عودة الحياء: هل كانت الأخلاق سلاح الثورة المضادة ضد “يناير”؟

عودة الحياء: هل كانت الأخلاق سلاح الثورة المضادة ضد “يناير”؟

ظهرت البادرة الأولى لما يمكن تسميته “أخلاقية الثورة المضادة” بمصر في وقت مبكّر نسبيا، وذلك بعد هزيمة نظام حسني مبارك، البادية على الأرض عقب يوم الثامن والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011، حين أٌحرقت أقسام الشرطة، العماد الأساسي للنظام، وفرّ ضباطها مذعورين من انتفاضة الناس، عندها لم يجد مؤيدو مبارك أفضل من عبارة “اعتبره أبوك يا أخي”، كطوق نجاة يُفحم الثائرين، إذ أن المنطق وحده لم يعد كافيا لتغطية دماء من سقطوا على يد وزارة الداخلية المصرية، إبان المظاهرات. مبارك نفسه، على مدار ثلاثين عاما، رسّخ نفسه بصفته الأب الكبير للجميع، وعاد إلى تلك النغمة في الأول من شباط/فبراير، أي في خطابه الثاني بعد الثورة، مما أثار نوعا من التعاطف معه، إلا أن هذا لم يمنعه من ارتكاب جريمة لا أخلاقية بعدها بيوم واحد، أي “موقعة الجمل”، التي هجم فيها بلطجيته على المعتصمين في ميدان التحرير.

يمكن القول إن رؤساء مصريين متعددين عملوا على تقديم أنفسهم عبر “أخلاق القرية”، وهي الفكرة التي ابتدعها أنور السادات، ليجعل منها مرجعا لحكمه. يستدعي الرئيس/رب العائلة القيم الأبوية، والعواطف المنتمية للأسرة والأخلاق الحميدة، إلا أنه يحتكر الحق بكسر أكواد تلك الأخلاق، عندما تقتضي الحاجة، فيتحول إلى طاغية سفّاح، يعاقب “أبناءه” المتمردين بالموت والاعتقال والنفي. لا تضمن تلك الاخلاق إلا استمرار سلطة الأب دون أية مساءلة. أما العدالة والحرية، وغيرها من حقوق “الأبناء”، فهي النقطة العمياء، التي تقوم عليها أخلاق القرية أساسا.

لم يكتف السادات بتطبيق أخلاق القرية على الحكم الداخلي، بل حاول أن يمدها إلى السياسة الخارجية، إذ ظن، أثناء مفاوضات كامب ديفيد، أن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر يشاركه القيم نفسها، باعتبار كليهما من طبقة الفلاحين، متناسيا أنه رئيس دولة عريقة في اعتمادها على المؤسسات والديمقراطية والرقابة، ولذلك لم تتأثر توجهات السياسة الأميركية كثيرا بالضغط الأخلاقي “الفلاحي”، الذي حاول السادات استخدامه لحرف مسار المفاوضات لمصلحته.

لم تتأثر ثورة يناير أيضا بالابتزاز الأخلاقي الساذج للدولة المصرية، فسخرت من شعار “اعتبره أبوك يا أخي”، لكن ظل شبح تلك العبارة حاضرا في النقاشات العامة. كان من مميزات الثورة بشكل عام، إفساحها المجال لكل ما تنبذه “أخلاق القرية” من على السطح، لكنه حاضر في عمق المدينة، مثل البذاءة والسخرية التي لا تكترث لشيء. وقد طبع تأثير الثورة معظم الأعمال الأدبية والفنية اللاحقة، ما جعل “أخلاق القرية” تهتز فعلا بالبلد.

