مئة عام على Warner Bros: كيف صنعت “المنظومة العبقرية” خيالنا المتمرّد؟

مئة عام على Warner Bros: كيف صنعت “المنظومة العبقرية” خيالنا المتمرّد؟

أوجز الناقد الفرنسي أندريه بازان نظرته عن سينما هوليوود في الحقبة الكلاسيكية بالإشادة بما أسماه “عبقرية المنظومة”، وقال إنها الشيء الذي يستحق التقدير حقا في السينما الأميركية، أكثر من مواهب الفنانين. بالطبع، هذا الطرح مزعج بالنسبة لكل التيارات النقدية، التي حاولت التعاطي مع السينما بوصفها فنا فقط، وتناست أنها أيضا صناعة.

أستوديو وارنر براذرز (WB) كان ولا يزال أحد الأعمدة الثابتة في تلك المنظومة التي قصدها بازان، فهو، إلى جانب شركة بارامونت، أحد شركتين حافظتا على مكانتها ضمن “الخمسة الكبار” في هوليوود. وهو مصطلح يُقصد به خمس شركات عملاقة، تحكّمت في صناعة السينما الأميركية إنتاجا وتوزيعا منذ العشرينيات، وقد شملت القائمة في البداية: “وارنر”، “ميترو جولدوين ماير”، “بارامونت”، “فوكس”، “أر.كيه.أو”.

ثلاث من تلك الشركات سقطت عبر السنين، إما بسبب الإفلاس، أو ابتلعتها كيانات منافسة لتمحو هويتها. فظهر خمسة كبار آخرون، هم اليوم: “وارنر”، “ديزني”، “سوني”، “بارامونت”، “يونيفرسال”. من المثير للإعجاب فعلا أن يصمد استوديو إنتاجي على مدار مئة عام، أي أقدم من بعض الدول، ويظل من الكبار منذ العصر الذهبي لهوليوود وحتى يومنا، برغم تبدّل مُلّاكه على مدار السنين، ودخوله في عدد من الاندماجات الاقتصادية، ومع ذلك يظل محتفظا شعاره نفسه، وأصوله على الأرض، ومكتبة محتواه كاملة، وبعض سياساته الإنتاجية، فضلا عن مدّ نفوذه ليشمل علامات ترفيهية مهمة، مثل عالم DC للكوميكس، وشبكة HBO التلفزيونية.

أضف للأمور التي احتفظت بها وارنر تلك المقدمة الموسيقية، التي تصاحب لوغو الشركة الشهير مع بداية كل فيلم، وهي ليست إلا عيّنة من لحن أغنية فيلم Casablanca (1942)، من إنتاج الشركة. الأغنية بعنوان As Time Goes By (مهما يمر الوقت)، ويمكن هنا ملاحظة دلالة الكلمات، وتكريسها لفكرة العراقة بوصفها استراتيجية لعلامة الشركة. في الفيلم تطلب البطلة إنغريد بيرغمان من العازف دولي ويلسون أن يكرر الأغنية، من خلال الجملة الأيقونية: “العبها مرة أخرى يا سام!”. وها هي الأغنية لا زالت تُلعب بالفعل حتى اليوم، مع كل إنتاج جديد للشركة.

الأخوة وارنر هم هاري، ألبيرت، سام، وجاك وارنر. من أسرة بولندية يهودية هاجرت للولايات المتحدة في نهاية القرن التاسع عشر، هروبا من الاضطهاد الديني المتصاعد في أوروبا. كانوا أبناء سوق وتجارا عصاميين ومكافحين من أجل العيش، متوسطي التعليم وغير مأدلجين، وبعيدين عن الثراء الفاحش أو الأرستقراطية، لكن لديهم حلم. والحلم كان مصنع للأفلام تأسس سنة 1923، سبقته إرهاصات في العرض والتوزيع.

الأخوة وارنر

تحوّل المصنع سريعا لصرح له تأثير تاريخي كبير، ليس فقط على فن السينما، بل على ثقافتنا المعاصرة بأكملها. كثيرٌ من صور ورموز الثقافة الجماهيرية؛ الصيغ السردية؛ الخدع السينمائية وعناصر الإبهار البصري، بل حتى القيم الفنية والفكرية والجمالية، مصدرها ذلك الاستوديو العملاق. باختصار صنعت وارنر براذرز جانبا أساسيا من خيالنا المعاصر.

