عُرض في السينمات الأميركية والعالمية أواخر العام الماضي فيلم The Menu (قائمة الطعام) من إخراج مارك مايلود، وبطولة رالف فينيس و أنيا تايلور جوي ونيكولاس هولت. وهو يتحدث عن الثنائي مارغو وتايلر، ورحلتهما الغريبة إلى جزيرة خاصة، فيها واحد من أفخر مطاعم العالم، لا يزوره الا فئة من فاحشي الثراء، من مديري شركات وناقدي طعام وممثلين مشهورين. ومع توالي تقديم الأطباق، في مشهد مسرحي مُقسَّم الفصول بتقسيمات الأطباق، تتصاعد حالة من العنف والانتقام تجاه ضيوف المطعم، وينتهي الفيلم بطريقة غير مفهومة لأغلب المشاهدين. فلماذا حدث ما حدث؟ وماذا كان الغرض الأساسي من المشاهد الأخيرة؟ هل هناك طبقة أخرى من المعنى في الفيلم، تحتاج تأويلا خاصا؟

لكن قبل ان ننتقل الي محاولة قراءة الفيلم، وفهم ما يعنيه بالأساس، وجب ان نسأل سؤالا آخر: ما علاقة الفيلم بواقعنا، مما يُعطيه أولوية في التحليل؟

يخبرنا الفيلسوف الفرنسي ألان باديو أن السينما مثال مقلوب عن “كهف أفلاطون”، ففي داخل ذلك المكان المُغلق والمظلم، يُعرض تتابع من الصور، لكنه في حالة السينما لا يهدف إلى تضليلنا، بل على العكس، يخبرنا عن العالم الخارجي، عبر جدل بين الواقعية واللاواقعية. فمن خلال تضافر عدد من الفنون، مثل الرسم والموسيقى والمسرح وحتى الشعر، تحاول السينما أن تُخبرنا حقيقة جديدة عن العالم، وربما بصورة لا واعية. إنها تُميّز بين ما هو كائن “Is”، وما ينبغي أن يكون “Ought to “. وبحسب الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك فالفيلم السينمائي أشبه بصورة من أحلامنا، فهو نظام من التخيّلات والرموز، يتضح الواقع الذي يعتمد عليه من خلال التحليل، فالسينما لا تُخبرنا ماذا نُريد، إنها بالأحرى تُعلمنا كيف نُريد، من خلال بنائها الرمزي.

الخاصية الكشفية للسينما هي ما اتفق عليه أغلب دارسيها الكلاسيكيين، وتعتمد تلك الخاصية على عناصر لا يتحكّم بها المخرج وحده، ولكنها مستمدة من الواقع الذي يفرض نفسه على الفيلم، كما يخبرنا الناقد الألماني سيغفريد كراكور. من جهته يؤكد أستاذ دراسات السينما مالكوم تورفي، في كتابه “الرؤية المشكوك بها”، أن “أهم خاصية للسينما، والتي لا يمتلكها نوع أخر من الفنون، هي القابلية لعرض مُمكنات الواقع، التي تغيب عن رؤية الانسان. قيمة هذه الخاصية أنها تكشف عن الطبيعة الحقيقية للواقع بالنسبة للمشاهدين”.

يُعرّض فيلم The Menu مشاهديه لتجربة صادمة، يمتزج فيها العنف بالغرائبية، وكأنه يشير إلى كوابيس مألوفة لهم، حتى لو لم يفهموها تماما. فما “الخاصية الكشفية” لهذا الفيلم؟ وما “الواقع” الذي يفرض نفسه عليه؟

العقل: “لا يوجد شيء اعتباطي في هذه القائمة”

يبدأ الفيلم باستعراض الجزيرة التي يقع فيها المطعم، وأماكن تخزين اللحوم وصيد الأسماك، انتهاءً بمقر إقامة فريق الطبخ، الأشبه بعنابر النوم العسكرية. تتجوّل مساعدة الشيف وبرفقتها زوار المطعم الأثرياء، وعندما يتعجّبون من نمط الحياة العسكري للفريق، وإمكانية تعرّضهم للإرهاق نتيجة كل الضغط الذي يتعرّضون له، تخبرهم بتهكّم: “إننا لا نحرق شيئا الا وِفق مخطط”. ثم تنتقل الي المطعم، الذي ينقسم الي قسمين: قسم طاولات الضيوف وقسم المطبخ. وكأنه صُمم ليكون مسرحا بالأساس، لا تُقدم فيه الوجبات فقط، وإنما قصص لاواقعية، مع عناصر واقعية هي الطعام نفسه.

