فضيلة الميليشيا: ماذا تبقّى من الأخلاق العربية بعد اضمحلال الدول؟

فضيلة الميليشيا: ماذا تبقّى من الأخلاق العربية بعد اضمحلال الدول؟

تطرح الحروب الأهلية العربية المتواصلة سؤال المؤسسة الأخلاقية القائمة وقواعدها، فبالرغم من تشددها الدائم، والتهديد المتعاظم بسطوتها، واعتمادها على الدين بوصفه مصدرا للضبط، وتضخّم الخطاب الأخلاقي وشموليته، إلا أنها لم تستطع، على مرّ السنوات الفائتة، فعل شيءٍ في وجه الممارسات الوحشية التي عرفتها حروب المنطقة، فمن القتل والتعذيب والاعتقال والتهجير والاغتصاب وسبي النساء وبيعهن، وصولا إلى استخدام الأسلحة الكيماوية وقصف المدنيين، عدا عن تجارة البشر والسلاح والمخدرات والآثار، لم تجد تلك الممارسات الكابوسية والمتوحشة وغير الأخلاقية رادعا لها، لا بل وجدت ما يبررها، ومَن يبررها ويباركها، بالاستناد إلى المنظومة الأخلاقية السائدة، الممتدة من الأعراف الاجتماعية إلى النصوص الدينية.

ارتُكبت تلك الممارسات في زمن الحرب، إلا أنها لم تكن غائبة عن الخيال العام، في مجتمعات تسودها الروابط العصبوية والزبائنية، وضعف القوانين والمؤسسات المخوّلة بتطبيقها. ووصل ما يمكن وصفه بـ”الانحدار الأخلاقي الشامل” إلى ذروته بعد توسّع الحروب الأهلية العربية، وانهيار الدول وأجهزتها، وتحوّلها إلى طرف فاعل في الحرب، تتعاون مع فئة على حساب أخرى، وتحمي مصالحها في منطقة معينة، متنازلة عنها في موقع آخر.

هذا الانهيار الشامل لسلطة الدولة، المنخورة بالعصبية الأهلية على مدار عقود، رسّخ أثناء الحرب الممارسات الميليشيوية، وجعلها سيدة الساحات، لا بل إن كثيرا من الدول العربية، التي لم تنفتح على معارضيها، وملايين المحتجين في ميادينها وشوارعها، لم تجد غضاضة في الانفتاح على الميليشيات والتعاون معها، واستقدامها من خارج الحدود حين تقتضي الحاجة، وخوض المعارك المشتركة معها، ودفع الرواتب أو الإتاوات لها. وما نماذج الشبيحة، والبلطجية، والميلشيات المساندة والموازية والمنافسة للسلطة، في سوريا ولبنان والعراق وليبيا والسودان واليمن، غير أمثلة واضحة على هذه الحال المستدامة، والمرشّحة للتوسّع والاستمرار مستقبلا، في ظل تصالح “المجتمع الدولي” مع نماذج الدول الفاشلة في منطقتنا.

لذلك فالتساؤل مشروعٌ حول الروابط بين انهيار الدولة وتوسّع نموذج الحرب الأهلية من جهة، وانهيار البنى الأخلاقية وعجزها عن مواجهة السلوكيات الإجرامية والميليشيوية من جهة أخرى:  هل يمكن القول إن تضخّم الخطاب الأخلاقي دليل على فقدان المؤسسة الأخلاقية قدرتها على الضبط، رغم ادعائها العراقة والأسبقية على البنى الحديثة للدول المنهارة؟ وكيف ملأت الميليشيا والجماعة المسلحة الفراغ الذي تركته الدولة، وتعاظم دورها ودور قادتها؟

انهيار الدولة: صعود نموذج “الحروب الجديدة”