جاءت صرخة “اققل علينا يا ريّس!”، العائدة للفنان الخلوق محمد صبحي، لتكون رمزا لهلع المحافظين، سياسيا ودينيا واجتماعيا، من حالة الانفتاح الثقافي بعد ثورة يناير، التي استهزأت بالرموز، وازدرت كثيرا مما كان مترسّخا في منظومة الأخلاق السابقة. فهل نجحت الثورة المضادة بـ”القفل علينا” عبر الأخلاق؟ وما الأفق الأخلاقي، الذي كان يمكن للثورة الوصول إليه، قبل محاولات استعادة “أخلاق القرية”؟

بعد “الحرية”: كيف اكتشفنا لذة ازدراء الرموز

وجد الفنانون المصريون، من العاملين في الدراما التليفزيونية والسينما والأدب، فرصة نادرة للحرية بعد الثورة، وربما كان من أهم الأمثلة على ذلك برنامج “البرنامج” لباسم يوسف، الذي عُرف بتخطيه لقيم الأسرة التقليدية في السخرية، باستخدامه للبذاءة، وفضحه لمكامن نفاق الأخلاق. فتمكّن في وقت قصير من أن يحجز مكانه على قناة كبرى مثل “سي بي سي” المصرية، متجاوزا نخبوية المشاهدة على يوتيوب آنذاك، إلى ملايين تنتظره كل أسبوع. واستطاع تشريح «المسخرة»، وفضح هشاشة الأخلاق السائدة وبلادتها.

من جهة أخرى شهدت كتابة الدراما التلفزيونية نقلة نوعية، في الفترة من 2011 إلى 2013، في مواضيعها وأساليب معالجتها ولغتها، بحسب الكاتب محمد جابر، في مقاله “الدراما المصرية والسلطة: سيناريوهات تشيّد طواحين الهواء وتحاربها”، فإلى جانب المستوى الفني المرتفع، الذي جاء نتيجة حماسة مخرجي السينما لتقديم دراما تلفزيونية للمرّة الأولى، بسبب حجم الحرية غير المسبوق، فإنّ المواضيع والنماذج كانت لافتة للانتباه: “موجة حارة” (كتابة مريم نعوم، وإخراج محمد ياسين)، يتناول شخصية ضابط شرطة في وزارة الداخلية، ويشتبك مع مواضيع كالتعذيب وقضايا الآداب والسيطرة على الإعلام، في أحداثٍ تدور في صيف ما قبل ثورة يناير. أما مسلسل “ذات” (كتابة مريم نعوم أيضا، وإخراج كاملة أبو ذكري وخيري بشارة)، ففيه رؤية بانورامية لمصر منذ ثورة 1952 إلى عام 2011، مع كسر تابوهات كثيرة، عن الحكم والشعب وفترة الانفتاح وعصر مبارك. وأيضا مسلسل “بدون ذكر أسماء” (تأليف وحيد حامد وإخراج تامر محسن)، الذي يُقدّم تحليلاً دقيقاً لفترة الثمانينيات الفائتة، وتحكّم “الجهات السيادية” في الدولة بكلّ شيء.

حتى المسلسلات الأخرى، الأقرب إلى الترفيه، مثل كوميديا “الرجل العناب” لشادي علي؛ والإثارة كما في “نيران صديقة” لخالد مرعي، يُمكن ملاحظة مدى تأثّرها بمساحات الحرية: السخرية من الإعلام؛ والاستهزاء برجل الدولة المخابراتي في “نيران صديقة”، وبـ”الرجل الشرطي” في “العناب”.

السخرية في “الرجل العناب” لم تكن فقط من الماضي، بل من الحاضر أيضا. يتم التلاعب بـ”الرجل العناب”، الذي يرمز إلى عبادة الجماهير للقوة، والتلاعب بالجماهير معه، من قبل الأحزاب والشرطة المصرية. ظهرت الأخيرة في المسلسل بصورة دونية، ووصف دورها “بالفاشل”. لا يبدو المسلسل منحازا لأحد، لا الهامش ولا المتن، لا الصواب ولا الخطأ. لا يتخذ مواقفا سوى السخرية من المواقف كلها، بما فيها أقدسها عند الثوار والفلول والتيارات المحافظة والإسلاميين، ومن دون أدنى محاولة للتعالي على “الرخص” الممتع فنيا، أو محاولة لتجنّبه. فالعمل لا يسعى إلى اكتشاف حكمة أو حقيقة ما، بل الإضاءة أكثر على “رخصهما”.

