“فرنسا تحت أعيننا”: ما الاقتصاد السياسي لـ”التقدمية” و”الشعبوية”؟

“فرنسا تحت أعيننا”: ما الاقتصاد السياسي لـ”التقدمية” و”الشعبوية”؟

يعيش العالم حاليا، خاصة في دوله “المتقدّمة”، تصاعد تيارين أيديولوجيين أساسيين، أولهما ما يُعرف بـ”اليسار الليبرالي”، والذي يملك كثيرا من الأسماء والألقاب الأخرى، مثل “التقدمية” Progressivism، الـ woke حسب اللفظ الأميركي شبه الساخر، و”سياسات الهوية”؛ وثانيهما اليمين الشعبوي، الذي تنمو على هوامشه كثير من الدعوات الفرعية، مثل تيارات الهوية اليمينة، نظريات المؤامرة المُحدثة، الحركات الفاشية وشبه الفاشية.

وبعيدا عن الجدل والتحليل الأيديولوجي لهذين التيارين، تتزايد الدراسات الأكاديمية المعنية ببحث أسسهما الاجتماعية والاقتصادية والديمغرافية. ما يعيد تقاليد بحثية كلاسيكية، تصنّف عادة ضمن ما يُعرف بعلم “الاقتصاد السياسي”. ومن بين الأبحاث الكثيرة، الصادرة بالإنجليزية والألمانية والفرنسية، يمكن اعتبار كتاب “فرنسا تحت أعيننا”، الصادر في العام الماضي 2021،  للباحث السياسي جيروم فوركيه، والصحفي المختص بتغيّرات مظاهر وأنماط الحياة الاجتماعية جان لوران كاسيليه، أحد أهم المساهمات في هذا المجال. فهو يقاطع حصيلة إحصاءات ودراسات الاقتصاد وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، والملاحظات الشخصية للكاتبين، في سبيل تقديم صورة لما يعيشه المجتمع الفرنسي، منذ الأزمة النفطية، التي أغلقت الباب على السنوات الثلاثين المجيدة (1945- 1973)، وهي سنوات ما يُعرف بدولة الرفاه بعد الحرب العالمية الثانية؛ وحتى بداية صعود الطروحات النيوليبرالية في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة.

ربما تكون فرنسا تاريخيا إحدى أوضح ميادين الصراع الاجتماعي في العالم الغربي، وقد عاشت على وقع تحوّلات اجتماعية متسارعة خلال العقود الأربعة الأخيرة. ورغم مظاهر الترف “الانستغرامية”، إذا جاز التعبير، تتصاعد فيها حدّة الأزمات الاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى صدامات متواترة بين المُحتجّين والسلطة، أهمها إضراب 1995، وأحداث العنف في الضواحي عام 2005، والمظاهرات الحاشدة ضد التعديلات المقترحة على قانون العمل في 2016، وصولا إلى احتجاجات “السترات الصفراء” في خريف عام 2018. فضلا عن ما كشفته جائحة كوفيد 19 من ضعف القطاع الصحي، وميل السلطة الواضح إلى فرض الرقابة والقوانين الاستثنائية.

ضمن هذا السياق، يمكن التساؤل عن ماهية التحولات الاقتصادية التي خضعت لها بيئة العمل، وكيف انعكست على عادات الناس، وخياراتهم السياسية، في مجتمع يعيش على وقع حركة الهجرة، وارتفاع معدلات الأعمار، وتطور التكنولوجيا؟ وما أثر هذا على الطبقة العاملة والشعبية؟ وهل ما ينطبق على فرنسا ينطبق على مجتمعات أخرى، ويمكن أن يُقدّم فكرة عن شكل المستقبل وصراعاته؟

اقتصاد ديزني لاند

ربما كان “نزع التصنيع” هو العبارة المفتاحية في دراسة التغيرات الاجتماعية والسياسية في الدول الغربية، وهذا ما يركّز عليه الكتاب، مثل معظم الدراسات المشابهة. فمنذ ثمانينيات القرن العشرين، ظهر تغيير واضح في توجّه الاقتصاد في فرنسا، من اقتصاد مُنتِج إلى اقتصاد سياحي استهلاكي، وضمن إطار سياسة نزع التصنيع تم إغلاق الصناعات الثقيلة والمعدنية في المناطق الشرقية من فرنسا؛ وكذلك إغلاق أحواض استخراج الحجر الغرانيتي في منطقة بروتان غربي البلاد؛ ومناجم الفحم، التي كانت أهم مراكزها في الشمال.