لا تختبر التجارب القاسية، التي تفرضها الحرب، الأسس السياسية للمجتمع فقط، بل تتوسع لتمتحن بناه وروابطه الأخلاقية أيضا، لذلك طالما شغلت الحرب، بوصفها موضوعا أخلاقيا، التفكير الفلسفي، وعادت لتشغل موقعا بحثيا وفلسفيا هاما في العقود التالية للحرب الباردة، والتي شهدت تحوّل الحروب بمعظمها من شكلها “التقليدي” المعروف، بوصفها حروبا بين دول وجيوشها، إلى حروب أهلية، أو ذات طابع أهلي واضح. فمن حرب أفغانستان إلى حرب أوكرانيا، مرورا بحروب البلقان، والفضاء السوفييتي السابق، ثم العالم العربي وجنوب الصحراء الإفريقية وساحلها الشرقي، تتصاعد الصراعات الأهلية والميليشياوية، داخل حدود الدولة أو عبرها. ما يتطلب طرحَ نقاشات مُعمّقة ومتينة، تواكب هذا الشكل من “الحروب الجديدة”، التي تشير صراحةً إلى انهيار النموذج التقليدي للدولة في مناطق شاسعة من العالم، ما يجعل الحروب تتغذى على انقسامات عرقية ودينية، وتمايزات هوياتية تحدد أشكال الصراع الاجتماعي والاقتصادي.

 أشار جان جاك روسو إلى أن الحرب تقوم بين دولة ودولة أخرى، والأفراد فيها ليسوا أعداء بالمطلق، بل بصورة مؤقتة ومحصورة بفترة القتال. إلا أن الحروب الأهلية تجاوزت ما سبق، فعداواتها غالبا ما تكون شديدة الفردية والشخصية. فبينما لا يعرف الجندي النظامي خصمه في حروب الدول، لا تخلو الحروب الأهلية من أبعاد ثأرية وأطماع، يقتصر هدفها على الغزو والنهب وتحييد المنافسين. ولا يندر في هذا المقام أن يتحدث ضحايا، نجوا من أهوال المجازر التي شهدتها سوريا والعراق ولبنان في السنوات الماضية، عن معرفتهم المسبقة بالمجرمين الذين هاجموهم، كأن يكونوا جيرانا أو زملاء عمل أو دراسة. القاتل يعرف ضحيته، في الحرب الأهلية، ويستهدفها عن سابق إصرار.  

في هذا السياق من انفلات العنف، وتعدد الجهات المستعينة به، تتحوّل الدولة غالبا لطرف مشارك في الحرب، وهو الحال القائم في الحروب الأهلية العربية، ما يؤدي لانفجار سياسي واجتماعي، وانهيار قيمي، يخوض فيه الجميع حربهم على الجميع.

 عادة ما يُتهم “الغرب” الاستعماري بفرض نموذج الدولة الحديثة على مجتمعاتنا، التي تمتلك تقليدا دينيا وأخلاقيا مختلفا بنيويا، ما يجعل الدولة “جسما غريبا” على المتن الاجتماعي، لا يستطيع مد جذوره عميقا. بل غالبا ما يقوم المجتمع بلفظ ذلك الجسم الغريب، والعودة إلى تقليده المترسخ، الذي يختلف أصحاب هذا الطرح في إطلاق أحكام القيمة عليه: فيما مضى كان يعتبر “متخلّفا”؛ واليوم، مع انتشار أفكار مدرسة “ما بعد الكولنيالية”، بات يعتبر مقاوما للهيمنة؛ بل متسما بإطار أخلاقي متكامل، تفتقر له “الحداثة”.

حسنٌ، لقد اضمحلّ “الجسم الغريب”، وانهارت مؤسسات الدولة في كثير من الدول العربية، فماذا قدّم “الإطار الأخلاقي” المتكامل العائد للبنى الأهلية العربية؟ هل ساهم في الإبقاء على الحد الأدنى من سمات التحضّر؟ وخفف شيئا من وحشية الحرب؟

الإجابة معروفة بالطبع، فمع انهيار الدولة أثبتت الأطر الأخلاقية والدينة الأهلية العربية عجزها التام عن وقاية المجتمعات من الانحدار للهمجية. وكذلك ارتباطها الشديد بنموذج الدولة، وعدم قدرتها على الضبط الأخلاقي من دون أدوات الدولة وتسلّطها، رغم التعارض، الذي يتحدث كثيرون عنه، بين تراث ديني وأهلي من جهة، والدولة الحديثة من جهة أخرى.

خسارة الدولة أدوارها: خصخصة العنف وصعود الميلشيا

لم ينقص الحروب الأهلية العربية الحديث “الكلاسيكي” عن الفضيلة، سواء بمعناها الديني الذي يبتغي مرضاة الله، أو بمعناها السياسي، المرتبط بـ”المصلحة الوطنية” وخير الجماعة السياسية. إذ أن الحديث عن الفضيلة، في مجتمعات يتهجّنُ فيها الحداثي بالأهلي والعُصبوي، يحقق نوعا من الأصالة المرتجاة، التي لم ينقطع الحنين إليها، لا على لسان التقليديين، ولا في منتج الحداثيين.  