تخطّى العمل المقدسات والمكتسبات بعد الثورة، فهو يسخر من فكرة المتاجرة بـ”الشهداء” من قبل الجميع، ويسخر من المليونيات، في مشهد يعيد استنساخ مليونية في “التحرير”. كما يسخر من المتاجرة بالقضية الفلسطينية، بوصفها “كليشيه” دائما في أحاديث السياسيين وموضوعات الإنشاء. تبدو الكوميديا في “الرجل العناب” كاسحة ألغام، لا ترتكز إلى موضوع بعينه، إنما تنتهز الفرص عبر ارتجال المشاهد والفوضى للسخرية من كل شيء.

في أفلامهم الأربعة “ورقة شفرة”، و”سمير وشهير وبهير”، و”بنات العم” و” الحرب العالمية الثالثة”، لم يتخل الثلاثي هشام ماجد وشيكو وأحمد فهمي عن حالتي اللهو والارتجال، وعن “الخيال الطازج” في إنتاج الكوميديا، التي لا تعترف بخطوط حمراء، وهو ما يتراجع الآن، ليس فقط بسبب انفصالهم، بل أيضا بسبب سيطرة المزاج العام للدولة، المعتمد على الرقابة الأخلاقية؛ وأيضا لانتقالهم بشكل واضح من الهامش إلى المينستريم، وهي مسألة قلبت حساباتهم رأسا على عقب.

كان الثلاثي أكثر تمردا على الخطوط المحفوظة للكوميديا المصرية، ولأول مرة تتم السخرية من أيقونات تكرّست على مدى عشرات السنين، مثل عبد الحليم حافظ، الذي غنى في فيلم “سمير وشهير وبهير” أغنية شعبية لسعد الصغير (العنب)؛ كما تجرّأوا على السخرية من المطربة فيروز، مستغلين التشابه بين اسمها وبين منتج شراب شعير يحمل الاسم نفسه. وظهرت الأم، على عكس تصويرها في الأفلام المصرية، ذات ماضٍ منحرف، أو واقعة في غرام ابنها. بينما قدموا في فيلم “بنات العم”، الأكثر نضجا، نظرة لا تنحاز إلى الذكورة أو الأنوثة، بل تقف لتحتقر الاثنين معا، في موقف تتحول فيه ثلاث بنات إلى ثلاثة رجال

لكن بعد عام 2014، قرّرت الدولة المصرية، العائدة إلى حكمِ رئيسٍ عَسكري مجدّدا، أنْ تتحكّم في مناحي الحياة كلّها، منعا لتكرار ما حدث في يناير. من بين أهم تلك “التحكّمات” الإعلام والتلفزيون، وخاصة المسلسلات. قرّرت الدولة، بالوسائل المختلفة لسيطرتها (مخابرات وأمن وطني ورقابة على المواد المرئية)، أنْ تسيطر على السردية المُقدّمة إلى الجمهور بشكل مطلق. مثلا، لا يُمكن تقديم شخصية ضابط شرطة فاسد. لا يُمكن التعرّض للوضع السياسي الحالي. لا يُمكن ذكر كلمة “ثورة”، ولا يوجد أي مجال لـ”قلة الأدب”.

الحسبة الأخلاقية: لا للرقص و”خدش الحياء”

في أيلول/سبتمبر 2022، أيّدت المحكمة الإدارية العليا المصرية الحكم السابق بعزل الروائية والأستاذة الجامعية منى برنس من وظيفتها أستاذةً للأدب الإنجليزي بجامعة قناة السويس، بسبب فيديو لها وهي ترقص على سطح منزلها، وهو الأمر الذي يتعارض مع حقوقها المكفولة دستوريا. ورأت المحكمة في حيثياتها أن رقصة الأكاديمية والروائية المصرية مخالفة تحطّ من قدرها، وتنال من هيبتها أمام طلابها، وجاء في منطوق الحكم: “لا يجوز لأستاذ الجامعة، ولو خارج نطاق الوظيفة، أن ينسى أو يتناسى أنـه تحوطه سمعة الدولة، وترفرف عليه مُثلها، وأن الكثير من تصرفاته الخاصة قد يؤثر في حسن سير المرفق الجامعي وسلامته، أو يعوق سيره، ويضر بسلامته”.

