كيف صار نيتشه سلاحاً ثقيلاً في الحروب الأوروبية؟

كيف صار نيتشه سلاحاً ثقيلاً في الحروب الأوروبية؟

ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بيانه بشأن غزو أوكرانيا في تشرين الثاني/فبراير الماضي. وكانت أكثر نقاطه بروزا اعتبار الغزو “عملية عسكرية خاصة” تستهدف “نزع النازية” Denazification من أوكرانيا، فاستعجب كثيرٌ من المحللين الغربيين والعرب، لأن زيلنسكي نفسه، رئيس أوكرانيا المنتخب منذ عام 2019، يهودي الديانة!

ادعاءات بوتين عن نازية أوكرانيا أثارت كثيرا من السجالات. البعض اعتبر أن كلامه ليس فارغا تماما، لأنه بالفعل تم في عهد زيلنسكي تجنيد آلاف من النازيين الجدد الأوكران في ميليشيات تحمل شعار قوات “العاصفة” الألمانية النازية، وتعيينهم في وظائف ومناصب سياسية وعسكرية؛ البعض الآخر أكد أن هنالك مبالغة شديدة من جانب البروباغندا الروسية في موضوع حضور المتطرفين النازيين في الدولة والجيش الأوكراني، وهم في الواقع لا يشكّلون إلا أقلية غير مؤثّرة.

وبغض النظر عن مدى مصداقية بوتين في هذا الموضوع، فإن كلامه له وظيفة دعائية وتعبوية أساسية في الداخل الروسي. فهو يستدعي أكثر الصدمات دمويةً في ذاكرة وخيال مواطنيه، أي الغزو النازي للاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، والذي كان أشرس غزو في التاريخ المعروف، تم بأكبر جيش زحف على وجه الأرض، بلغ أكثر من ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف جندي. وتسبب في أكثر المعارك دموية في التاريخ: معركة ستالينغراد؛ وأكبر حصار في التاريخ: حصار ليننغراد. وهو ما أدى في النهاية إلى انهيار الرايخ الثالث، وخسارة ألمانيا الحرب. بالفعل تحدّث بوتين في بيانه عن هذه الواقعة، وأكّد عليها، وقال ما معناه “إننا هذه المرة أشد يقظة، ولن ننتظر أن يجتاح النازيون أرضنا، وسنبادر بهجوم من أجل الدفاع”. وذلك لأن من أهم عوامل انتصار ألمانيا النازية الهائل، في مطلع حربها ضد السوفييت، صمت ستالين في البداية على الانتهاكات الألمانية، والمعارك الأولى التي خاضتها على الحدود السوفيتية، ظنا منه أن تلك الاشتباكات، التي تسببت في خسائر هائلة في الأرواح والمعدات، مجرد استفزاز ألماني يستوجب ضبط النفْس.

هنالك نقطة أخرى لطالما أكد عليها بوتين، قبل سنوات من الحرب، وهي حماية روسيا من نوع مختلف من “الغزو”، وهو غزو “الليبرالية الغربية”. فقد صرّح عام 2019 مثلا أن “الفكر الليبرالي عفا عليه الزمن، وبات في تناقض مع مصالح الغالبية العظمى من المواطنين”. كما أن “السياسات الليبرالية الغربية حول حرية مثليي الجنس والتوجه الجنسي تُفرض على أغلبية غير راغبة في ذلك”.

بهذا يبدو أن الرئيس الروسي يخوض مواجهة تاريخية/ثقافية في كل معاركه غربي حدود دولته. وربما كان غزوه لأوكرانيا التكثيف الأهم لحربه “الحضارية” هذه، فهي بلد يسيطر عليه النازيون، بحسب ادعائه؛ وفي الوقت نفسه خاضع لليبرالية الغربية، وربما تكون شخصية رئيسه “اليهودي” خير نموذج على هذا الخضوع. ولكن كيف يمكن الجمع بين النازية والليبرالية؟

لن يستطيع بوتين تقديم إجابة على الأغلب، وسيبقى متناقضا من الناحية الفكرية، مقتصرا على تخويف شعبه من “آخر” يحوي بذاته كل الشرور: النازية والليبرالية، خاصة بصيغتها التي يسميها البعض “بعد حداثية”.