ولكن ماذا أضافت تلك “المنظومة العبقرية” بالتحديد للفن السينمائي والثقافة الجماهيرية؟ وهل مازلت قادرة، بعد مئة عام من نشأتها، على تقديم الجديد؟

اختراع الصوت

إدخال الصوت والحوار للسينما كان منجزا بحد ذاته، لا يقلّ عن منجز توماس إديسون في اختراع الأفلام، والأخوين لوميير في اختراع آلة العرض. وهو ما فعله سام وارنر، الأخ الشغوف بالتكنولوجيا في العائلة، من خلال جهاز الفيتافون.

قدمت وارنر براذرز أول فيلم صوتي في التاريخ عام 1926 بعنوان Don Juan. والمقصود بالفيلم الصوتي الفيلم الذي له شريط صوت ملتصق ومتوافق مع الصورة، من الموسيقى المصاحبة والمؤثرات السمعية. قبل هذا كانت السينما صامتة تماما، والموسيقى تُعزف بواسطة فرق حيّة، تحضر كل العروض كي تعزف للحضور.

وفي العام التالي، طوّرت وارنر منجزها التقني، وقدمت أول فيلم ناطق في تاريخ السينما The Jazz Singer (1927)، الذي يشمل ما سبق، إضافة لحوارات منطوقة على لسان الأبطال.

رغم أن النظرية العلمية للسينما الصوتية كانت مطروحة منذ بداية العشرينات، لكن كل الاستوديوهات رفضت خوض المغامرة، بسبب التكاليف الكبيرة التي تتجاوز تكاليف الاختراع نفسه، وتمتد لتكاليف أخرى، خاصة إعادة تجهيز البنية التحتية للسينمات، لتكون مؤهلة لتشغيل ذلك الاختراع، أي إعادة تجهيز آلاف قاعات العرض حول الولايات المتحدة.

وحدها وارنر براذرز من أخذ الفكرة بجدية، وخاضت المغامرة، رغم صغر رأسمالها حينها، مقارنة بشركات مثل “إم.جي.إم” و”بارامونت”. لم تجد وارنر وسيلة أفضل لمواجهة منافسيها إلا بقلب قواعد اللعبة لصالحها، وعكف سام وارنر على الاختراع الجديد لشهور عديدة داخل معامل “ويسترن إلكتريك”، لتحسين النتائج وتلافي العيوب مرة بعد مرة، حتى صار الاختراع جاهزا للعمل.

من فيلم The Jazz Singer

ولتكتمل القصة شاعرية، تعرّض سام لوعكة صحية مفاجئة، ومات قبل يوم واحد من العرض الأول لفيلم The Jazz Singer، وتغيّب الإخوة الثلاثة عن العرض حدادا عليه. في الليلة العائلية الحزينة نفسها تغيّر تاريخ السينما والفنون الصوت/مرئية.

ولعل إدخال الصوت للأفلام كان أكثر دلالة للصناعة من اختراع السينما نفسها، لأنه منجز لم يحرّكه العلماء وحدهم هذه المرة، بل التجّار، فكان وسيلة للمنافسة. هنا عبقرية المنظومة التي حدّثنا عنها بازان، إذ أن معادلة المنافسة والعرض والطلب أفضت لتطوّر فني كبير.

جذور السينما الواقعية

يفضّل كثيرون التصديق بأن الصحوة الاجتماعية في الأفلام بدأت من السينما الأوروبية، وتحديدا في الموجات التي سُمّيت بـ”الواقعية” في فرنسا وإيطاليا، مع نهاية الثلاثينيات وحتى نهاية الأربعينات.

