“فخ الهوية” لدانيل برنابيه.. أو كيف أقنعتنا الأيديولوجيا بأننا “طبقة وسطى”

<strong>“فخ الهوية” لدانيل برنابيه.. أو كيف أقنعتنا الأيديولوجيا بأننا “طبقة وسطى”</strong>

أنا عامل ثقافي، ليس لدي مكتب صغير هادئ في الجامعة لأكرّس نفسي للبحث الأكاديمي، ما يعني أنه بينما أكتب كتبي بوتيرة متسارعة، فأنا مضطر لإنجاز المقالات والتقارير. ليس لدي الوقت والوسائل لقضاء أسبوعين، كما يفعل دكتور في العلوم الاجتماعية، لتبرير أصغر فقرة مقتبسة من مؤلف غامض، (…) هذه الطريقة التي ننتج بها أدبا نضاليا، وليس بطريقة أخرى”.

بهذه الكلمات ردّ دانيل برنابيه، الكاتب السياسي والصحفي الإسباني، على بعض الانتقادات التي وجّهت إلى كتابه “فخ الهوية: محو المسألة الاجتماعية“، الذي صدر بالإسبانية عام 2018، وخرجت ترجمته الفرنسية في آذار/مارس 2022، لتثير نقاشات ومراجعات موسّعة في الصحافة المحسوبة على اليسار عموما، في كل من فرنسا وإسبانيا.

من خلال نظرة واسعة، تنتقل بين أحداث وشخصيات سياسية، وعناوين أفلام وبرامج تلفزيونية، وتيارات فكرية وأكاديمية، وأشكال من الثقافة الشعبية، وعناوين الصحف، طوال النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الحالي، يقدّم دانيل برنابيه تحليلا واسعا لجذور ما يعرف بجماعات الهوية المتكاثرة في الأوساط اليسارية، مقاربا سؤالا أساسيا: كيف استطاعت النيوليبرالية، منذ تسيّدها في العقود الأربعة الفائتة، تفتيت الطبقات العاملة والشعبية؟ وكيف أصبحت الهويات متنافسة بشكل متزايد، بحيث صار من الصعب خلق إجماع سياسي أو قضية عامة مشتركة؟ وما الدور الذي تلعبه حالة الناشطية السائدة اليوم في تكريس الوضع القائم؟

يُعرّف الكاتب نفسه بوصفه مناضلا سياسيا ينتمي لليسار الراديكالي، ومنخرطا في الشأن العام والسياسي منذ أواخر التسعينيات، وهكذا فإنه يرى كتابه في نقد اليسار المعاصر وسياسات الهوية جانبا من التزام سياسي، منطلق من موقعه الاجتماعي بوصفه “عاملا ثقافيا”. وعندما أكد ألبرتو غارزون، الباحث الجامعي ووزير الاستهلاك الاسباني، والسياسي الشيوعي المعروف، أن الكتاب يشكو ضعفا في الجانب النظري، رد برنابيه عليه بالكلمات المذكورة أعلاه، التي  تنتمي للغة يفترض أن يفهمها الوزير الشيوعي، وتوضّح ربما حال كل العاملين في الوسط الثقافي في الزمن النيوليبرالي. برنابيه لم يكتب “أطروحة جامعية” يجري تداولها بين مختصين، ولكن “مقالا سياسيا يخاطب أكبر عدد ممكن من الناس”، حسب تعبيره.

