلة المسرحية فتاة سورية توحي، دون كثير من الثقة، بأنها “ناشطة”. نجدها مضطرة للإقامة في فندق ما في حمص، أثناء المعارك والحصار الذي شهدته المدينة، عاجزةً عن الخروج أو الفعل. وتقتصر صلاتها مع العالم الخارجي على الاتصال عبر الانترنت بـ”أبي شاكر”، صاحب الفندق، ذي الشخصية والغايات الغامضة. وبحبيبها “فراس” المقيم في بيروت. ما الذي جاء بها إلى هنا؟ وما المخاطر التي تحاصرها؟ العرض لا يقدم أجوبة سهلة.

وسط حالة الانهيار والخوف التي تعيشها يقتحم “السيد نادر” غرفتها. وهو شخصية تمثّل نموذجاً يعرفه أغلب السوريين: الأفّاق الفاسد، الذي لا يمكن فهم غاياته وولاءاته وطبيعة نشاطاته. صاحب الصلات المشبوهة مع كل الأطراف: الأجهزة الأمنية، مقاتلو المعارضة، عصابات الخطف والتهريب، الخ. إلا أن “السيد نادر” يؤكد أنه لا ينوي بها شراً، فهما بالنهاية ابنا بلد واحد، شربا من الماء نفسه. وهو يشعر بمسؤولية تجاه تلك الفتاة الوحيدة. “الأخت” التي لن يتركها تواجه مصيرها دون سند.

هكذا يصبح المقتحم والمعتدي أشبه بالملاك الحارس، وتدور فصول المسرحية في سياق لعبة كلامية وأدائية متعددة الأوجه بين الطرفين: الضحية والجلّاد، اللذين قد تنقلب الأدوار وعلاقات القوة بينهما، لتصبح الضحية أحياناً الطرف المغوي والمخادع والمسيطر؛ والجلّاد خاضعاً، وشخصاً لا يخلو من النبل والشهامة، مُهدداً بدوره بالأخطار الغامضة شديدة الهول، التي تعاني منها الضحية. يتم هذا عبر وسائط أدائية لا تخلو من التنوّع والقدرة على لفت الانتباه: الحوار، الذي يتنقّل عبر الحدود الغائمة بين الحقائق والادعاءات؛ العنف الجسدي والنفسي؛ الكوميديا والتراجيديا. فيختلط الصدق بالكذب، والواقع بالهلاوس. ولا تعود الإجابة على أسئلة المشاهد حول مجرى الأحداث وأسبابها هي الأهم، بل التجربة النفسية والشعورية نفسها، التي عاشتها الشخصيات. خاصة مع المشهد الختامي للعرض، الذي يوحي بأن كل ما جرى قد يكون مجرد هواجس، دارت في ذهن البطلة.

هذا على ما يبدو ما أراد “زياد عدوان” التعبير عنه في عمله. وما يمكن للمشاهد استخلاصه من قراءة متعاطفة مع العرض. ولكن إلى أي مدى نجح المسرحي السوري في تقديم صياغة فنية ومسرحية مناسبة للمفاهيم المعقدة التي عمل عليها؟ الإجابة قد لا تكون في مصلحة العمل.

فرص ضائعة

يمكن اعتبار الغموض إحدى التيمات البنيوية في العرض، الذي اشتغل أساساً على ألعاب اللغة. والحقيقة بوصفها أداءً مختلطاً بالهلاوس والمخاوف والادعاءات الذاتية. ولكنّ مؤلف العمل ومخرجه وقع في التباس كبير على ما يبدو، بين الغموض الضروري لبناء وعرض المفاهيم الأساسية للعمل، وغموضٍ ناتجٍ عن حبكة مهلهلة وغير متقنة إلى حد كبير. مرتكباً أخطاءً من المستغرب أن تصدر عن مسرحي محترف.