إلا أحاديث وتصريحات بوتين تعيد دائما فتح ملفات قديمة، ظن كثيرون أنه قد تم تجاوزها، مثل النازية والفاشية والمسألة اليهودية وتاريخ الحروب الأوروبية، والمفاهيم عن الأمة والجماعة والفرد. وهي كلها تحتاج فهما أعمق مما تتيحه ردود الأفعال السياسية السائدة حاليا. وقد يقودنا البحث عن مصدر فكري، تتقاطع فيه كل هذه المفاهيم، إلى واحد من أخطر الأسماء في تاريخ الفلسفة الغربية: فريدريش نيتشه.

يمكن اعتبار نيتشه أحد أهم مؤسسي الوجودية الملحدة، ومن أعمدة الفكر الفاشي، وأحد أهم مصادر ما بعد الحداثة في الوقت نفسه. ورغم أنه لم يترك مؤلفات نسقية إلا قليلا، فهو من أشهر الفلاسفة حتى يومنا هذا، ومن أكثرهم مقروئية. وبهذا فاسمه سيعود للبروز من جديد مع كل ذكر لأيديولوجيات الحاضر، أو تهديد بعودة أشباح أيديولوجيات الماضي.

أخذ النازيون عن نيتشه مفهوم “الإنسان الأعلى” Übermensch، واستعانوا بأفكاره فيما يتعلّق بالمسألة اليهودية؛ فيما أخذ عنه الليبراليون “بعد الحداثيين” كثيرا من المفاهيم عن الفردانية و”التفكيك”.

لماذا اكتسبت أطروحات نيتشه كل هذه الأهمية السياسية لدى تيارات متعددة؟ وكيف تم تأويله في الحروب التي شهدتها أوروبا في القرن الماضي؟ ولماذا يرجع اليوم ليكون أحد أسلحة الحروب العائدة للقارة العجوز؟

النازية، نيتشه، والمسألة اليهودية

ارتبطت “المسألة اليهودية” Judenfrage منذ ظهورها بمفاهيم تأسيس الأمة، التنوّع والتعددية ضمن المجتمعات، وكذلك الخصوصية الفئوية والفردية. فقد كان اليهود، قبل قيام إسرائيل، أقليات منعزلة في كل دولة. لهم ديانة وعادات وتقاليد ولغات خاصة بهم، ويميّزون أنفسهم، تمييزا عرقيا، عن كل أكثرية حولهم. وهو السبب في طرح “مسألتهم”، التي تتعلق عموما بأن وجود اليهود في أي دولة إشكالي في حد ذاته، يؤثر على الانسجام المجتمعي، ويعرقل “وحدة الأمة”.

بدأ طرح هذه المسألة عام 1750 في بريطانيا، لكنها اكتسبت أبعادها الأيديولوجية حين طرحها مفكرو اليسار الهيغلي في إطار فلسفي، وخاصة برونو باور عام 1843، وكارل ماركس عام 1844. باختصار: يرى برونو باور أن وجود اليهود إشكالي، لأنهم، بمحافظتهم الدينية العرقية، ضد الدولة العَلمانية. صارت “اليهودية” عرقية، جنسا بشريا مختلفا، وذلك بفعل اليهود أنفسهم قبل سواهم، أو على الأقل مع سواهم. وكان الحل في نظر برونو باور هو تخليّهم عن أصوليتهم الدينية، أي أنه ركّز على البُعد المثالي والديني والثقافي أساسا، في مواجهة مفهوم “اليهودية” نفسه، كما طُرح آنذاك، والذي تخطّى تماما حدود التمييز الثقافي، وانسحب إلى مجال التفاوت البيولوجي.