يمكن بهذا رصد نمط جديد من النقد داخل معسكر اليسار الأوروبي عموما، لم يعد يرى “السقوط في فخ الهوية” مجرد “انحراف نظري” وقع به بعض اليساريين نتيجة تأثّرهم بفلسفات وأفكار معينة، بل تمايزا طبقيا واضحا بين مثقفي الفئات التي استفادت من النيوليبرالية، وسمّت نفسها “يسارا”؛ وبين “العمّال” المتضررين من كل ما حصل، سواء كانوا عمالا اعتياديين، أو “عمالا ثقافيين” مثل برنابيه. وبما أن الصراع حُدد بوصفه صراعا طبقيا بين تياري “اليسار”، فالشكل الكتابي الأمثل لخوض هذا الصراع هو “المقالة السياسية” الموجّهة للحيز العام، وليس البحث الأكاديمي أو المقالات الفكرية والفلسفية المتعمّقة. وانطلاقا من فهم المواقع الاجتماعية للناقد والمنقودين، وتقديم تعريف واضح وصريح لذات الكاتب، موقعه وانحيازاته.
فما أهم الزوايا الاجتماعية والتاريخية التي حاولت رصدها المقالة السياسية/البيان التي أصدرها برنابيه؟ وكيف حدد الموقف الطبقي لـ”اليسار” السائد حاليا؟ ولماذا أثارت طبعات الكتاب المتعددة كل هذا الجدل في إسبانيا وفرنسا؟  

المستثمرون الجدد: يسار ريغن-تاتشر

يرسم دانيل برنابيه خطا يربط بين صعود تيارات ما بعد الحداثة وتكريس طروحاتها النظرية، وهزيمة الانتفاضات والاحتجاجات الطلابية والشبابية، التي شهدتها سنوات الستينيات في فرنسا وأميركا والمكسيك وغيرها من الدول. إذ سيطرت حالة اليأس على مناضلي هذه الانتفاضات، ممن عاشوا تقلبات متشابهة على اختلاف دولهم، بعدما انتهت انتفاضاتهم دون إنجازات سياسية تذكر، وعادت الفئات المهيمنة للإمساك بالقرار والسلطة.

 ظهر عدد من مناضلي الستينيات الأميركيين بثوب نيوليبرالي خلال الثمانينيات، متراجعين عن شعاراتهم المطالبة بالعدالة أو المناهضة للحروب، ومنخرطين بالاستثمار في سوق الإلكترونيات والتكنولوجيا الصاعدة في تلك الفترة، فصعدوا مع مجموعة من الأثرياء الجدد خلال عقد الثمانينيات، الذي اتسم بالقبح البصري والجمالي كما يرى برنابيه، مع تسيّد ذائقة هذه الفئة من الأثرياء الجدد. بينما ذهبَ ثائرون آخرون من الهبّيين لتأسيس طوائف بوذية، أو الاعتزال في الطبيعة، ومخاصمة المجتمع الحديث بمؤسساته وسياسته وثقافته وعلومه.

في هذا الإطار، ليس من المستغرب أن يكون الرئيس الأميركي رونالد ريغان، ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، رموز المرحلة سياسيا في العالم الغربي، فقد كرّسا الهيمنة السياسية والثقافية لشكل من الليبرالية المتوحشة، وفكّكا الحركات العمالية والاحتجاجية. وضمن هذا السياق، استولت التنافسية الرأسمالية على الهويات الاجتماعية تحت شعار التعددية، وحولتها إلى سلعة قابلة للبيع والشراء والمساومة، بعدما تحوّلت السياسة نفسها إلى منتج يُستهلك مثل باقي المنتجات.

شهدت تلك الفترة اندماج اليسار الاشتراكي والديمقراطي بالمطلق مع المقولات والبرامج الليبرالية في الدول الغربية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وارتفاع الأصوات الداعية إلى الديمقراطية الليبرالية بوصفها النموذج السياسي الأوحد والمنتصر. فأسقطت الأحزاب الاشتراكية وأحزاب اليسار الديمقراطي المسألة الاجتماعية من برامجها، وتماهت مع اقتصاد السوق. وقد تكون التعديلات التي قادها رئيس الوزراء البريطاني العمّالي الأسبق طوني بلير داخل حزب العمال في التسعينيات، والتي أدت لحذف الإشارة إلى “الملكية العامة لوسائل الإنتاج” من أدبيات الحزب، من أهم الأمثلة على هذه التحولات لدى اليسار الاشتراكي وأحزابه في القارة الأوروبية، ما يمكن له أن يفسّر الأسباب التي دفعت روبرت ميردوك، الملياردير المُتربّع على إمبراطورية من وسائل الإعلام، بتوجيه صحفه وقنواته من أجل الدعوة إلى التصويت لطوني بلير، بعدما دعمت وسائل إعلامه المحافظين البريطانيين طوال عقدي السبعينيات والثمانينيات. 