وفي  مفارقة دالة على تقدّم الترفيه مكان التصنيع، ينوّه الكتاب إلى أن افتتاح حديقة ألعاب وملاهي ديزني لاند الشهيرة في باريس، بتاريخ الثاني عشر من نيسان/إبريل 1992، جاء بعد اثني عشر يوما فقط من  إغلاق معمل سيارات رينو (Renault) في ضاحية  بيانكور (Billancourt) غربي باريس. وقد حضر افتتاح الملاهي  يومها الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، ونظيره الأميركي جورج بوش الأب. أي كان حدثا “عالميا” بمعنى الكلمة. وتعدُّ حديقة ديزني اليوم أهم وجهة سياحية ليس في فرنسا فقط، بل في أوروبا، يزورها ما يقارب 15 مليون زائر في السنة، متفوقة بذلك على معالم فرنسية تاريخية، مثل برج إيفل أو متحف اللوفر، بينما تَشغَلُ ما يقارب 7 بالمئة من ناتج السياحة العام في فرنسا، وتوفّر 16500 فرصة عمل.

على غرار ديزني لاند افتُتحت 200 مدينة ألعاب منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وحلّت مكان المصانع حرفيا لا مجازيا، إذ استثمرت بعض مدن الملاهي المواقع المغلقة لمعاملَ وأحواض تعدين سابقة. أما العمال الذين تركتهم المصانع المغلقة خلفها دون عمل، فالتحق بعضهم بوظائف في مدن الملاهي، أو غيّروا مهنتهم، بينما لم يستطع آخرون التأقلم مع هذا المجال، خاصة في حالة العمال كبار السن، الذين تُركوا ليعانوا البطالة، وما يرافقها من ظواهر اجتماعية معروفة مثل: الإدمان، والتفكك الأسري، والعنف، والانتحار.

يسار سكة الحديد، يمين “أمازون”

إلى ذلك، يتسارع التوجه الفرنسي نحو الأمازونية (نسبة لشركة أمازون)، من خلال تهيئة بنية تحتية، وبيئة عمل وقوانين تُلبّي متطلبات الشركة العملاقة، ومثيلاتها من شركاتٍ قائمةٍ على خدمات التوصيل والتجارة الإلكترونية، ما يترك أثره على شكل ونمط المواصلات المستخدم. إذ تُعدُّ شاحنة التوصيل أكثر عمليةً وسهولةً من القطار للوصول إلى المدن والبلدات الصغرى، ما أدّى إلى تراجع نسبة استخدام القطارات في نقل البضائع، ووصولها إلى عتبة 9 بالمئة فقط من توصيل البضائع في فرنسا، بعدما كانت تمثل 45 في المئة عام 1974.

في توضيح علاقة ما سبق بخرائط التصويت وخيارات الناخبين، يتضح أن المدن التي بقيت مرتبطة بسكة الحديد، بوصفها أحد معالمها الحَضَريّة، ومصدر توظيف أبنائها، حافظت على نسبة تصويت عالية لأحزاب اليسار. في المقابل، المدن التي تراجعت فيها أهمية سكة القطار، وحلَّ فيها أحد مخازن شركة أمازون وما شابهها، توجّه ناخبوها إلى التصويت لليمين المتطرّف بشكل ملحوظ. ويمكن ردُّ هذا الخيار  إلى تبنّي اليمين المتطرف خطابا محافظا وحمائيا ضد العولمة، التي تعدّ شركة مثل أمازون من رموزها النافرة اليوم. وقد ساهم الخطاب الحمائي لليمين المتطرف في اكتسابه الأصوات بين الطبقات الشعبية بشكل عام. وهو ما صادقت عليه نتائج الانتخابات الرئاسية، التي جرت في نيسان/أبريل 2022، فوصلت مرشحة حزب التجمع الوطني مارين لوبين إلى الجولة الثانية من الانتخابات، في تكرار لسيناريو الجولة الثانية من انتخابات عام 2017، بينما حصدَ حزبها 89 مقعدا في البرلمان، في الانتخابات التشريعية في حزيران/ يونيو2022، وهي أكبر نتيجة يحققها في تاريخه.  