يمكن القول إن طغيان الخطاب الأخلاقي، يدلّلُ على غياب مؤسسات أخلاقية مترسّخة في المجتمع، إذ لا توجد فضيلة مدنية، تظهر نفسها عبر أخلاقيات الحيز العام الحديث؛ ولا فضيلة أهلية/أبوية، توفّر الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي، عبر تقليد وعرف متوارث، وبالتالي يمكن لأي طرف أن يزاود كما شاء في الأخلاق، لأنه لا مؤسسة يمكن التحاكم إليها، وإثبات الادعاءات الأخلاقية عبر آلياتها.

يؤدي الحضور الأمني الضاري للدولة إلى تحقيق شيء من التوازن بين الادعاءات الأخلاقية المتعددة، ولكن مع انهيار السلم الاجتماعي الهش نصبح أمام حال كارثي، إذ تتم خصخصة للعنف، فالدولة العربية التي باعت خلال العقود السابقة قطاعها العام لرجال الأعمال الجدد، تبيع في زمن الحرب احتكارها للعنف، لصالح ميلشيات موازية أو رديفة، أو حتى مخاصمة لها.

الميليشيا أقل من دولة، فهي من جهة لا تحوز القوة الكاملة، التي تمكنها من إدارة بلد؛ وغير قادرة على إنتاج الهيمنة الأيديولوجية الشاملة من جهة أخرى. إذ لا تجتمع لغالبيتها القدرات العسكرية والاجتماعية والاقتصادية، ولا تمتلك أجهزة كالتي تملكها الدولة، من تعليم وإعلام وقضاء وصحة، إضافة إلى الإمكانية الدائمة للطعن بشرعيتها، ذاك أن عنصر التفويض الشعبي ينقصها. كما أن تكوّنها في سياق خسارة الدولة لاحتكارها للعنف هو واحد من عناصر قوتها وضعفها في الوقت نفسه.

يبدو أن أخلاق الميليشيا هي “الإطار الأخلاقي” الوحيد للمجتمعات العربية في هذا الظرف، إذ تتكاثر المليشيات، القائمة على شبكات من المحسوبية والزبائنية، وتتعامل مع جمهورها بمنطق ولاء وبراء عصبوي، يقوم على مزيج من شريعة الغاب، التي يفرض فيها حامل السلاح “عدالته” ورؤاه الخاصة؛ والانتهاك الشامل لكل عدو، سواء كان ممن يشكّ بولائهم داخل الجماعة الأهلية، أو من المختلفين دينيا وطائفيا ومناطقيا وعرقيا خارجها. بمعنى أن “مؤسسة الأخلاق” الوحيدة داخل الجماعة الأهلية هي السلاح، أما خارجها فلا يوجد أي شكل من أشكال التحضّر: لا أخلاق ولا عُرف ولا مؤسسة حداثية. 

فتى الميلشيا الحاضر: هل هو المستقبل أيضا؟

طالما أحاطت هالة سحرية بالمقاتل، لم تقتصر فقط على الخيال الشعبي أو مروياته، بل تمدّدت إلى حقل الفلسفة، فرفعت الأفلاطونية مرتبة المقاتل، التي لا يعلو فوقها إلا الحاكم العادل، وهو عند أفلاطون حاكم فيلسوف، وحربه من هذه الزاوية ليست عبثية، بل أخلاقية، والمشاركة فيها واجب على جميع مقاتليه.

لكن ضمن الحروب الأهلية الجارية في أيامنا، دخلت عناصر تقنية وميديوية جديدة، لتساهم في رسم مشهد المقاتل وصورته، وإنتاج موقعه ومكانته الاجتماعية والسياسية، وتوسيع عنصر الفرجة، وبالتالي استشعار البطولة لمداه الأقصى.