اعتبار أن الشخصيات تعيد إنتاج “حقيقتها” مع كل مرحلة من تطور الأحداث لا يُغني بالتأكيد عن توضيح السياقات العامة، وبناء إطار سردي ودرامي متين للعمل. كما أنه لا يعفي صانعه من تقديم مشاهد مقنعة للمتفرجين، وإظهار الدوافع الأساسية لقرارات وتصرفات أبطال العمل.

لدينا في عرض “واجب منزلي” علاقة غير واضحة المعالم والدوافع بين رجل فاسد وفتاة خائفة. ما أسباب اهتمام “السيد نادر” بالفتاة؟ ولماذا دخل معها أصلاً في تلك اللعبة المعقدة؟ وما تفسير انتقالاته من حال إلى آخر في علاقته معها. ليصل، مع ختام العرض، إلى قرارات يمكن وصفها بالشهامة والقدرة على التعاطف؟ لا يبدو أن الكاتب قد اعتبر نفسه معنياً بهذه الأسئلة الأساسية. ولهذا عواقب كبيرة، لا تقتصر فقط على جعل الحدث غير مفهوم، بل صارت تجربة الأبطال الذاتية نفسها، التي اهتم بها العمل أساساً، غير مقنعة ولا يمكن التفاعل معها. فبدا العرض وكأنه مجرد مشاهد مبتورة ومتناثرة، مقتطعة من عمل أكبر.

ضيّع العرض كثيراً من الفرص والإمكانيات الكامنة فيه. على سبيل المثال كان يمكن الاستفادة من الشرط المكاني والزماني للحدث: حمص في زمن المعارك والحصار. لتقديم تفاصيل أكثر غنى، توضّح أبعاد التجربة الذاتية التي عاشها الأبطال، وكيفية تعاطيهم مع الواقع وظروفه الملتبسة. فضلاً عن هذا بدت العلاقة بين بطلي العمل مليئة بالتلميحات والإشارات الجنسية، التي وصلت إلى ذروتها مع مشاهد التقييد والسيطرة الجسدية. إلا أن هذه الإشارات بقت خاملة وغير مستغلّة، رغم أهميتها في توضيح جوانب تجربتهما المشتركة، والدوافع والهواجس التي تحركهما. وكأن العمل كان يخشى من رقابة أخلاقية ما. وهذا بدوره مثير للتعجّب في مسرحية تُعرض في برلين.

أداء الممثلين لم يساعد كثيراً في تحسين تجربة المشاهدة. وليس المقصود هنا طريقتهم في الأداء فحسب، التي لم تخل بالتأكيد من الافتعال والمبالغة. بل أيضاً أسلوب فهمهم وتبنيهم للشخصيات. فشخصية “السيد نادر”، التي أداها الممثل الإسباني Eneko Sanz، قد تبدو مناسبة لنموذج الأفّاق في الأفلام الأوربية أو الأميركية، ولكنها لا تبدو شبيهة، من حيث أسلوب الكلام والتعبير والشكل وردود الأفعال، بشخصية أفّاق سوري. وهذا بالأساس ليس خطأ الممثل، بقدر ما هو خطأ إخراجي ودراماتورجي، ارتكبه القائمون على العرض في عملهم مع المؤدّين. الأزياء، غير المناسبة بدورها لشخصيات سورية، زادت الحال سوءاً، ما يدفع المشاهد للتساؤل عن عمل الفريق الفني للعرض، وأغلب أفراده من السوريين.

التقديم غير المتقن للشخصيات هنا لا علاقة له بكسر الصور النمطية عن نموذجي الناشط والفاسد مثلاً. كما أنه بالتأكيد ليس نوعاً من التغريب المسرحي عن الحدث، فالعمل يسعى بوضوح لتقديم شخصيات تنمي لزمان ومكان محددين، ودمج المتلقي تماماً بما يدور على الخشبة، وليس تغريبه عنه. وهذا يقودنا بدوره إلى انتقاد أسلوب فريق العمل في تغيير الديكورات بين الفصول بشكل واضح للمشاهدين. فهذا أسلوب تغريب مسرحي غير مناسب لعرض لا يسعى أصلاً لكسر جداره الرابع. أي إزالة الإيهام المسرحي والدرامي، وجعل المشاهد يدرك أن يشاهد لعبة أدائية، وليس حدثاً فعلياً.