جاء هذا الحكم بعد سجن الروائي المصري أحمد ناجي عام 2015 بتهمة البذاءة. بسبب نشره فصلا من رواية “استخدام الحياة” في جريدة “أخبار الأدب”، فيما عُرف بقضية “خدش الحياء العام”، وهي التهمة التي حرّكها “مواطن مصري”، وساندته النيابة بتبنّيها لمنطقه، ليصير ما وراء الكتابة نفسها كابوسا أكثر من الكوابيس التي يصوّرها الأدب.

لا تخبرنا تلك القضايا شيئا عن القانون، بل عن اللاقانون الذي يتربّص بالحريات الشخصية وحرية الإبداع في مصر، كأن كل نجاة لتلك الحريات تحدث بمحض الصدفة فقط، وليس وفق القانون الرسمي، بل وفق المزاج الشخصي للقاضي أو وكيل النيابة أو الضابط.

المثير للانتباه أن حريات الإبداع مكفولة في الدستور المصري، وهي المفارقة التي تستوقف الكاتب أنور الهواري في كتابه ترويض الاستبداد، إذ أن دساتير مصر طالما كفلت الحريات نصّا، لكنها، بطريقة عجيبة، تُستخدم لتكريس سلطة الحاكم الفرد. ينصّ دستور عام 2014، الذي كُتب تحت الحكم العسكري، على “حق الكرامة والحياة الآمنة والحرية والشخصية والإبداعية”، ورغم ذلك تظل الهوة كبيرة بين الدستور والواقع.

في عام 2021 نشرت دار “المدى” العراقية رواية “أم ميمي” لبلال فضل، الذي  استفاد من إقامته خارج مصر، ليصبح أكثر حرية في استخدام لغة عارية. لا ترهبها رقابة الأخلاق الدينية والسلطة، التي تحيل الكلام إلى المحكمة؛ ولا المعايير الجامدة للثقافة، والمتنمرين باسم اللغة؛ ولا إدانات الصوابية السياسية، التي تحولت إلى رقيب إضافي على أذهان الكُتّاب. لا يخضع فضل لكل دعوات التعمية على الحقيقة عبر اللغة، فالرواية لا ينبع فيها الألم مما يحدث، بل من “إدراك انحطاط هذا الألم” على حد تعبيره. أما في برنامجه على يوتيوب “الحكاية والرواية”، والذي يبثّه من خارج مصر، يستخدم ما يسميه “لسان شعبي مهين”، أي اللغة البذيئة. ويرى في حوار مع موقع “درج” أنه لو كان صوّر فيديو في مصر، مماثلا لما يصوّره خارجها، فربما كان سيُعتقل، لا بسبب المضمون السياسي، بل بتهمة أنه “ضد الأخلاق”. لا أفضل من الأخلاق إذن لكمّ الأفواه، وتحويل النصوص الدستورية والقانونية إلى مرافعات حسبة، مسلّطة على كل من ينال من “مُثل الدولة”، حتى لو عبر رقصة، أو كلمة صريحة في نص روائي.

أزمة الأخلاق: من الفضيلة المفرطة إلى الانحلال

الحسبة الأخلاقية لم تعد مقصورة فقط على السينما والفنون والآداب، بل تحرص على تتبّع أجساد النساء، في حملات بدأت بالتزامن مع أزمة فيروس كورونا، حين ألقت السلطات الأمنية القبض على عدد من الفتيات، في مراحل عملية مختلفة تتراوح بين المراهقة حتى أوائل العشرينات، فيما يعرف إعلاميا باسم “قضية فتيات تيك توك”، موجهة إليهن تهم نشر الفسق والفجور.

بحسب الباحث والمحلل السياسي تامر وجيه يحاول نظام السيسي، بوصفه نظاما للثورة المضادة، إرجاع المجتمع إلى ما كان عليه قبل عام 2011، وكل ما تلاه من حراك سياسي واجتماعي وثقافي. يُضيف وجيه أن المفارقة، التي لا يُدركها النظام، أنه في غمرة ثورته المضادة، وضع نفسه في المأزق الذي يعاني منه الآن. فبعد تحطيم الثورة  والتيارات المشاركة فيها، ومنها حركات الإسلام السياسي، لم يعد ممكنا أبدا الحديث عن مجتمع ما قبل الثورة.

