مؤسسة الأخلاق.. أو كيف ازداد “التزامنا” بعد أن فقدنا الآباء والمرشدين

مؤسسة الأخلاق.. أو كيف ازداد “التزامنا” بعد أن فقدنا الآباء والمرشدين

يتخذ سؤال الأخلاق أبعادا شديدة الأهمية في عصرنا، وتتكاثر التعليمات والقواعد حول السلوك الأخلاقي السليم، في مجالات لم تكن تعتبر سابقا مجالا مباشرا للأخلاقية، ومنها الفعل السياسي؛ الأدب والفن؛ الإنتاج والتسويق؛ بل حتى الممارسات الجنسية المتحررة. وبات من المألوف سرد الأخلاقيات بشكل وعظي مباشر، في الأعمال الفنية الموجهة للعموم؛ والمؤسسات التي ترعى “الناشطية”، وكذلك في منشورات جاهزة و”مَرعيّة”، يتم تعميمها لقاء مقابل مالي على وسائل التواصل الاجتماعي.

كل هذا الازدهار للوائح السلوك الأخلاقي لا يأتي، للمفارقة، نتيجة تعزّز البنى الاجتماعية التقليدية، مثل العائلة والمؤسسات الدينية والتعليم العام، بل بالتزامن مع اضمحلال شامل لكل ما أسّس سابقا فهمنا عن الخُلق السليم. لن نجد في هذا الزمن كثيرا من الآباء ورجال الدين والمعلّمين، الذين يرشدون رعاياهم بثقة، وبمزيج من الهيمنة النفسية والعنف “التربوي”، إلى معنى الصواب والخطأ، والخير والشر. أخلاقيو اليوم مجموعة من الناشطين ونجوم الثقافة الجماهيرية و”المؤثرين” على وسائل التواصل، فضلا عن سياسيين وروّاد أعمال، لا يتوسّلون السلطة المباشرة لإثبات قيمهم، بقدر ما يتبنّون لغة وصور “الناشطية” و”ثقافة البوب” في تقديمها. لم يعد المرشد الأخلاقي مُجازاً من مؤسسة تتمتع بشرعية تاريخية أو دينية أو عُرفية، بل أصبح بإمكان من يشاء أن يبشّر بقيم أخلاقية يراها صحيحة، ما جعل التعليم الأخلاقي أكثر انتشارا وحضورا في تفاصيل الحياة اليومية لمتلقيه، وكأن الأخلاقية كانت تنتظر حالة السيولة الحالية، مع انهيار البنى التي حملتها ونظّمتها سابقا، لكي تصل إلى قمة “ازدهارها”، أو بالأصح، إلى نمط من الحضور المفرط في كل مجالات وأنظمة المجتمع.

قد يبدو هذا “التطوّر” طبيعيا، إذ أن اضمحلال المؤسسات التقليدية، وغياب المعلّمين القدماء، ارتبط بازدياد الفرص والإمكانيات، التي يقدمها العالم المعاصر: فيض من السلع؛ قدرات غير مسبوقة على التواصل بين أفراد من مجتمعات وثقافات مختلفة، وعلى النشر والقول وإبداء الرأي على مواقع التواصل الاجتماعي؛ وكذلك حضور كبير للبورنوغرافيا، التي ينتجها محترفون أو هواة، عبر كثير من المواقع والمنصات المتخصصة، فضلا عن “الثورة” التي أطلقتها تطبيقات المواعدة في مجال العلاقات العاطفية والجنسية. كيف يجب أن نستهلك ونتواصل ونتكلّم ونحبّ ونمارس الجنس وسط ذلك الطوفان من “الإمكانيات”؟ خاصة أن الشرط المعاصر يوحي، على المستوى الخيالي والانفعالي، أنه يتيح ويبيح كل شيء، حتى لو كان الأفراد يعيشون ظروفا بائسة في حياتهم “الواقعية”، من فقر وبطالة ووحدة وعجز عن التواصل الفعلي. كل هذا يجعل سؤال الأخلاق بالنسبة لكثيرين ليس مجرد ترف، إذ عليهم أن يعيدوا تعريف أبسط بديهيات وقواعد السلوك الأخلاقي، في ظل تفكك الجماعات التي كانت تحدد لهم تلك البديهيات والقواعد، أو تفرضها عليهم، فيستبطنونها في لاوعيهم، بدون تفكير وأسئلة كثيرة.