هكذا ربما يكون أفضل تلخيص لتلك المرحلة الحادثة التي يوردها برنابيه، عندما سأل المرشح النيابي المحافظ كونور بيرنس، في أواخر التسعينيات، رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر عن أفضل نجاحاتها المهنية  بوصفها سياسيّة، فردّت عليه ببساطة :”طوني بلير، وحزبه العمال الجديد، إذ أننا أجبرنا خصومنا على تغيير طريقة تفكيرهم“.

الالتزام الاستهلاكي: نضاليات “الطبقة الوسطى”

يلحظ دانيل برنابيه أننا عبرنا خلال العقود الفائتة، أو على الأقل منذ مطلع الألفية، من زمن الحركة السياسية أو الحزب، الذي يحتاج مكتبةً فكرية، ومطبعة لطباعة بياناته وتعليماته ودعايته السياسية، وتزويد أعضائه ومناصريه بها، إلى مرحلة نحن بحاجة فيها إلى بضائع ورموز وكلمات بسيطة، يمكن تداولها افتراضيا، تغذّي فكرة التعددية، وتمثيل الجماعات، التي تحقق جزءا من حضورها في الفضاء العام من خلال الصراع مع غيرها من جماعات، والتظلّم منها، وتُكرّس روح الفردية والتمايز، ساعيةً لتلبية مطالبها وتحقيق مكتسباتها من خلال الضغط على النظام، “السيستم” بحسب اللفظ الدراج، أو بالأصح استجدائه.

هذه الروح الناشطية، المختصة بإبراز الذات الفردية ونصرة امتيازات مجموعة على حساب الآخرين، هي ما ينقده برنابيه، ويردّ جذورها إلى روحية “الطبقة الوسطى” السائدة في أوروبا وأميركا عموما، والتي يعتقد الجميع هذه الأيام أنهم ينتمون إليها. فمن عاملة الصندوق في السوبر ماركت، التي بالكاد تكسب قوت يومها، إلى المدراء التنفيذيين للمؤسسات والشركات على اختلاف أحجامها، يعرّف البشر أنفسهم بوصفهم “الطبقة الوسطى”، ليس لأن هذه هي الحقيقة، أو لأن مصطلح “طبقة وسطى” دقيق أصلا، بل لأن وسائل الإعلام هي من قال ذلك، وأقنعت الناس أنهم بشرائهم منتجات معينة، مثل الهواتف والثياب أو السيارات وأدوات التجميل، وزيارتهم مدنا معيّنة، والتقاطهم صورا باسمة أمام معالمها، أو اتباعهم “لايف ستايل” نباتي، أو داعما لحقوق الحيوان، فهذا يعني اندراجهم بشكل آلي ضمن تلك الطبقة، حتى ولو اشتروا كل ما سبق بالتقسيط، واضطروا لتوفير مداخيلهم لعدة شهور من أجل الحصول عليه.

“الطبقة الوسطى” إذا مفهوم يتعلق بثقافة ونمط استهلاك معين، له أبعاده السياسية والأيديولوجية، وليست تعبيرا عن علاقات اجتماعية، يحددها موقع البشر في عملية الإنتاج، وموقفهم الجماعي من السياسات الاقتصادية العامة وأشكال الهيمنة السلطوية. ولعل انتقال اليسار من “الطبقة العاملة” إلى “الطبقة الوسطى” هو السبب الأساسي لكل التغيرات الجذرية التي طالته، فكريا وتنظيما. دون أن يعني هذا أن مفهوم “الطبقة الوسطى”، الأيديولوجي وغير الدقيق سيسولوجيا، أكثر حقيقة أو “معاصرة” من مفهوم “الطبقة العاملة”. 