وفق هذا الواقع، يذهب الباحث الشاب والمحلل السياسي بلال علاء إلى أن جوهر الأزمة التي يعاني منها النظام، أنه بعد حربه الشرسة مع الإسلاميين، وجماعة الإخوان المسلمين تحديدا، وإقصائهم التام من الحياة العامة في مصر، بدأ  يستشعر حجم الفراغ الذي خلّفه غياب الإخوان عن المجال العام. معلّقا: “جاء الجيش للحكم، إذن، في وسط مجال عام أصبح غير مُتحكم به من قِبَل الإسلاميين، وأقل انضباطا، وأكثر جرأة في مخالفة القواعد الموجودة منذ الصحوة الإسلامية، سواء كانت تلك القواعد تتعلق بسلوكيات مجتمعية، أو بكيفية مناقشة الأفكار المتعلقة بالدين والجنس. بالتالي، وجد الجيش نفسه في مفترق طرق”.

يبدو إذن أن محاولات استعادة “الأخلاق” لن تؤدي إلا إلى مزيد من “التدهور الأخلاقي”، إذ تدّمر ثورة الأخلاق المضادة كل الأطر السياسية والفنية والثقافية، بل حتى روابط المشجعين لكرة القدم، ومع تقدّم عملية التدمير هذه، لن تبقى إلا أرض اجتماعية يباب.

 بالتأكيد لم يعد بإمكان أحد أن “يُقفل علينا”، سيبقى المجال مفتوحا، ولكن بلا أطر يمكنها إنتاج أي شيء. كثيرون رأوا في  الثورة محاولة ضد الأخلاقية السائدة، استندت إلى المكبوت والمسكوت عنه، وربما كان بإمكانها أن تنتج أطرا جديدة لمجتمع ضاق ذرعا بالقديم. ولكن هل كانت يناير بالفعل متحررة من الأخلاق السائدة؟ أم أن الانتقال من “لا أخلاقية” الثورة إلى “أخلاق” الثورة المضادة كان أكثر سلاسة مما هو متوقّع؟  

الفرقة الناجية: هل كانت “يناير” أقلّ أخلاقا من أعدائها؟

على الرغم من تمردها على الإطار الأخلاقي السائد، لم تتعرّف ثورة يناير على نفسها إلا من خلال الأخلاق، بوصفها أداة من أدوات توجيه الصراع السياسي، واستخدمتها ضد حلفائها قبل أعدائها، من خلال حملات تشهير تستعمل فيها مرجعية أخلاقية جديدة، أي أحكام “صائبة” سياسيا، تحيل السياسة والفن والحياة إلى قائمة تشهير ونفي محتملة، لا تتوقف عن إضافة مزيد من الأسماء، بشكل لم يطوّر خطابا مفارقا عن رؤية الضابط، الذي يلفّق التهم؛ أو فتاوى رجل الدين، بممنوعاته ومحرماته؛ أو حتى أخلاقيات محمد صبحي المحافظة في الفن، التي تربطه بالعظة والقيم، وتعيد الخلافات في الأغلب إلى الشخصي. بهذا المنطق تم دفن أغلب نقاشات ما بعد الثورة، عبر التشهير بأصحابها، وحل الفضح والنفي مكان التواصل، فإذا كان الشخص صاحب الرأي المعين “منحطّا” من البداية، ما الداعي لنقاشه؟

ربما تعود أسباب ذلك لغياب التنظيمات السياسية، وحالة التخلّف السياسي التي عرفتها مصر، فظلت الثورة المصرية متوقفة عند شعارات، لكن بلا برامج، كأن نبل الشعار الأخلاقي، مثل إسقاط النظام أو الحرية أو العدل، وحده يكفي، أو كأننا بإدراكنا لمجموعة من الأخلاقيات لا نعود بحاجة إلى تطوير الرؤى، إذ لا تحتاج الفرق الناجية إلى مثل هذا الجهد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.