بجعل هذا الأخلاقيات المعاصرة متسمة بعدة خصائص، أولها أنها أخلاق غير تقليدية، حتى لو كانت متديّنة أو هوياتية أو متزمّتة جنسيا، وذلك لأن السلوك والتفكير الموصوف بـ”المحافظ” لم يعد يسعى للإبقاء على تكوينات اجتماعية وثقافية موجودة على أرض الواقع، بقدر ما يحاول إعادة إنتاج رموز وعناصر قيمية متخيّلة عن عصور ذهبية. يمكن ملاحظة هذا بوضوح في ظاهرة “الوعّاظ الجدد” مثلا، سواء المسيحيون الإنجيليون أو المسلمون، الذين باتوا أقرب لمؤثّرين على مواقع التواصل، يسعون للفت انتباه متابعيهم بأساليب تدمج بين الصورة البرّاقة والأفكار المتشددة، في حين تعاني المؤسسات الدينية التقليدية في فرض حضورها وتصوراتها، ونشر أفكارها بين المتدينين.

ثاني الخصائص أنها أخلاق فردانية، ليس بمعنى أن تبنّيها نتيجة تأمّل ذاتي وخيار فردي حر بالضرورة، فكثير من القيم المنتشرة تفرض نفسها عبر أساليب ضغط متنوّعة، مثل الانتشار بين الجموع وضغط الأقران؛ والخشية من الفضيحة والتعرّض لحملات التشهير الإلكترونية؛ والشروط التي يفرضها أرباب العمل والشركات على العاملين لديهم، وكذلك المتطلبّات التي تتوقعها الأكاديميات وجهات التمويل والمنظمات من المتقدمين إليها. الأخلاق المعاصرة فردانية بمعنى أنها تمثّل جانبا أساسيا من خصوصية و”فرادة” من يعتنقها، وتساعده على تسويق نفسه في مختلف المجالات، وإنشاء “بروفايل” مقبول وقابل للاستعمال عن ذاته، من طلبات التوظيف وحتى صفحاته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات المواعدة. تساهم الأخلاق المعاصرة، ربما للمرة الأولى في التاريخ الأخلاقي للبشرية، في فردنة الذوات بدل من بناء الذات الجمعيّة.

الخاصيّة الثالثة أنها أخلاق استعراضية أو فرجويّة، لا تكتسب قيمتها إلا من خلال تصديرها للعموم، عبر مجموعة رموز وعبارات ومواقف سهلة الإدراك والفهم والتكرار، أو ربما سهلة الاستهلاك. لا يمكن للأخلاقي المعاصر أن يسلك وفقا لما يراه صوابا، إلا إذا بالغ في استعراض رموز نقائه الأخلاقي، وموقفه بالغ الصفاء، وكذلك المزاودة على بقية الأخلاقيين في كثير من الأحيان. لا يوجد في عصرنا “خير” يُفعل بالسر، بل لا بد من كثير من “التوثيق”.  

وهذا يقودنا إلى الخاصيّة الرابعة، وهي أن الاستعراضية المفردنة تجعل التعاليم الأخلاقية المعاصرة مسطّحة للغاية، بمعنى أنها تبسّط تعقيد المواقف الحياتية والتواصلية إلى درجة الابتذال، ولا تلحظ الحالات الرمادية والغائمة والمركّبة، وهو أمر غير مألوف حتى في أكثر المنظومات الأخلاقية التقليدية تزمّتا، إذ لطالما سعى الحكماء والمصلحون والفلاسفة، والفقهاء القانونيون والدينيون، إلى إبراز تعقيد الحكم الأخلاقي، وترك مجالات وفسحات للمرونة في التعاطي مع المواقف الإنسانية المختلفة.