أما كارل ماركس، وهو يهودي الأصل، فقد كان يرى أن الإشكالية في “العَلمانية” لا “اليهودية”، واعتقد أن مفهوم الدولة العلمانية البرجوازية، بوصفها حلا، هو في حد ذاته مشكلة؛ لأنه حتى لو تحرر اليهود من التمييز الديني والعرقي، فلن يتحرروا من التمييز الطبقي، وسيظلون خاضعين لسيطرة الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج. وقد رفض ماركس بوعي المسألة، كما حُددت في ذلك الوقت، فليست مشكلة اليهود ثقافية ذات أصل عرقي، بل  ثقافية ذات أصل مادي اقتصادي.

جاءت النازية لتركز على الأصل العرقي، وحتى “البيولوجي” للمسألة. فظهر مفهوم “الحل النهائي” بوصفه إجابة عن “المسألة اليهودية” عند بعض أبرز مفكري النازية الألمان، ويمكن تلخيص هذا “الحل” بالتالي: استئصال اليهود، من خلال تهجيرهم قسريا من أوروبا إلى بلد بعيد في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية.

نرى هنا الاختلاف بين الحل الذي اقترحه اليسار الهيغلي، برونو باور وماركس، وبين الحل النازي النهائي: تراوح رأي اليسار الهيغلي بين العلمنة والشيوعية، وفي كلتا الحالتين يتم الحفاظ على وحدة الجسد الاجتماعي متنوّع الأعراق والثقافات، أما الحل النازي فكان البتر. وقد كان سبب هذا الاختلاف الصارخ أن النازيين اعتمدوا فلسفة وأصول نظرية، مغايرة تماما، بل ومضادة للأصول النظرية لليسار الهيغلي على اختلافاته، أي فلسفة نيتشه، بعد إعادة تأويلها بما يناسبهم.

كان نيتشه فعلا كارها لليهود، وناقدا لهم، ولكنْ ليس لأنهم عِرق أدنَى، أو أقلية غير منسجمة في أي مجتمع. بل لأسباب تتعلق بنظريته عن الأخلاق والإنسان الأعلى. تحدث نيتشه، في كتابه “نحو جينيالوجيا للأخلاق”، عن أن اليهود هم أول من أبدع فكرة “طوبَى للضعفاء”، التي نادت بها الأديان الإبراهيمية كلها فيما بعد. كان نيتشه طبعا يتكلم في سياق الثقافة اليهودية-المسيحية، لكننا سنجد هذه الفكرة بوضوح كذلك في الإسلام على كل حال.

بحسب نيتشه فإن اليهود قد اخترعوا فكرة تمجيد الضعف والفقر والهوان، بوصفه رد فعل على ثقافة الشعوب الوثنية، وخاصةً ثقافة الرومان الأرستقراطية الميّالة للغزو والسلب وتمجيد القوة إلى درجة تأليهها. وعند نيتشه كان هذا الاختراع “اليهودي” خطأ فادحا، أدّى، على المدى البعيد، إلى انحدار الحضارة الغربية، بعد انتشار المسيحية اليهودية فيها. كان نيتشه مؤمنا بأن الحضارة الغربية تحتضر في زمنه، أي النصف الثاني من القرن التاسع عشر. إلا أن الحل الذي اقترحه لم يكن استئصال اليهود، بل العودة إلى ثقافة عبادة القوة، وتحقيق الذات المتحرر من أخلاق الضعفاء اليهودية-المسيحية.

يقوم الفكر النازي على وحدة المجتمع تحت قيادة شخص واحد. وأن الفرد في ذلك المجتمع يجب أن يكون بلا هوية فردية. ما يعني القضاء التام على كل عوامل التفرّد والخصوصية. ولهذا السبب اضطهدت النازيةُ اليهود، بما هم أقلية منعزلة. هناك سبب آخَر هام لاضطهاد اليهود على أيدي النازيين، هو أن أصحاب الأعمال منهم كانوا معارضين لدخول ألمانيا الحرب العالمية الأولى، لأنها تهدد مصالحهم الاقتصادية. وعندما انتهت تلك الحرب بهزيمة قاسية للإمبراطورية الألمانية، رأى كثير من الألمان في اليهود مثالا واضحا على الخيانة العظمَى، وترجيح الصالح الشخصي، أو الفِئوي بالأدقّ، على الصالح العام. وظهر في ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب تعبير “الطعنة في الظهر”، بمعنى خيانة في الجبهة الداخلية، أدت إلى الهزيمة. وتم تحميل اليهود، بوصفهم عرقا، وفئة متميزة في المجتمع، جانبا من المسؤولية عن هذه الهزيمة.