يتم الترويج لأنماط الاستهلاك التي يصفها برنابيه بوصفها شكلا من أشكال الالتزام السياسي، وهكذا يمكن أن نلبس قميصا قابلا للتدوير ولا يضر بالبيئة، حتى لو كان مصنوعا من استغلال عاملات في بنغلادش أو الهند، بأبخس الأثمان وأسوأ ظروف العمل، لنشعر أننا ملتزمون بحماية البيئة. كما يمكننا استبدال المكسرات باللحم، ولو أن زراعتها تعتمد على استغلال الأطفال وعمالتهم في إفريقيا، إلا أن هذا يرضي النرجسية الأخلاقية لرافضي استهلاك المنتجات الحيوانية.

ضمن هذا السياق يبقى لكل فئة خصوصيتها، وشعورها بالفرادة والتمايز عن غيرها، وفوق كل هذا لها سوقها ومنتجاتها، التي تناسب التزاماتها الدينية والاجتماعية والسياسية. بهذا المعنى يصبح “الالتزام” استهلاكيا وليس سياسيا، وهذا يناسب تماما عقلية “الطبقة الوسطى”.

في المقابل يُذكّرُ برنابيه بأجواء الحركات الاشتراكية والشيوعية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي استطاعت جمع الناس والعمال والمناصرين على اختلاف أشكالهم وأديانهم وأعراقهم، وبَنَت تحالفات استطاعت تجاوز التمايزات، والتركيز على أهداف جامعة، وإن كانت لم تنكر وجود الاختلافات بين البشر. ذلك كان يسار “الطبقة العاملة”.

ما بعد اليمين واليسار: “الشعب” في ورشات البيتزا النباتية

بالنسبة لبرنابيه كانت أحداث أيار/ماي 1968 في فرنسا بمثابة علامة فارقة في السياسة للجيل الأول من الأوروبيين، الذين لم يشهدوا الحرب في القرن العشرين، وضمنوا الحد الأدنى من الكفاف المادي والاقتصادي، ما أدى إلى التحوّل باتجاه المطالب الثقافية، على خلاف مفاهيم ومطالب النقابات، التي شاركت هي الأخرى في احتجاجات عقد الستينيات.

أما اليوم فالوضع مختلف ومتناقض، إذ لم تكن التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية داخل الدول الأوروبية بهذا القدر من الوضوح من قبل، وبينما تتساءل الطبقات الدنيا والفقيرة بشكل جدّي عن قدرتها على البقاء ومواجهة الظروف، يستمر “التقدميون الليبراليون” في عزفهم المنفرد على أساس تطييف المجتمع، وتقسيمه لمجموعات وهويات وصفات غير منتهية، متجاهلين الصراع الاقتصادي الاجتماعي القائم، والنتائج التي يسفر عنها، والتغيرات التي يفرضها على الفئات الفقيرة والمسحوقة.

ومثلما تكره الطبيعة الفراغ فالسياسة تكرهه كذلك، وفي كل مرة يتقارب فيها اليسار مع مواقع هوياتية وأقلوية، فإنه يترك مكانه الأساسي في الصراع الاقتصادي الاجتماعي  شاغرا، ليشغله اليمين المتطرف. يعترف دانيل برنابيه بالموقف الصعب في هذه المواجهة، إذ يشكّل اليمين المتطرف جزءا أساسيا من الاعتراض على سوق التعددية الناشئ، ما يعطيه فرصة ليقدّم نفسه بصورة المدافع عن جمهوره، رغم أنه منخرط في السوق التي يدينها، إذ طالما ادعى دفاعه عن الهوية الجريحة والمهددة لجماعته، وفي هذا نقطة تلاقٍ أساسية بينه وبين جماعات الهوية “اليسارية”.