الصحوة الاجتماعية في السينما كان لها جذور وإرهاصات منذ السينما الصامتة، لكنها تفجّرت بشكل حقيقي في هوليوود بنهاية العشرينيات، أي قبل السينما الأوروبية. ومن قاد موجة الواقعية الاجتماعية كان استوديو وارنر براذرز. كان ذلك في فترة الكساد الكبير، فحين ركزت بقية الأستوديوهات على أفلام المتعة الهروبية، قدمت وارنر عددا من أفلام المآسي الاجتماعية، المتأثرة بالظرف الاقتصادي والسياسي المُعاش. لدرجة أطلق عليها بعض النقاد “أستوديو الطبقة العاملة”. أفلامهم الشركة دار معظمها آنذاك في شوارع المدن، ونقلت قصص الكادحين من الطبقة العاملة، في صراعهم ضد منظومة عدالة مشوهة، وظروف اقتصادية متردية، وممارسات إقطاعية ورأسمالية ظالمة.

وارنر كانت تطرح تلك الهموم بنبرات متفاوتة الحدة في كافة نوعيات أفلامها، الكوميدي منها والاستعراضي والعصابات. لكنّ فيلمين تحديدا، من نوعية الدراما الواقعية الخالصة، هما اللذين صنعا الفارق، الأول هو (1932) I Am Fugitive from a Chain Gang

من فيلم I Am Fugitive from a Chain Gang

الفيلم الثاني هو Heroes for Sale (1933) الذي سلّط الضوء على ظواهر الفساد الإداري، والفصل التعسفي، وعدم تقدير المجتمع لتضحيات المحاربين القدامى. ويقدّم الفيلم في أحداثه احتجاجات عُمالية عنيفة بصورة متعاطفة، تجعلك تظن أن الفيلم من إنتاج الاتحاد السوفياتي، وليس شركة أميركية أو حوت رأسمالي.

بجانب القضايا والهم الاجتماعي، يعتبر الفيلمان من التحف السينمائية الصالحة للمشاهدة حتى يومنا، قدما لغة سينمائية متطورة، وقدرا من الجماليات، كان مؤثرا في موجات الواقعية التي ظهرت بعدها في أوروبا. الجيد في الأمر، أن هذه الأفلام نجحت في طرح نقاشات مجتمعية ثرية، تغيرت بسببها حزمة من القوانين في الولايات المتحدة، كما ألهمت كثيرا من برامج الحماية الاجتماعية والعمالية.

استفادت شركة وارنر براذرز من عشرات الكتّاب والمخرجين والممثلين ذوي الميل اليساري والشيوعي، الذين كانوا متواجدين بكثافة في صناعة السينما الأميركية آنذاك، لتنتج أفلاما كانت “جماهيرية” حقا، لأنها خاطبت المشاكل الأساسية لجمهور السينما، الذي كان أغلبه من الطبقة العاملة. هنا تبرز من جديد “عبقرية المنظومة”، التي يمكن أن تستفيد من كل موهبة فنية ورؤيا سياسية مناسبة لعصرها وشروطها الاجتماعية. سيكون لك مكان في وارنر حتى لو كنت شيوعيا، ما دمت تقدّم ما يخدم المنظومة.   

عندما ظهرت المكارثية في الخمسينيات، ساعية لتطهير هوليوود من الفنانين اليساريين، اتهمت وارنر برعاية الشيوعيين، والعمل ضد القيم الأميركية، لدرجة أن جاك وارنر تعهّد، لحماية شركته، بتقديم كل الشيوعيين العاملين معه إلى المحكمة. ولكنه لم يفعل ذلك.

بكل الأحول لم تتوقف وارنر أبدا عن تقديم أفلام بهموم اجتماعية جادة ومواكبة لمشاكل العصر، مثل تحفة نيكولاس راي Rebel Without a Cause (1955). وإن كان يرصد هموم عصر وجيل مختلف.

أفلام العصابات

في العصر الذهبي لهوليوود ارتبطت البصمة الإبداعية للأفلام بهوية شركات الإنتاج، أو بحسب كلمات المخرج بيلي وايلدر: “الاستوديوهات كانت لها وجوه وقتها، كل أستوديو امتلك أسلوبا خاصا. لو أخذوك معصوب العينين إلى قاعة سينما، ثم فتحت أعينك هناك، ونظرت للشاشة، سيمكنك معرفة الشركة المنتجة للفيلم”.