وبتوالي تقديم الوجبات، يتضح لنا الأمر، فالشيف “سلويك”، الرئيس الصارم لفريق الطبخ، أشبه بقائد عسكري، يعمل تحت إمرته عدد من الجنود لخدمة الزبائن، في بيئة مُحكمة جدا، على أساس الانضباط والاتقان والعقلانية والرشادة في إدارة الموارد، لتحقيق معنى نهائي.

الشيف سلويك

يبدو منطق الشيف سلويك أقرب للتنوير الأوروبي، في صيغته الفرنسية والإنجليزية والأميركية، باعتماده على مفهوم محدد، أي العقل، وهو المفهوم المركزي الذي قامت عليه محاولات الإنجليز لإعادة تعريف العدالة والأخلاق، واستنباط نظام دستوري وقانوني، يعتمد بأكمله على العقل بوصفه مركزا مُسيطرا، كما يظهر في كتابات جوك لوك وديفيد هيوم وآدم سميث. وهي المكانة نفسها التي شغلها العقل في محاولات الفرنسيين لإعادة تعريف المعرفة نفسها، بوصفها قطيعة مع الماضي اللاهوتي المسيحي والخرافي، الأمر الذي يبدو واضحا في كتابات الموسوعيين والأيديولوجيين الفرنسيين، مثل ديدرو وفولتير وبارون هولباخ وكلود هلفتيوس ودي تراسي. المحاولة نفسها نجدها لدى الأميركيين، في محاولاتهم لتصوّر نظام جمهوري ديموقراطي حر سياسيا، خارج سُلطة الكنيسة والطوائف.

ومع الثورة الصناعية الإنجليزية، ومن ثم الثورة الفرنسية وحروب نابليون التوسعية، تحوّل العقل من مجرد مفهوم فلسفي تجريدي الى أداة برغماتية فاعلة، أوكلت إليها إدارة الاقتصاد الصناعي الوليد في لندن، مرورا بإدارة المستعمرات الفرنسية والانجليزية، وحتى تنظيم السُكان في الأقاليم وإدارة الدولة. وسرعان ما تحولت السرديات الكبرى للحداثة والعقلانية، ورموزها المفاهيمية (العقل، الحرية، العلم، الجمال، الأخلاق، التقدم) إلى مجموعة من المؤسسات الكبرى (المستشفى، الجامعة، السجن، الجيش) تقوم بممارسة الضبط والسيطرة البيروقراطية على جميع نواحي الحياة.

 عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر عبّر عن ذلك بالقول: “العقلنة بالنسبة للفرد تعني أن يُسيطر، بالمبدأ، على جميع الأمور من خلال الحساب”. إنها القابلية لتطويع المعرفة الإنسانية والسيطرة عليها لغرض التنبؤ وإمكانية توقع المستقبل، أو كما يشرح، في كتابه “الأخلاق البروتستانتية”، بأنها العملية التي يتحوّل فيها الفرد الحديث إلى “ترس في آلة”، تتجه في النهاية لتحقيق معنى ما. وهي كذلك تُتنج الفرد “الخبير”، أو بتعبير فيبر “الأخصائي فاقد للروح، الشهواني دون قلب، هذا اللاوجود الذي يتخيّل أنه قد أحرز مستوىً من الانسانية لم يسبقه إليه أحد”.

هذا الوصف تحديدا يصدق على الشيف سلويك. تحاول مارغو بطلة الفيلم أن تعترض على الطعام مُتهكمة: “سيُصيبني بالتُخمة!”، فيرُد الشيف: “لا يمكن أن يحدث هذا، لقد صُممت المكونات بعناية لتلافي ذلك”، في إشارة واضحة للسيطرة على عناصر الطبيعة وضبطها وفق منهجية عقلانية إجرائية، تؤدي في النهاية لتحقيق هدف ما. “لا يوجد شيء اعتباطي في هذه القائمة”، يقول الشيف.