وأخيرا فإن كل العوامل السابقة تضفي خاصية خامسة أساسية على الأخلاق المعاصرة، وهي أنها أداتية، أي يمكن اعتبارها نمطا من العقلنة، التي تسعى إلى تحويل قضايا السلوك الاجتماعي إلى مجموعة مشكلات، يمكن تحليلها كميّا عبر الأرقام والصيغ البيانية، ومن ثمّ إيجاد حلول “نافعة” لها، تمكّن من ضبط مناحي السلوك الإنساني، وتأمين أفضل النتائج المتوقّعة منه، بغض النظر عن المحتوى الفكري والاجتماعي والسياسي لتلك الحلول. وبذلك لا تبدو أخلاقية الحاضر شبيهة بمفهوم الأخلاق في الفلسفة اليونانية مثلا، القائم على مبدأ السعادة، واكتشف سبلها المتعددة، اعتمادا على الخيار الأخلاقي لمحبي الحكمة؛ أو الأخلاق الكانطية في عصر التنوير (نسبة للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط) القائمة على مبدأ الواجب، المرتبط بـعقلانية “الإرادة الخيّرة”، القابلة للتعميم على كل البشر، وليس بالنتائج العملية النافعة التي قد يؤدي إليها.  

يشير هذا كله إلى تقدّم نمط من الأخلاقية السائلة والمفردنة والأداتية على حساب أنماط أخرى من الفضيلة، المتصلة بمبادئ عقائدية كليّة أو اجتماعية شاملة، مثل الفضيلتين الدينية والسياسية. إذ تقوم الأولى على ربط السلوك الإنساني بتصوّر شامل عن الكون، متجاوز لمحدودية الفرد، المادية والعقلية؛ والثانية على فهم علاقات القوة وأنماط السيادة، بما يوّفر أفضل خير ممكن لجماعة سياسية معيّنة. وهذا يجعل الأخلاق المعاصرة “أخلاقاً مفرطة” Hypermoral، بحسب تعبير الفيلسوف والأنثروبولوجي الألماني أرنولد غيلين، لأنها تنفي تعددية مصادر الفضيلة في السلوك الإنساني، لحساب مبادئ عقلانية مجرّدة وأحادية، تُفرض على جميع مجالات الحياة وأنظمة المجتمع. ما يؤدي، بحسبه، إلى “أخلقة” الدولة والدين والسياسة والثقافة، أي حرمانهم من آليات اشتغالهم الخاصة، وفرض الحكم الأخلاقي المجرّد عليهم. وهكذا بعد أن كانت الأخلاق تابعة ومُفسّرة بأنظمة أخرى، مثل الدين والسياسية والعرف الاجتماعي، باتت نظاما مستقلا وطاغيا. الأمر الذي يعتبره غيلين خللا أساسيا في المجتمعات المعاصرة، يهدد بفقدانها مستقبلا لكثيرا من سماتها، وتعطّل أساليبها الخاصة في إدارة شؤونها وضبط علاقاتها، ما سيترك الأفراد في النهاية مكشوفين أمام نوع من الاستبدادية القيمية، ويخلق توترا اجتماعيا كبيرا، تسود فيه صراعات غير قابلة للتوسّط. توفي غيلين عام 1976، ولم يعش ليرى تحقق كثير من نبوءاته، إذ نشهد اليوم تصاعد الاستقطاب الاجتماعي لدرجة غير مسبوقة، بين أطراف يعتقد كلٌ منها احتكاره للمبدأ الأخلاقي السليم، ما يجعل الجدل بينها غير ممكن؛ وفشلا للمؤسسات الاجتماعية والسياسية في إرساء الاستقرار الاجتماعي والقيمي.