تميّزت شركة “إم.جي.إم” بالإنتاجات الضخمة والسينما الاستعراضية الأنيقة؛ أما “بارامونت” فاهتمت بالكوميديا الجنسية (سكروبال كوميدي)؛ فيما استثمرت “يونيفرسال” في سينما الرعب والوحوش؛ واهتمت “فوكس” بالدراما الأدبية الرصينة.

أما وارنر فكان لها أسلوب فيلمي مميز، ثوري، مشاغب، سوداوي، ومنحاز للبشر العاديين وأبناء الطبقة العاملة. وكان لذلك الأسلوب علاقة بطبائع مؤسسي هذا الأستوديو، فكما ذكرنا كانوا عصاميين، أصولهم لا تختلف عن رجل الشارع العادي. وقد ظهر هذا الأسلوب في أفلامهم الواقعية، وكذلك تفاعل مع بعض الظروف الاجتماعية، ليتولّد منه نوع سينمائي قائم بذاته، وهو أفلام العصابات Gangster Films.

أفلام العصابات اختراع الأخوة وارنر، بفضل مدير إنتاجهم الداهية “داريل زانوك”، الذي استغل بعض المعطيات الاجتماعية، مثل قانون تجريم بيع الكحوليات، وآثاره العكسية في نشاط التهريب والتجارة غير المشروعة، مع الكساد والفقر والبطالة، وعودة الجنود من الحرب العالمية الأولى، لتُقابل طاقاتهم بالإحباط والوأد، فكان رد الفعل الطبيعي هو تنامي الأنشطة الإجرامية في البلاد، التي امتلأت صحفها بعناوين عريضة عن رجال مثل “آل كابون” وغيره.

من فيلم The Roaring Twenties

ورثت أفلام العصابات بعضا من سمات الأفلام الواقعية، إلا أن الشركة طعّمتها بكثير من التوابل التجارية. أفلام العصابات مثل Public Enemy و Little Ceasar و Angels with Dirty Faces و The Roaring Twinties، جذبت آلافا لقاعات السينما، لأنها قدّمت صوتا غاضبا ومتمردا؛ وصوّرت شخصية ما يعرف بـ”ضد البطل” بشكل جذّاب؛ وتفهّمت مبررات الخروج عن القانون، الأمر الذي أزعج السلطة والكود الرقابي وقتها، فمارسا ضغوطا على الأستوديو لوضع نهايات عقابية لرجال العصابات في تلك الأفلام. وكان داريل زانوك يرضخ لهذه الضغوط، ولكن يصرّح بعدم رضاه، فيقول إن النهايات العقابية لن تقضي على موجات الجريمة المتصاعدة في المجتمع، بل الظروف الاجتماعية العادلة والمساواة.

وبخلاف الرمزية الاجتماعية لأفلام العصابات، فهي تمتعت بأهمية كبرى من النواحي الجمالية، لأنها خرجت من مواقع الاستوديوهات المغلقة، وصوّرت أجواء المدينة. وبدون هذا التأسيس لم نكن لنرى أفلاما في العقود اللاحقة بأهمية The Godfather و Bonnie and Clyde و The Untouchables وصولا إلى Goodfellas. والأخير أيضا من إنتاج وارنر براذرز في التسعينيات، وصرّح مخرجه مارتن سكورسيزي أنه استلهم أجواءه من سينما وارنر في الثلاثينيات.

أيضا، أفلام العصابات الأولى عرضت صراع الخير والشر بأسلوب بصري جذّاب، كان مسؤولا عن إلهام نوعية سينمائية أخرى ستتشكّل في الأربعينات وهي “الفيلم نوار”، التي يصنفها كثيرون تطورا طبيعيا لأفلام العصابات في الثلاثينيات. وقد قدمت وارنر مجموعة من أبرز أفلام النوار أيضا، مثل The Big Sleep  و The Maltese Falcon.