مع الطبق الرابع الذي يقدّمه الشيف سلويك، وهو الفصل الرابع من الفيلم بعنوان “الفوضى”، نجد أنه ينطبق على إدارة الشيف لفريقه ومطعمه كل ما نعرفه عن الدولة، الكيان الأكثر تجسيدا للحداثة، والذي تتضافر فيه كل مؤسساتها لتحقيق غايتها المطلوبة. فهي كيان تاريخي يحكي قصة أو سردية بعينها، كما يحكي الشيف حكاياته لرواد مطعمه؛، وتُمارس سيادة بيولوجية على أجساد رعاياها، كما يتحكم الشيف في مساعديه وأجسامهم؛ واعتمادا على سرديتها تهيمن على وعي المجتمع بطريقة رمزية، كما يقنع الشيف الحاضرين بأن المشاهد العنيفة التي تدور أمامهم مجرد مسرحية.

تعمل الدولة الحديثة وفق عملية يومية تُعرف باسم “السيادة”، وهي عملية جدلية تتكوّن من عناصر لاعقلانية، تساعد في تمثيل الأُمة المُتخيّلة لنفسها، وتاريخ صراعها القدري ضد الظروف والعقبات (الإرادة الشعبية)؛ وكذلك من عناصر عقلانية، منها احتكار أدوات العنف، وتنفيذ القانون والدستور، وتمثيل الأمة في الخارج. وبحسب الفيلسوف الألماني كارل شميت فإن “إقرار الدولة بصفتها كائنا ذا سيادة أشبه ما يكون بالمعجزة الدينية، فلا مرجعية لها إلا كينونتها”. إنها تتحول إلى كيان إلهي في النهاية، يَخلق من العدم، وتتجه غايته النهائية لمجرد البقاء. ولكن الأهم قدرة الدولة على التضحية بالفرد/المواطن لضمان تحقيق غايتها.

بعد أن ينتهي الشيف سلويك من تقديم “سرديته” المركزية لرواد مطعمه، وهي دفاعه عن أمه ضد أبيه المتوحش، وقيامه بطعنه بالسكين، يصبح هو نفسه الأب/الدولة، لقد “قتل الأب” رمزيا (النظام القديم غير العقلاني)، وبات هو صاحب السيادة، الذي يمتلك شرعية سرد الروايات عن الذات والعالم. يطلب حضور أحد مُساعديه، الطاهي “جيرمي”، ويسأله: “هل تريد أن تكون مثلي؟ هل تريد ان تعيش حياتي؟” يقول المساعد: “لا”. وعندها يتلقى رصاصه في رأسه، لتُصبح تضحيته هي عنوان الطبق المقدّم للزوار. إنها تضحية ضرورية، تضمن استمرار قصة الأب، وتضمن استمرار بقاء الشيف سلويك بوصفه أمينا على غاية عُليا، وهي خدمة الحضور!

الفردانية: “كل هذا جزء من المينو”

تظهر طاولات الضيوف في المطعم وكأنها مجتمعات مُستقلة، يحتكم بعضها إلى سُلطة رأس المال، والأخر لصورته الاستعراضية. وتغلب على الضيوف عموما الروح الفردانية المعاصرة، فكل طاولة عبارة عن عالم في معزل عن العوالم الأخرى، وحتى عن الواقع نفسه، على النقيض من جماعية فريق الطبخ، وتصوراتهم الشمولية المُحكمة عن المعنى والجمال والهدف النهائي. نحن أمام عالمين: الأول جماعي حداثي مُنظّم، له تصوراته الموضوعية، يقوم بفرض معناه من خلال السيادة؛ والآخر مُعاصر فرداني ما بعد حداثي، لا يمتلك إلا الذاتية والتفضيلات الجمالية الخاصة، أثناء تلقيه للقصص العتيقة، التي يُلقيها الشيف سلويك، معتبرا إياها مجرد فقرات ترفيهية في عرض مسرحي. “كل هذا جزء من المينو”، تقول ليليان، ناقدة الطعام المتبجّحة، وأحد أهم ضيوف مطعم الشيف.

من أين أتت لا مبالاة الضيوف بحكايات الشيف، رغم كل ما تحويه من عناصر “الحقيقة”: الجدية، العنف، الرعب، بل حتى الدموية؟

افتُتح القرن العشرون بسلسلة من الاختبارات الصعبة للحداثة (الحرب العالمية الأولى، الكساد الكبير، الحرب العالمية الثانية، التهديد النووي) ليتضح للبشر بأن الوعد الذي حملته الحداثة نحو عالم أفضل، عالم جديد شجاع، لم يكن أكثر من مجرد كابوس مُسلط على رِقابهم. فظهرت نزعة لتجاوز الحداثة بكل منتجاتها، وهو ما تم نظريا عن طريق مفكرين يُنعتون عادة، دون دقة كبيرة، بمفكري “ما بعد الحداثة”، أمثال ميشيل فوكو وجاك لاكان وجاك دريدا وغيرهم.