ومع كل ذلك، لم يكن كل اليهود بالتأكيد أصحاب أعمال، ولم يكن من الممكن تنظيم حملات اضطهاد، وصلت إلى الاعتقال والقتل، ضدهم بما هم يهود، من دون غطاء نظري. لم يقم هتلر ومن معه باضطهاد اليهود فحسب، بل بالثورة على المسيحية كذلك، باعتبارها تطويرا لليهودية، إلى درجة تفكير بعض قادة الحزب النازي في وضع دين جديد للألمان، يقوم على بعض المعتقدات الوثنية الجرمانية والشمالية قبل المسيحية. وكان هذا استجابة لفكر نيتشه، وغيره ممن مجّدوا المرحلة الوثنية في الحضارة الغربية، مثل الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر. لهذا لا يمكن بدقة وصف النازية بالإلحاد، بل ربما بالوثنية.

ما بعد الحداثة، النازية، و”الإنسان الأعلى”

رغم كل ما أخذه النازيون عن نيتشه، فإن تركيب المجتمع النازي هو بالضبط عكس تركيب المجتمع بحسب نظريته في الأخلاق: المجتمع النازي أشبه بجدار، لا معنى لقالب فيه إلا في نظام الجدار. والمجتمع عند نيتشه أفراد متصارعين بطرق مختلفة، منها الإبداع الفني أو العلمي أو الفلسفي أو السياسي أو الاقتصادي، يعتز كل واحد منهم بفرديته، ويرفعها فوق كل شيء. مجتمع كل واحد فيه يعْبُد نفسه، بلا قطيع أو راعٍ. والفرق واضح بين التصورين.

مع ذلك كانت النازية بحاجة إلى غطاء نظري، لأنها، عكس الشيوعية، لم تقم أصلا على نظرية. وهي نقطة غائبة عن كثير من المهتمين بهذا الفكر. الشيوعية الحديثة، أو “الاشتراكية العلمية”، ظهرت أولا بوصفها فكرة مفصَّلة، ونسقا كاملا من المعتقدات، تم تطبيقه، أو على الأقل ادعاء تطبيقه، لتأسيس دولة، هي الاتحاد السوفييتي، لكن النازية ظهرت أولا في التطبيق قبل النظرية، عبر تنظيمات اجتماعية، تجمع أفرادا متشابهين في العرق والملبس والعادات والسلوكيات والمعتقدات العامة المبهمة. ولكي يمتد عمر هذا التنظيم كان من الضروري انتحال نظرية معينة مناسبة له بالقدر الممكن، وعلى وجه السرعة. وكان نيتشه هو الغطاء النظري.

مفهوم “الإنسان الأعلى”، الذي أخذه النازيون عن نيتشه، غير واضح بحد ذاته، وأُسيء فهمه كثيرا. فهو عند نيتشه ليس شخصا معينا، بل مبدأ للترقي الذاتي، بالتغلّب على الذات نفسها أولا، ثم التغلّب على الآخرين، في نوع من الانتخاب الطبيعي-الاجتماعي. هو نوع من الخضوع للطبيعة. ولذلك يتم تصنيف نيتشه أحيانا ضمن “الفلاسفة البيولوجيين”. وهو مفهوم جاء نتيجة، لا مقدمة. بمعنى أنه نتج عن نظرية نيتشه في الأخلاق، وهو كذلك ناتج عموما، بشكل أو بآخَر، عن نظرية الأخلاق الوجودية العامة: تخلو الأخلاق الوجودية من قيود مسبقة على الأفعال، أي أنها لا تعترف بقيَم سابقة على وجود الذات، أو على حد تعبير الوجودي المصري عبد الرحمن بدوي: “افعل ما شئت ما دام جديدا”