وبينما يخاطب اليمين المتطرف، في لحظة صعوده اليوم، الشعب بوصفه الأمة، وتعتمد استراتيجيته على تجميع الناس الذين يشعرون بالمهانة والخسارة والعزلة، في العالم المجحف الذي فرضته النيوليبرالية عليهم، يأتي اليسار ليخاطب كل فئة على حدة، ويبحث عن حقوق خاصة ومحدودة بكل أقلية من الأقليات، دونما انتباه، إلى أن هذه المطالب وهذا العمل لا نهاية له، فضلا عن كونه غير مجدٍ، في ظل تنافس الهويات وتناسلها.

فعلى سبيل المثال، الذي لا يخلو من المفارقة، نظّمت مجموعات نيوفاشية من اليمين المتطرف في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، خلال السنوات الماضية، مبادرات اجتماعية، استهدفت توزيع وجبات على العائلات المحتاجة، وتقديم دروس مجانية لتلاميذ المدارس من العائلات الفقيرة، أو حتى الاستيلاء على أبنية فارغة، لإيواء عائلات دون سكن. استهدفت المبادرات بالطبع مساعدة عائلات أوروبية فقط، في دلالة مباشرة على كراهية الأجانب. بدوره قام اليسار الراديكالي في إسبانيا بعمل مشابه، مستهدفا الجميع دون تمييز، لكنه سرعان ما وقع بفخ إرضاء الهوية والتعددية، فأقام مشاغل لتحضير البيتزا النباتية، وورشات تريكو وخياطة نسوية، ووقفات لمكافحة مصارعة الثيران التقليدية في البلاد، ودروسا في الثقافة الجنسية الحديثة، ما يعتبر جيدا ومهما من حيث المبدأ، لكنه ببساطة بعيد عن انشغال الناس بسدّ رمقهم ومواجهة فقرهم المتسارع في هذه اللحظة، أو عدم امتلاكهم أوراق إقامة وثبوتيات إذا كانوا من الأجانب.

“ليس من خلال الكلمات نغيّر العالم، ولكن من خلال تغيير العالم نجعل الكلمات تتغير”، يؤكد برنابيه بعد أن ينهي وصفه الساخر لـ”منجزات” الناشطين.

يسار المينستريم: من السينما المستقلة إلى تلفزيون الواقع

أما على الصعيد الثقافي، الذي شكّل دائما ساحة صراع هامة بين قيم اليمين واليسار، فيرى برنابيه أن منذ هيمنة النيولبيرالية بشكل مطلق تعاني الثقافة، بمعانيها الواسعة، من الغناء والرقص الشعبي والوجبات المحليّة إلى الإنتاجات الفنية والسينمائية الكبرى، من تغيرات عميقة يرفض “اليسار” رؤيتها. فالثقافة الشعبية والفولكلور تراجعا بالتزامن مع صعود الصناعة الثقافية الجماهيرية في سنوات الخمسينيات، وتشهد اليوم تهديدا وجوديا في كل العالم تقريبا، لذلك ليس من المستغرب تزايد الجماعات التي تتحوّل باتجاه التراث، للبحث عن ما يعوز هويتها المعرّضة للزوال، ويبدو الأمر مشروعا تماما، إذا تعلق بالحفاظ على رقصة تراثية أو ثوب تقليدي، لكن المشكلة تبدأ عندما تصبح الخصوصيات الثقافية مبررا لانغلاق فئة أو طائفة أو جماعة على نفسها، بحيث لا تقصي فقط الآخرين، بل حتى أبناءها الذين لا يشعرون أنهم جزء منها، أو لا تنطبق سلوكياتهم مع هويتها المتخيّلة.

ضمن هذا السياق، يستذكر برنابيه أنه منذ منتصف القرن التاسع عشر، بدأت الطبقة العاملة (البروليتاريا) تعي نفسها بوصفه طبقة مسلّحة بوعيها الطبقي وبتعريفها لذاتها، فاحتجّت على طريقتها، بالارتباط أكثر بمبادئها التضامنية، وليس بهويات جزئية، وأنشأت تجمعات نوعية طوّرها العمال أنفسهم، من أجل التعلّم والتثقيف الذاتي. شملت في أغلب الأحيان عائلاتهم وأبناءهم، فلم تقدم فقط دروسا مسائية، بل واجهت التبسيط والتسطيح في منتجات الصناعة الثقافية الجماهيرية. هكذا خلقت المنظمات العمالية ثقافتها من خلال صقل هويتها الطبقية، وبالاستعانة باسهام المثقفين والفنانين الأقرب إليها.