مفهوم “ما بعد الحداثة” ظهر أول مرة مع الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار عام 1979، في كتابه “الوضع ما بعد الحداثي: تقرير عن المعرفة”، وفيه مُقدمات ما اعتبره ليوتار ثورة فكرية ضد السرديات الحداثية الكبرى، بخصوص العقل والحقيقة والتقدّم والعدالة. “إنني أُعرّف ما بعد الحداثة بأنها ارتياب تجاه السرديات الماورائية”، يؤكد الفيلسوف الفرنسي. وفي مقابل مركزية العقل يقترح الانطلاق من الهوامش لتفكيك كل ممكنات التواصل التي اعتمدت عليها الحداثة، ففي النهاية تتكوّن فضاءات التواصل من ألعاب لغوية، يمكن دائما إعادة اختراع رموزها وقواعدها الأولى مرة بعد مرة.

وبالمثل انطلق ميشيل فوكو، رغم أنه يرفض بالتأكيد وصف “ما بعد الحداثي”، من المقولات الشعبية الهامشية بخصوص المعرفة، ففي دروسه بالكوليج دو فرانس مثلا، المعنونة باسم “دفاعا عن المجتمع”، حاول فوكو البحث فيما وراء ما يُصطلح عليه بكونه “علما”، معتبرا أنه سُلطة معرفية، تستهدف طرد كل ممكنات التمرّد والنقد. ويجب استكشاف عمل وآلية المؤسسات العلمية، وكيف تمارس عملها لخدمة السُلطة، وبناء مفاهيم العقلانية والمعرفة والتقدم.

نتج عن هذه “الثورات” الفكرية، التي واكبت اضطرابات اجتماعية كبيرة، أهمها ثورات الشباب والطلاب في الستينيات، صعود مبدأ الفردانية، والحكم الذاتي الجمالي، مقابل شمولية وموضوعية الحقيقة والعدالة والمؤسسات. لتظهر لنا ذاتيات وهويات جديدة أو مٌعاد انتاجها، تقدّم ألعابا لُغوية، تتساوى في الحقيقة والمعنى، ومنتجة لواقع بديل. ويمكن القول إن “ما بعد الحداثة” وجمالياتها كانت المشهد الثقافي التي صعدت عليه الأيديولوجيا النيوليبرالية، التي أعادت إنتاج سلطة الدولة الحديثة باتجاه حماية ورعاية المصالح الخاصة لكبار المستثمرين، وترسيخ الفردانية والهوياتية. هكذا يبدو الشيف سلويك وكأنه مكرّس لخدمة راحة ومتعة ضيوفه، المنتمين لأكثر الفئات حظا وثراء، والحريصين على إبراز فرادتهم.

إلا أن “الشيف” يبقي القائد/الأب وصاحب السيادة، ولن يظلّ مستلبا طويلا بدور الخادم. فالسيادة تبقى “الحقيقة”، سواء في عصر الحداثة أو ما بعدها، وستحرص على أن تكون لها الكلمة الأخيرة.

الجحيم: “لنتطهّر مثل الشهداء والمهرطقين!”

يتدرّج الفيلم في توضيح تعامل الشيف سلويك مع الضيوف، في البداية سُخرية لاذعة من تفضيلاتهم الذاتية الجمالية بخصوص الطعام؛ ثم يتصاعد رد فعله تدريجيا، ليعريهم أمام ذواتهم، فنرى الفساد المالي والجنسي والانحطاط الفني وتفاهة الذائقة الجمالية للضيوف؛ وصولا إلى انتقامه النهائي منهم، الجدير بواحدة من قصص العهد القديم من الكتاب المقدس.

سئم الشيف سلويك من ذائقة ليليان، ناقدة الطعام الشهيرة، وميلها لسفاسف الأمور؛ ومن تحكّم دوغ فاريك، رجل الأعمال صاحب المطعم، لينتقم منهما في مشهد شبيه بسقوط الملائكة الذين خالفوا أوامر الرب في التراث المسيحي، أو كأنه يقتبس من “الكوميديا الإلهية”، للأديب الإيطالي الشهير دانتي أليغري، وخاصة جزء الجحيم منها، والذي يصف سقوط الملائكة من الجنة، ليحرسوا بوابات “مدينة الموت”، حيث يُعاقب من أضرّوا غيرهم في قعر الجحيم. يقول دانتي: “وعندها رأيت أكثر من ألف من الملائكة الذين هبطوا من السماء على البوابات، من هذا الذي مازال حيا ويُريد أن يعرّج على ملكوت الأموات؟”.