يمكن الاسترسال كثيراً في سرد تفاصيل، لا يمكن تصنيفها إلا في خانة الأخطاء، إلا أن الأهم توضيح أن العرض لم يستطع الوفاء بالوعود والتحديات التي طرحها على نفسه. ما جعل النتيجة النهائية مخيبة للآمال إلى حد كبير.

هنا والآن

أحد أهم أسئلة الدرامتورجيا: “لماذا هنا والآن؟”. أي لماذا يتم تقديم نص معيّن، بأسلوب ولغة ما،  في هذا المكان وهذا الزمان بالتحديد. وكيف يمكن استغلال لحظة التواصل المباشر على الخشبة بين المؤدين والمتفرجين. وبأي أسلوب يجب ترتيب وتنظيم الأفعال التواصلية والإجراءات المسرحية المختلفة، لتحقيق نمط التفاعل المرجو من العرض.

لا يبدو أن عرض “واجب منزلي” قد خضع لمعالجة دراماتورجية فعّالة، فهذا العمل السوري المعروض في برلين لم يبد معنياً للغاية بتوضيح نمط التواصل الذي يريد أن يبنيه مع جمهوره. فلا المشاهد السوري والعربي استطاع أن يكتشف أبعاداً جديدة لتجربة عايشها، ويعلم كثيراً عنها. ولا المشاهد الأوروبي عرف أكثر عن الظرف التاريخي للأحداث، والتجربة المرتبطة به. ولماذا تستحق التعميم، بما يتجاوز الحواجز اللغوية والثقافية. وبالتأكيد لم يرتق العمل لمعالجة “الشرط الإنساني” نفسه، بما يجعله في حلٍّ من تقديم وقائع زمانية ومكانية وثقافية ملموسة.

ربما أراد العرض أن يقول لنا كيف “شربنا من الماء نفسه”، حسب تعبير “السيد نادر”. أي كيف عشنا في ظرف اجتماعي وسياسي جعلنا نكابد التجربة المروّعة نفسها، مع الواقع والذات والآخر. ثم كيف غرقنا في ذلك الماء، لتكون النتيجة علاقات وتصرفات ورود فعل تليق فعلاً بالغرقى والمختنقين. إلا أن العرض نفسه قد غرق في تفاصيل وأفكار وأداءات متخبّطة، ما جعله مختنقاً في “مياهه” الخاصة، بدلاً من أن يكون قادراً على التحكّم بها ببراعة.

يطرح هذا أسئلة متعددة عن الإنتاج الثقافي السوري والعربي في المغتربات، بعد أن توفرت له إمكانيات مادية جيدة، وهامش واسع من الحرية: لماذا يظهر عجزاً واضحاً في التعامل مع الأسئلة الفكرية والفنية الأساسية التي يتصدى لها؟ وما الذي يسعى لقوله فعلاً في الظرف الحالي، الذي يتسم بسيولة ثقافية ومكانية واجتماعية كبيرة؟

بكل الأحوال يبقى أن المهمة الاجتماعية الأساسية للمسرح خلق حالة من الحوار وتبادل وجهات النظر بين مشاهديه. وأن لا يكون مجرد حدث عابر، ينساه الناس بعد فترة قصيرة من نهاية العرض. وربما بهذا المعنى نجح “واجب منزلي” بالحد الأدنى في إقامة حدث مسرحي، ترك أثراً على متلقيه، حتى لو كان سلبياً، ومتشككاً بإتقان العمل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.