غير أن الحال تغيّرت منذ سنوات الخمسينيات، والنمو المتسارع للصناعة الثقافية، ليس فقط بسبب اكتساحها الثقافة الشعبية القديمة والفولكلور المختفي بسرعة متصاعدة، لكن أيضا لأنه لم يعد بإمكان الطبقات العاملة والفئات الشعبية والمتعلمين الملتزمين، بوسائطهم الذاتية والمحدودة، مواجهة القصف الثقيل للسوق ومنتجاته، من الكتب والمطبوعات ومراكز الأبحاث والإذاعات والأفلام الموجهة. ورغم أن حماس اليسار لم يفتر، وحاول أن يحجز مكانا لصناعته الثقافية الخاصة، إلا أن الأدوات المصممة بالأساس لبث القيم المحافظة في المجتمع، مثل أفلام الويسترن والسوبر هيرو، وموسيقى البوب، نجحت باحتلال الصدارة، وإحداث تأثير واسع في الفهم والخطاب والنقاش العام.

حتى سنوات التسعينيات ومطلع الألفية، بقيت قيم اليسار حاضرة ثقافيا، في الأدب بشكل خاص، وإن كانت رسائلها ليست تقدمية صراحة، بل أقرب للانشغالات الذاتية والتفاصيل اليومية. أما على مستوى السينما، نلاحظ ابتداء من أعوام الثمانينيات تراجع القيم اليسارية، لتتكرس أكثر فكرة الترفيه، ما سيغدو النموذج السائد بالمطلق مع أفلام التسعينيات. في هذه الفترة وجد اليسار ملجأً في السينما المستقلة، لكن هذه السينما، كما أنتجها اليسار حينها، لم تنشغل بالفعل السياسي الجماعي، بل اهتمت بانشغالات “الطبقة الوسطى التقدمية” الصاعدة حديثا، فكانت بعض أفلام الترفيه، المٌنتجة خلال سنوات السبعينيات، أكثر تقدمية ويسارية في معالجة المسألة الطبقية من الأفلام المستقلة التي ظهرت في التسعينيات.

حاليا لم يعد “اليسار” يعطي أهمية كبيرة للسينما المستقلة، وتوجّه أكثر نحو السينما التجارية الموجّهة للجماهير العريضة، لأنه يلمس نخبوية في السينما المستقلة، بات يخشى أن يوسم بها، بينما يرى أن سينما الترفيه باتت تراعي القيم والمعايير التقدمية الجديدة، وهكذا، وربما لأول مرة في تاريخه، بات المينستريم معبّرا عن “اليسار”.

يتعجّب برنابيه من أن “اليساريين” الذين يصفقون لفيلم أو مسلسل، لأنه يقدم مثليا أو أسود أو مهاجرا بشكل إيجابي، لا يدركون أنهم يصفّقون أيضا لقيم نيوليبرالية. وأنهم عندما يستحسنون برامج تلفزيون الواقع، لأنها فتحت الباب للجميع للتعبير عن ذاتهم، لا ينتبهون إلى نسيانهم ضرورة إنشاء بناء ثقافي من الأسفل للأعلى، من أجل أولئك الموجودين في أسفل السلم الاقتصادي الاجتماعي، إذا كانوا يهتمون بهم، وبقدرتهم الحقة على التعبير، كما يدّعون.