كسر تابو الجنس

المعارك بين وارنر براذرز والقائمين على فرض الكود الأخلاقي (Hays Code) على هوليوود في مطلع الثلاثينيات، لم تقتصر على أفلام العصابات. ولكن امتدت لبقية النوعيات التي تقدمها وارنر، فقد كانت الشركة الأكثر إيجابية في عرض التيمات الجنسية والإيروتيكية. وقد صرح داريل زانوك أن ممولي الأفلام كانوا يطلبون صراحة من وارنر تقديم “فيلمين نسائيين” من أصل كل خمسة أفلام تنتجها الشركة، وكان المقصود بـ”الفيلم النسائي” وقتها الفيلم الإيروتيكي.

بدأت وارنر بكسر التابوه الجنسي في أفلامها الاستعراضية، إذ لم تملك وقتها إمكانات مادية كبيرة، لتقديم الإبهار والأناقة بشكل مكافئ لإنتاجات منافسها الأكبر “إم.جي.إم”. فكانت وارنر تلجأ إلى الجنس لتسويق أفلامها الاستعراضية، وتصوّر عشرات الراقصات شبه عرايا، والكاميرا تلتقط رقصاتهن من أكثر الزوايا إثارة. كان ذلك أحد الأسباب في النجاح الكبير لأفلام وارنر الاستعراضية الأولى:  The Golddigers و  42nd Street Footlight Parade. هذه الأفلام مازالت مبهرة حتى اليوم لأنها مصنوعة بحرفية عالية، وتقدم الإيروتيكية بأسلوب فني لا يجرؤ عليه صنّاع السينما حاليا. وينسحب الأمر نفسه على عشرات الأفلام التي قدمتها وارنر في تلك الفترة: التساهل مع الإغراء وعرض مشاهد الحب والفراش؛ والتسامح مع الملابس الكاشفة والعلاقات الشائكة؛ والجنس خارج مؤسسة الزواج، وكلها أمور أزعجت مكتب الكود الأخلاقي، لأنها جعلت من محاذيره مجرد حبر على ورق.

كانت المعركة الأكبر لوارنر براذرز هي معركة الفيلم الدرامي Baby Face (1933) للنجمة باربرا ستانويك. عن فتاة تستخدم جمالها وإثارتها والرشاوي الجنسية كي تترقي مهنيا واجتماعيا، مستندة على أفكار عدمية لنيتشه، تبرر الخطيئة لأن الحياة بلا معنى، يعرض الفيلم هجاءً للذكورية الهشة والأخلاق المزيفة. ويتماس مع أفلام الواقعية الاجتماعية الأخرى لوارنر، في انتقاده للبورجوازية ومجتمع رجال الأعمال، بتصويرهم مجموعة من الهائجين جنسيا، الذين يخفون حقيقتهم بقشرة من التحضّر والاحترام الزائف.

من فيلم Baby Face

صناعة الكاريزما


في عصر احتكار النجوم السينمائيين لمصلحة شركات معيّنة، أدركت وارنر براذرز أنها لا تملك نجوما يتمتعون بوسامة كبيرة، أو نجمات فائقات الجمال والنعومة، على غرار النجوم والنجمات الذين تملكهم “بارمونت” و”إم.جي.إم”. كان لدى وارنر نجوم متوسطي الوسامة والجمال: همفري بوجارت، جيمس كاجني، بول موني، بيتي ديفيس، وإدوارد روبنسون وآن دفوراك، الذين كانوا أقرب للناس العاديين في هيئتهم، خشنين وحادي الطباع. بمعايير الجمال وقتها لا يصمد هؤلاء أمام نجوم الشركات الأخرى: كاري جرانت، كلارك جيبل، هنري فوندا، مايكل بويل، جاري كوبر، مارلين دايتريك، نورما شيرر، كارول لومبارد، جريتا جاربو، جينجر روجرز، أيرون دون، الخ.