غزو الفنانين التقدميين، هروب البروليتاريا

تعيش بعض ضواحي المدن الكبرى تحوّلاتها، في إطار بَرْجَزة (gentrification) متصاعدة، إذ تتوجه فئات من الطبقة المتوسطة العليا للسكن في الضواحي الملاصقة للمدن الكبرى، وتبدو ضاحية بانتان (Pantin) في شمال شرقي باريس، المثال الأوضح والأهم على ما ذُكر، حيث حلّت البنوك والمطاعم والبارات ومشاغل الفنانين وصالات العرض الفني واستديوهات التسجيل، في الأبنية المهجورة التي كانت تشغلها المصانع منذ القرن التاسع عشر. وأخذت ضاحية بانتان تحاول التشبّه ببروكلين في نيويورك، ما خلق صراعات فيها، بين برجوازية تأتي إلى المكان، وبروليتاريا تُضطرُّ للخروج منه. 

 مقابل تَبَرجُز وصعود بعض الضواحي، دخلت ضواحٍ أخرى في حالة الغيتو، إذ صارت مغلقة على نفسها، ومعزولةً عن محيطها، تَبني وتُراكم غضبها وهويتها وممارساتها الاجتماعية والثقافية الخاصة، وفيها يمكن أن نسمع ونميّزَ اختلافات في اللغة اليومية الجارية على ألسنة بناتها وأبنائها، المنحدرين بغالبيتهم من عائلات مهاجرة، مثل ترديد عبارات “إن شاء الله” أو “والله العظيم” أثناء الحديث، عدا عن انتشار الثياب التقليدية العائدة للبلاد التي قدمت منها عائلاتهم. وتبدو أغلب المظاهر السابقة محاولةً لإثبات الحضور في الفضاء العام غير المُرحِّبِ عموما، والنابذ في بعض الحالات. مع العلم أن ضواحي المدن الكبرى هذه، قدمت لفرنسا مجموعة من أهم موسيقيي الراب، التي تعدُّ موسيقا التمرّد الاجتماعي والسياسي، كما انحدر منها مجموعة من أهم نجوم “البوب” وكرة القدم، خلال الثلاثين سنة الماضية.   

وكان تراجع مستوى الضواحي الاقتصادي والاجتماعي قد بدأ بشكل ملحوظ منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، بالتزامن مع الأزمة النفطية، وتفكيك التصنيع، ما أدّى إلى تضخَّم البطالة بين المهاجرين، الذين استُقدموا في وقت سابق للعمل في المعامل، ثم جرى التخلّي عنهم وعن أبنائهم. ومن ناحية أخرى، بدأ صعود اليمين المتطرف أواخر الثمانينيات، في هذه الضواحي والمدن الصغيرة، مستندا إلى أصوات الغاضبين من العاطلين عن العمل، والمتذمّرين من قدوم العمال المهاجرين.  

نمط حياة “الانتقال والاستهلاك”

انطلق موقع خدمة السفر Blablacar، عام 2006 ليغيّر من طريقة التنقّل بين المدن والدول الأوروبية، إذ يمكن لأي شخص يسافر بسيارته من مدينة لأخرى أن يقلّ مسافرين معه، وبعده بست سنوات أعلنت الشركة الوطنية للسكك الحديدية عن إطلاق رحلاتها الرخيصة عبر قطارات Ouigo، ثم في عام 2015 أصدر إيمانويل ماكرون، وزير الاقتصاد وقتها، قرارا يبيح لشركات باصات النقل العمل على الأراضي الفرنسية، وسمح لها بالنقل لمسافات طويلة، فظهرت شركات أهمها Flixbus.

 تصاعُد الاستثمار والمرونة في قطاع النقل، سهّل حركة أصحاب الدخل المحدود، الذين سينخرطون، رغم تدنّي أجورهم، في عجلة “الانتقال والاستهلاك”، وسيحاولون، أثناء التنقّل والسفر، تبني أنماط حياة الفئة المرفّهة اقتصاديا، في تكريسٍ لقيم حياة ليبرالية، تُعزِّزُ حضورها وسائل التواصل الاجتماعي، ومؤثريها ومشاهيرها، الذين ينتقّلون من مكان لآخر، ليعرضوا مطاعم وفنادق وملاهي ومراكز تسوّق في بلدان مختلفة، يضمن التعرّف عليها الشعور بالانخراط في العالم الجديد، وتزيّنُ لمستهلكها صورةً حضارية ومنفتحة وعصرية عن نفسه، بإمكانه أن يشاركها على صفحاته في وسائل التواصل الاجتماعي.