الأسئلة الأخرى: في جدوى العودة للعقائد “الصحيحة”

يدين دانيل برنابي، على طريقة الناقد والمفكر البريطاني تيري إيغلتون، ما يسميه “النشطاء المختصين”، الذين يحملون قاموسا من المفردات المستوردة من أميركا، والمزروعة في كل مكان في العالم اليوم، هؤلاء يأتون للعمل السياسي، ولديهم نوع من التذرُّر والتفتت الاجتماعي الواضح، المتزامن مع أنا متضخمة وتمركز حول الذات، فلا تعود حماية البيئة، أو محاربة العنف ضد النساء، أو مواجهة رهاب المثليين، مسائل نضالية مهمة، إلا إذا مرّت من خلالهم، وساهمت في تكريسهم وتسليط الضوء عليهم، قبل القضية العامة التي يدافعون عنها، وهم غالبا ما ينادون بتغيير لا يقدرون على قيادته أو إنجازه، لذا من غير النادر رؤيتهم يتخلّون عن قضايا يتبنونها لصالح قضايا أخرى، وكأن الشأن العام مجرد سياحة وتجوال، يمكن انتقاء ما يعجبهم فيه.  بينما يعيق التزامهم الهوياتي العمل السياسي الجماعي، لأنه لا يقدم أكثر من هويات وأفراد متنافسين.

واجه كتاب دانيل برنابيه منذ صدوره نقدا حادا من قبل جماعات في اليسار، لم تتردد بوصفه بـ”الرجعية”؛ بينما أثار في الوقت نفسه نقاشات أكثر عمقا، وكان موضع مراجعة وتحليل وتدقيق وترحيب في جانب من الصحافة المحسوبة على اليسار.

لا يخفي الجانب النضالي نفسه في الكتاب على امتداد صفحاته، فهو لا يكتفي بالتحليل وضرب الأمثلة وعرض سياق الأحداث وربط خلفياتها، بل يقدّم بصراحة في ختام كتابه نداءات لتجاوز المرحلة، ونقد ما أنتجته “اليسار” نظريا، وما اقترفته النيوليبرالية سياسيا واقتصاديا. ورغم تأكيده أن العودة للماضي غير ممكنة، ولا يرغب بها أحد، إلا أنه يشدد على أهمية الاستناد والعودة إلى موروث التنوير والماركسية والحداثة. ويمكن ملاحظة أن “الاستناد” و”العودة” أصبحا دعوة تقليدية بين جانب مهم من يساريي غرب وجنوب القارة العجوز.

ربما يكون التفكير بالتنوير والماركسية بوصفها عقائد صحيحة، أدى التراجع عنها لكل كوارث اليسار، أمرا إشكاليا للغاية، وربما “رجعيا” حقا كما يرى خصوم برنابيه، إلا أن هذا لا ينفي أهمية الكتاب في نقد “تقدميتهم”، التي لم تثبت تحررية أكبر، أو حتى قدرة على تحليل وتفسير الوقائع والمستجدات الاجتماعية. والأهم ربما أن أعمالا مثل كتاب “فخ الهوية” قد تساعد على تجاوز الأسئلة والإشكاليات التقليدية، التي يطرحها “اليسار”، الذي ما زال مصرا على تسمية نفسه بـ”الجديد”، رغم أن طروحاته كلها تنتمي للجو الثقافي والاجتماعي لثمانينات القرن الماضي.

وإذا كانت أسئلة ذاك النمط من “اليسار”، عن الهوية ونمط الحياة و”التمكين”، قد باتت  عتيقة، فربما يمكن توجيه أسئلة جديدة لبرنابيه والتيار القريب منه فكريا: هل الحشد وبناء الجبهات ممكن أصلا في الظرف الحالي؟ ما الأدوات العملية التي يمكنها الدفع بهذا الاتجاه في ظل الفردانية المعززة؟ والأهم: هل يمكن اقناع البشر، المنحدرين اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، أنهم ليسوا “طبقة وسطى” كما توهمهم الأيديولوجيا، بل طبقة عاملة، كما هم فعلا، خاصة مع إفقارهم، وخسارتهم المتزايدة لملكياتهم الضئيلة أصلا؟ 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.