من جهة أخرى، يبدو أثر “الأخلاق المفرطة” واضحا بشدة في مجال الممارسة السياسية والخطاب الثقافي، إذ بات كثير من المهتمين بالشأن العام لا يعنون كثيرا بفهم الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وتوازن القوى على الأرض، بقدر ما يعمدون إلى طرح موقفهم الأخلاقي الصحيح، والتذمّر من خذلان الواقع لتوقعاتهم عن الصواب. أمسى “الضغط الأخلاقي” الوسيلة الأساسية للسياسة الناشطية، أي أن يقوم ناشطون بمواجهة “صانعي السياسات” بما يعتبرونه الحقوق والحقائق الصحيحة، وانتظار أن يعملوا بموجبها، بدلا من تأسيس قوى سياسية فعلية، تعمل على فرض برامجها، أو حتى تغيير النظام القائم بشكل جذري. على المستوى الثقافي لم يعد كثير من الأعمال الفنية والأدبية مهتما بأخذ مسافة من القيم الأخلاقية والأيديولوجية السائدة في المجتمع، كي يقدّم منظورا مختلفا للشرط الاجتماعي والأسئلة الإنسانية الأكثر عمقا، بل غالبا يكتفي بتكرار الخطابات الأخلاقية السائدة، بشكل مباشر ووعظي، وهو ما لم يكن يتسق يوما مع تعريف الفن. كما أن المبادرات الثقافية المستقلة تراجعت لحساب ما يسمى “الإدارة الثقافية”، ذات البرامج والأجندات المعلنة عن “تمكين فئات مهمّشة”، لا بد أن تُعطى المنابر لتعبّر عن “تجاربها الذاتية” و”صدماتها”. القيمة الفنية والأدبية لذلك “التمكين” ليست الأمر الأساسي، وإنما صوابه الأخلاقي.       

إلا أن نمطا أخلاقيا بكل هذه الشمولية والخصائص الواضحة والانتشار الكبير لا يمكن أن يكون بلا مؤسسة. حالة السيولة الأخلاقية في عصرنا تشير إلى انحلال المؤسسات التقليدية فقط، وليس إلى الفوضى الشاملة. أما المؤسسات الجديدة، القادرة على إيصال ترميزاتها الأخلاقية إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية، لتصنع كثيرا من انحيازاتنا الثقافية والسياسية، وخياراتنا الاستهلاكية، وفهمنا لذواتنا والعالم، فلا تبدو من النوع الذي يمتلك كثيرا من المهابة، إنها وسائل إعلام ومواقع إلكترونية ومنظمات غير حكومية وعدد من الناشطين/المؤثّرين-الدعاة. إلا أن فقدان المهابة لا يعني غياب الفعالية، الأمر الذي يذكّر بحديث عدد من الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين، وأشهرهم ميشيل فوكو وجيل دولوز، عن زوال “المجتمع الانضباطي”، القائم على مؤسسات اجتماعية محكمة وصلبة، مثل السجن والمدرسة والمصنع والعائلة، ونشوء “مجتمع التحكّم”، القادر على ضبط ذاتيات وسلوك أفراده، بأساليب أكثر نعومة، وفعالية في النفاذ إلى كل مجالات الحياة.

موقع “حيّز” يفتح ملف مؤسسة الأخلاق المعاصرة، بكل سماتها المذكورة أعلاه، عبر طرح مجموعة من الأسئلة: هل تستطيع “الأخلاق المفرطة” التعاطي مع التحديات السياسية والاجتماعية والبيئة المعاصرة؟ كيف يمكن للإنتاج الثقافي المعاصر أن يستمر تحت ضغط التعاليم الأخلاقية المتكاثرة؟ ما السبيل للتوصّل إلى حد أدنى من الإجماع في الحيز العام، حول أية قضية أساسية، في ظل تعدد المرجعيات والتصورات الأخلاقية؟ هل يمكن تأسيس أية ذاتية جمعية وسط الميل الشامل لفردنة الأخلاق؟ وماذا عمّا يمكن تسميته “العالم السفلي للأخلاق”، أي الظواهر والممارسات التي تبرر نفسها أخلاقيا، في غياب مرجعيات واضحة، وهي ترتكب أفعالا يمكن اعتبارها جرائم، مثل الممارسات الميلشياوية؛ الاعتداء على النساء وقتلهن؛ التشهير والإلغاء والاغتيال المعنوي وعدالة الجموع؟    

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.