لا يندر أن يتحول قادة الميليشيات، وبعض المقاتلين المنخرطين في الحروب الأهلية إلى أيقونات، بغضِّ النظر عن سلوكياتهم المختلف عليها، فخلال سنوات الحروب الفائتة، برزت عشرات الشخصيات الميلشيوية، التي كان بعضها مجرد حالة عابرة في حي أو بلدة أو مدينة، لم يطل الوقت قبل أن تختفي؛ وبعضها الآخر كان مقاتلين ارتكبوا انتهاكات جسيمة على مستوى بلد كامل، ولكن لا يندر وجود جمهور لهم، يساندهم ويتغاضى عن أخطائهم وحتى جرائمهم، ويحتمي بهم، في ظل انهيار المؤسسة الأخلاقية بوصفها ضابط للسلوك، واضمحلال البنى الاجتماعية التقليدية، التي كانت توفر شبكات الحماية الاجتماعية سابقا، وانقسام المؤسسات المرجعية الدينية أو التعليمية بين أطراف الصراعات، أو حتى انهيارها وزوالها بالمعنى الحرفي، نتيجة الأعمال العسكرية.

في هذه الأجواء الكابوسية للحروب، أثبتت الحالة الميلشياوية أنّها ولّادة، وقادرة على تخصيب الحرب بوجوه جديدة ومتجددة دوما. كما انفتح عليها المجتمع، بحيث صار تناسلها أمرا مألوفا، واستمرت باستقطاب جيل جديد من المقاتلين والشباب من أعمار صغيرة في صفوفها، باستنادها الواسع على ما تبقى من الروابط الأهلية، بحيث يكون لكل فئة ميليشيا أو ميليشيات، يحصل أن تتنافس فيما بينها على زعامة البيت الأهلي.  

وضمن حالة الدفاع عن المجموعة، وتصفية المنافسين، تجد الثورات والحروب وفترات الاضطراب الاجتماعي والسياسي مبررات للممارسات العنيفة والإجرامية، قبل أن يُنهك أفراد المجتمع منها، ويتوقفوا عن الاحتفاء بها، ليصرخوا بشكل معاكس، سمعناه أكثر من مرة في دول المنطقة: “أين الدولة؟”. والمشكلة هنا أن الدولة انهارت، أو أنها منذ تأسسها منخورة بالعصبيات والعصب، فلا يبقى إلا الميليشيات بقادتها لسد الفراغ، ولعب دور الدولة في المكان الأسهل، الذي تستطيع فيه ذلك، أي العنف، وتستبدل الخدمات، التي يناط بالدول تقديمها لمواطنيها، بتوسيع العلاقات الزبائنية، التي تضمن سيطرة الميليشيا واستمرارها، بينما لا تكفُّ عن الادعاء بإحقاق الحق والتمسّك بالفضيلة، والسعي نحو العدالة، في ظل انهيار القانون، وحاجة الميلشيا الدائمة إلى مرجعيات فكرية وخطابية، من أجل حفظ تماسك المجموعة.

يبدو أن الحروب الجديدة، بطابعها الأهلي المولّد للميليشيات، ستمتد وتستمر، بوصفها واحدة من ميزات الصراع في زمن ومجتمعات ما بعد الحداثة، شديدة التفتت والفردية، ومتعددة المرجعيات الفكرية القلقة، التي ترى نفسها رغم ذلك أخلاقية ومحقّة؛ والتي تقوم اليوم، من خلال تدفّق معلومات غير متكافئ، وتوسّع استخدام وسائل الإعلام والاتصال، بتهجين مرجعيات تقليدية. ضمن هذا الإطار، تتوالد الحالة الوحشية التي يمكن فيها للمجازر أن تجد مؤيديها. ولن نعدم أن نجد من  يلتقطون صورا مع جثث ضحاياها، فيما يُحرق الأسرى أو يعدمون  بصورة سينمائية، أو تطلق الدعوات لإبادة قرى ومدن وزراعتها بالبطاطا.  

وفي إطار هيمنة العنف وسطوة الميليشيا، ربما تتوجب الدعوة لاستعادة السياسة، والدفاع عنها وعن حق الناس فيها، بتعريفها البسيط والأولي، بوصفها وسيلة لحل النزاعات سلميا. بهذا يمكن تلخيص المطالبة السابقة بجملة بسيطة: نبذ العنف من أجل استعادة السياسة. بعدما جرى التهليل والتبرير لكل ممارسة عنفية في مجتمعاتنا، حتى صارت مجتمعات فناء وحرب دائمة، استعادة السياسة اليوم لم تعد مجرد مهمة من مهام “التحوّل الديمقراطي”، بل مهمة أخلاقية أيضا، إذ يصعب تصوّر الاستمرار الحضاري لمجتمعات لا يضبط أخلاقها إلا فتيان الميليشيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.