“دانتي بجوار مدخل الجحيم”. لوحة جدارية للفنان دومينيكو دي ميشيلنو من عام 1465

إنها السيادة الحديثة وقد جُن جنونها، بعد أن أرهقها ضغط الأزمات، فظهرت بحقيقتها العارية، الشبيهة بالمعجزة الدينية، حسب رأي شميت، تتخلى حتى عمّن يفترض أنها تمثّل مصالحهم وتعمل على خدمتهم، مشعلةً حربا أخيرة تُعاقب الجميع بنيرانها. “النار، ذلك اللهب النقي، يُغذينا ويُدفئنا، يُعيد خلقنا، يصوغنا، ويدمرنا. لابد أن نُعانق اللهب، لابد أن نتطهّر، ننظف أنفسنا، كالشهداء والمهرطقين، وقتها يمكن أن نُخلق من جديد.. أحبكم جميعا”، يقول الشيف.

قد يكون هذا هو الكابوس نفسه الذي نعيشه اليوم، بعد أن ظننا أن الحروب بين الدول العظمى، وخطر أسلحة الدمار الشامل، والاعتداءات على الحريات الفردية، قد ولّت دون رجعة منذ نهاية الحرب الباردة. مع أزمة كورونا، والإجراءات التقييدية التي فرضتها الدول، ومن ثم الغزو الروسي لأوكرانيا، والتوتر بين الصين والولايات المتحدة، يبدو أن الدولة المسيطرة على حياتنا، والقادرة على التضحية بها عند اللزوم لأجل “غاية أسمى”، لم تنته يوما، بل توارت قليلا فقط إبان عهد من الرخاء النسبي، وها هي تطلّ برأسها من جديد مع الأزمات، لتهددنا بمشهد تطهّري أخير.

الخلاص: “أريد برغر أميركي فقط من فضلك!”

هل قدّم الفيلم مخرجاً من هذه الواقعية المُتشائمة؟

تقف مارغو في نهاية الفيلم، وتعترض على الشيف سلويك، وتخبره بأن ما قدمه من طعام لم يكن جيدا، وأنها لم تشبع، في خطوة تمرّدية أخيرة بلا أمل. وتطلب منه أن يُعد لها وجبة برغر أميركية تقليدية، من النوع الذي كان يقدمه في شبابه (حسب حكاياته نفسها). يلبي الشيف طلبها بأريحية مفاجئة، وبعد أن تتناول الوجبة تطلب أن تأخذ ما تبقّى منها للبيت. وتخرج قبل أن يبدأ الفصل الأخير ويحترق الجميع.

مارغو

هل يمكن أن تعتبر هذا الطلب عودة للقيم الأصلية للحداثة (على النمط الأميركي) قبل تحولها إلى “مؤسسات انضباطية” ودول متضخّمة قمعية، تثقلها جيوشها من “الخبراء” والبيروقراطيين، وكذلك قبل أن تصبح مجرد خادم لمصالح الفئات الأكثر ثراءً؟ ربما.

لا نريد من الدولة الحديثة إلا مجرد وجبة برغر، أي الحد الأدنى من التنظيم وحفظ الأمن والوظائف الاجتماعية (الصحة والتعليم ودعم البنى التحتية). أن تدعنا “نخرج” بسلام من المحرقة التي تنوي تنفيذها. و”الخروج” Exodus بدوره مفهوم توراتي، يشير أصلا إلى خروج اليهود من مصر بقيادة النبي موسى، وهو خروج روحي أساسا، بفضله وصلوا إلى الخلاص.

قد يكون الحل الذي يطرحه الفيلم مرضيا لفئات كثيرة من ناقدي السيادة الحديثة، من يمينيين ويساريين، ومتجاوزا للعقلانية الأحادية للحداثة، والسخرية العبثية لما بعد الحداثة في الوقت نفسه. ولكن يبقى السؤال: هل سيعدّ لنا “الشيف” حقا، وبكل طيب خاطر، وجبة برغر “فقط” عندما نطالبه بذلك؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.