لقطة تجمع النجمين هيمفري بوغارت وجيمس كاجني

ولتعويض ذلك النقص، اتبعت وارنر منهجين: الأول الاعتماد على قصص أكثر جاذبية من النجوم، فصارت القصة هي النجم. وفي سبيل ذلك جمعت أمهر كُتاب القصص والسيناريو في تلك الحقية، مثل جون هوستون، روبرت باكنر، وجيري والد، بجانب الروائي الشهير، الحائز على جائزة نوبل للأدب فيما بعد، ويليام فوكنر. قصص هؤلاء خرجت بإيقاع مشدود وأفكار خاطفة وصادمة، ومدد زمنية بالكاد تتجاوز التسعين دقيقة للفيلم الواحد، وهذا ما يجعل معظم أفلامهم القديمة أكثر صلاحية بالنسبة للمشاهد المعاصر. القاعدة العامة لتلك القصص أن ما يمكن روايته في دقيقة لا ينبغي أن يُحكى في خمس دقائق. لدينا نموذجان من فيلمي Casablanca و Gone with the Wind. الفيلمان لا غبار عليهما باعتبارهما من أعظم الكلاسيكيات. الأول قدمته وارنر، والثاني قدمته “إم.جي.إم”، الأول مدته 100 دقيقة، والثاني 234 دقيقة!

أما المنهج الثاني فهو استخراج الشخصية الجذابة من نجوم متوسطين الجمال، وهو أمر أصعب من الحصول على نجوم يتمتعون بالجمال بالتعريف الموضوعي. قل ما تشاء عن نسبية جمال بيتي ديفيس، لكنها تمتعت بكاريزما على الشاشة، وقدرة على سرقة الكاميرا من الجميع، تفوق كل معاصراتها الأجمل والأكثر أنوثة وجاذبية. وكذلك جيمس كاجني وهيمفري بوجارت، اللذين تحولا لرموز للذكورة ورباطة الجأش والجاذبية الجنسية، بفضل توظيفهم بشكل معيّن في الأفلام. ساهمت وارنر بذلك في تعميم مفهوم “الكاريزما” اجتماعيا، بوصفها أحد أسس الجاذبية الجنسية للرجال والنساء.

الشخصبة الفنية وكاريزما الشاشة كان يصنعها رؤساء الشركات ومديرو الإنتاج، خالقين بذلك فن صناعة النجم. في إحدى الجلسات الخاصة تحدث جاك وارنر مع أحد موظفيه عن النجم هيمفري بوجارت، فقال: “أحب بوجي بشدة. هو رجل ظريف. المشكلة أنه حين يثمل بعد منتصف الليل يظن أنه همفري بوجارت بحق”. جاك هنا كان يلمّح أنه صاحب الفضل في تكوين شخصية همفري بوجارت السينمائية، والتي هي بعيدة عن حقيقة بوجارت!

هوليوود جديدة


المعروف أن حركة هوليوود الجديدة (new hollywood) ظهرت بنهاية الستينيات، وامتدت حتى منتصف السبعينات. متأثرة بأفكار الثورة الجنسية، والثقافة المضادة، والموجات الفنية الطليعية في أوروبا، وصعود مدارس النقد الحداثي، وسقوط الرقابة على أفلام هوليوود.

الفكرتان الأكثر تداولا في التنظيرات حول هذه الموجة السينمائية أنها أولا جاءت لتنهي نظام الاستوديو؛ وثانيا أنها بدأت رسميا من خلال فيلم الجريمة والعصابات الأيقوني Bonnie and Clyde (1967). وهنا المفارقة الكبرى، لأن ذلك الفيلم، الذي يدّعي كثير من النقاد بأنه دشّن الموجة المضادة للأستوديوهات الكبرى، هو بالأساس من إنتاج وتوزيع استوديو وارنر براذرز

نعم، في تلك الفترة تراخت قوة كثير من الاستوديوهات، بعضها انهار تماما مثل “R.K.O”، أحد الخمسة الكبار في الثلاثينيات، والذي انتهى نشاطه فعليا عام 1959. أستوديوهات أخرى بدأت في تقليل إنتاجاتها، لأن عوائدها انكمشت بسبب اختراع التلفزيون. إلا أن بعض الاستوديوهات حافظت على نفوذها، ومنها وارنر براذرز، سواء بالإنتاج المباشر، أو بالتوزيع من خلال أذرع إنتاجية حليفة.