اقتصاد تدبير الحال

مقابل مظاهر السفر والترف اللامعة، يلحظ الكتاب نموَّ ما يسميه “اقتصاد تدبير الحال”، ويقصد به النشاطات الاقتصادية التي يلجأ لها الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، مثل العمل دون تصريح ضريبي، أو شراء الأغراض المستعملة، وهي نشاطات شهدت ازدهارا مع انطلاق موقع الإعلانات المبوبة (لوبون كوان Leboncoin) عام 2006، ليربط البائع بالمستهلك مباشرةً دون وسيط. فضلا عن انتشار ألعاب اللوتو والمراهنات، وغيرها من محاولات تدبير الحال والتوفير حتى آخر الشهر.

كذلك توسّع العمل بالقطعة Freelance. والعاملون في هذا المجال ليسوا بالضرورة كوادر من فنانين ومترجمين وكتّاب وصحفيين، وغيرهم من أصحاب المهن الحرّة، بل أيضا عمّال التنظيف والتوصيل وخدمة المنازل، الذين يتلقّون الإشعارات من التطبيقات على هواتفهم، لينفّذوا مهماتهم دون تأخير.

 تمثّل هذه الفئة من العاملين شكلا من أشكال البروليتاريا جديدة، لكن يغيب عنها الوعي الطبقي، نتيجة عدم إدراكها ظروف العمل القاسية التي تعيشها، وعدم سماح هذه الظروف لها بإنشاء تنظيم نقابي لحماية نفسها، أو تنظيم احتجاجاتها، التي لا تدوم طويلا حال نشوبها، لانعدام الروابط  بين القائمين بالاحتجاج. هذه الروابط كان موطنها سابقا مكان العمل، مثل المصنع، الذي كان بإمكانه توفير فضاء رحب للنقاش والتواصل، واتخاذ القرارات، بينما يستحيل هذا لعامل فرد معزول، يعمل وحيدا بعقد مؤقت وحر، سواء كان كاتبا أو مترجما أو مصمما، أو عامل توصيل طلبات، أو عامل نظافة، بغض النظر عن الفوارق بين المهن وطبيعتها.  

ولا بد من ذكر أن قطاع التنظيف، وأغلب من يعمل فيه  من النساء، ويُعتبر من أهم القطاعات غير المرئية في الاقتصاد، إذ يبلغ عدد عامليه 540 ألفا. بينما فرض ازدياد نسبة كبار السن ضرورة توفير الخدمة لهم، فارتفع عدد دور المُسنين من 2500 إلى 7000 في 40 عاما. وتعيش الطواقم العاملة في تلك الدور ظروف عمل قاسية، فليس غريبا والحال هذا أن تكون انغريد لُفافاسور Ingrid Levavasseur من أهم قيادات السترات الصفراء، وهي احدة من العاملات، مع والديها، في قطاع المساعدة الصحية للمرضى وكبار السن.

يوغا وبروتستانتية

اقتضت تحولات أنماط الإنتاج والاقتصاد ظهور مرجعيات ثقافية ومهن جديدة، تنتشر اليوم في فرنسا، ومنها الطب البديل، الذي يسعى لتكريس التداوي بالأعشاب أو الإبر الصينية. يضاف لهذا انتشار الممارسات المتعلقة بالسحر والشامان، وتدريبات اليوغا التي تسعى لسد الفراغ الروحي، بالتوازي مع ارتفاع أعداد المحللين النفسيين، والإقبال على عياداتهم، وفي الإطار الديني تسجّل البروتستانتية الإنجيلية تقدّما ملحوظا، خاصة في المناطق الشعبية والفقيرة، بينما تتراجع ممارسة الطقوس الدينية الكاثوليكية.

وسط كل هذه التحولات البنيوية لا تُظهر فرنسا كثير من “الخصوصية” كما في الماضي، فالتحولات التي تشهدها شبيهة جدا بما تعرفه أميركا أو ألمانيا أو بريطانيا. وستجد فيها كثير من الـ woke، الشعبويين، و”المهمشين” الذين يطالبون بالتمثيل واحترام “خصوصياتهم” الثقافية. اليسار الليبرالي ونظريات المؤامرة والعودة لـ”الجذور”، إلى جانب اليوغا واعتناق البروتسانتية والإسلام،  تنتشر بين الفئات التي فقدت أعمالها وروابطها، بل حتى مدنها وقراها القديمة. وكما في أي مدينة غربية كبرى، سترى في باريس “العريقة” مراهقا أو مراهقة، يسعيان إلى “انقاذ الكوكب”، بعد الانتهاء من جلسة تأمّل طويلة؛ أو عجوزا متشككة، تهرب من تلقي لقاحات كورونا، كي لا يسيطر بيل غيتس على خلاياها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.