المقصود بمقولة “الوجود يسبق الماهية”، التي اشتهرت بها الوجودية، إن وجودك بوصفك إنسانا غير محدد الماهية مسبقا، وغير مُقرر المصير، قبل وجودك نفسه. بالتالي فأنت تبدع نفسك مثل عمل فني حر في كل لحظة. وهي فكرة قد تبدو اليوم مطروقة، لكنها في وقتها، أي عند إرساء قواعد الوجودية الأولى على أيدي كيركغور ونيتشه في القرن التاسع عشر، كانت فكرة ثورية بكل المقاييس، ومتحدية لكل نظريات الاجتماع والنفس والسياسة والفن. حين يبحث الفرد الوجودي عن الترقي، في سياق تنعدم فيه كل القيود على الأفعال، بل من دون سياق من الأصل، سيبحث تلقائيا عن التفوّق بوصفه مبدأ أوحدا، وجهة واحدة للإرادة البصيرة، التي لا تبصر إلا في اتجاه واحد. والبحث عن التفوق يؤدي إلى صراع، والصراع يؤدي إلى انتخاب. والمُنتخَب النهائي هو الإنسان الأعلى. قد يرى البعض أن نظرية نيتشه في الإنسان الأعلى، والأخلاق عموما، وحشية، أو غير إنسانية، أو على الأقل سوداوية، وترسم مصيرا بشعا للإنسانية. ربما يكون هذا صحيحا، ولكنْ من المؤكد حقيقة واحدة: هتلر لم يكن الإنسان الأعلى.

يمكن من هنا اشتقاق نتيجة أخرى، وهي أن أخلاق الأفراد، الذين “يعيدون ابتكار” أنفسهم دوما مثل عمل فني، ويفككون أي سياق اجتماعي وأخلاقي سائد، ويؤمنون بالوقت نفسه بأفول الحضارة الغربية و”الرجل الأبيض”، هي أيضا مستوحاة، في جانب مهم منها، من “جينالوجيا” نيتشه. أي أن الليبرالية المعاصرة، التي يكرهها بوتين، بتفكيكها للهويات القومية، والأنواع الجندرية، والميول الجنسية المعيارية، والتقاليد الاجتماعية، انبنت بدورها على تأويل لمفهوم “الإنسان الأعلى”، ولكن من زاوية مختلفة.

هل يمكن القول بهذا المعنى أن بوتين يشن حربا على نيتشه، باعتباره الناجي الوحيد من تأثيره؟ قد يظن كثيرون هذا، ولكن الفلسفات المحافظة والمعادية للحداثة السائدة في روسيا حاليا، لها مصادرها الألمانية المؤثّرة، وربما كان من أهم تلك المصادر فلسفة كل من نيتشه وهايدغر. وكما استعمل النازيون مفهوم “الإنسان الأعلى”، رغم فردانيته، لبناء أمتهم الجماعية، يبدو أن الأفكار الوجودية المتضمنة في هذا المفهوم، ونقده للحضارة المسيحية-اليهودية، بصيغتها الغربية، يثير خيال المفكرين الروس المحافظين، في سعيهم للدفاع عن روابط اجتماعية روسية مُطهّرة من الحداثة وما بعد الحداثة الأوروبية.

يقول المترجم، والمؤرخ الإنجليزي ريجينالد جون هولنْجدال، في تقديم ترجمته لكتاب “هكذا تكلم زرادشت” لنيتشه: “عندما تحرّكت العائلة [يعني عائلة نيتشه] نحو ناومبرغ، كان نيتشه محاصرا بالأشياء الأربعة، التي شد ما أشمأز منها فيما بعد، ألا وهى: الشفقة، والقومية، والبرجوازية الريفية، والنساء المتغطرسات”. وحين ندرس فكر نيتشه من مصادره الأصلية، سنرى بوضوح مدى صحة هذا الكلام. كان نيتشه، ربما كما أراد لنفسه، سلاحا ذا حدين: حد ضد الحرية، وحد ضد الشمولية؛ سلاحا في يد النازيين، وسلاحا في يد ما بعد الحداثيين التفكيكيين؛ رأس حربة الغرب ضد روسيا، ورصاصة فلاديمير بوتين في أحشاء أوروبا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.