هوليوود الجديدة إذن بدأت بفيلم لوارنر براذرز، ورغم طزاجته لم يكن بعيدا تماما عن هوية الشركة، التي أسست نوعية العصابات، واحتفت بالبطل المضاد منذ الثلاثينيات. في Bonnie and Clyde استغلت وارنر المعطيات الجديدة، وأبرزها سقوط الرقابة، ما أدى لتقديم العنف والجنس بشكل ألهم عديدا من صنّاع الأفلام المحليين والعالميين، وفتح الطريق أمام جيل جديد من السينمائيين، برؤى أكتر طزاجة.

من فيلم Bonnie and Clyde

أنتجت وارنر من الموجة نفسها أفلاما من عيار Cool Hand Luke، وهو أحد أهم الإرهاصات لموجة هوليوود الجديدة. وبالتركيز في محتواه نجده أقرب لريميك للفيلم نفسه الذي قدمته وارنر في الثلاثينيات بعنوان I am Fugitive of a Chain Gang. أيضا قدمت وارنر فيلم Mean Streets، وهو  فيلم عصابات يعتبر النقلة الأولى للمخرج مارتن سكورسيزي، وهناك  Dirty Harry الذي صنع شعبية جارفة لكلينت إيستوود، ويقدّم فيه أيضا شخصية البطل المضاد، الصنف المفضّل لوارنر براذرز، ثم قدمت فيلم Dog Day Afternoon (1975) للمخرج سيدني لوميت وبطولة ألباتشينو، عن رجل يقوم بسطو مسلح على بنك من أجل مساعدة صديقه لإجراء عملية تحول جنسي. كلها مؤشرات تؤكد أن وارنر كانت فاعلة بقوة في الموجة السينمائية التي يفترض بها تحدي الاستوديوهات الكبرى.

وبالتزامن مع ذلك كانت وارنر براذرز تصنع تحديات سينمائية من نوع آخر، بتعاونها مع المخرج ستانلي كوبريك، في مرحلة الأفلام التي صنعت أسطورته السينمائية، وعلى رأسها Clockwork Orange (1972)، الذي أثار جدلا صاخبا، بسبب محتواه العنيف، وما قيل عن إنه ألهم جرائم عنف في الواقع، وخروج بعض المظاهرات التي تطالب بمنعه. لاحظ هنا أن الأمر ليس بجديد على أفلام وارنر براذرز، التي اعتادت تلقي نفس الاتهامات عن أفلام جيمس كاجني في الثلاثينيات مثلا.

الأبطال الخارقون وغير الخارقين


بعكس اعتقاد بازان بأن منظومة العبقرية الإنتاجية انتهت مع نهاية العصر الذهبي، ظلت بعض الشواهد تؤكد على احتفاظ وارنر بكثير من جيناتها التأسيسية في السنوات اللاحقة.

فعلتها أثناء موجة هوليوود الجديدة، حين استمدت حالة التمرد من داخل إرثها نفسه، وفعلتها ثانية مع أفلام “الأبطال الخارقين”، وهي تنتمي لتصنيف فني مستحدث وسيئ السمعة، لكن ما قدمته وارنر في ذلك التصنيف كان بمثابة غسيل سُمعة، أدى لتغيير كبير في نظرة المجتمع الثقافي له.

في رحلة تعملقها، اندمجت وارنر مع بعض الشركات، واستحوذت على بعضها، كان أبرزها شركة DC comics، الشهيرة بقصص الكارتون للشخصيات المحبوبة، باتمان، وسوبرمان، ووندروومان، وفلاش، والجوكر، وروبن، الخ. انتقلت تلك الشخصيات من مجلات الكوميكس للشاشة عددا من المرات دون تأثير كبير، لكن النقلة الحقيقية حدثت عام 1978 مع فيلم Superman، الذي صُنع بحرفية كبيرة واستثنائية بالنسبة لهذه الفترة. رغم أن المشروع بدأ بنظام “المقاولة” الإنتاجية (negative pickup)، أي تكليف شركة إنتاج صغيرة بصناعة الفيلم، مع اتفاق على شراء النسخة النهائية من قبل وارنر وتوزيعها. النجاح التجاري المبهر للفيلم جعل وارنر أكثر انتباها لأهمية عالم DC، وبدأت التخطيط لسلسلة من الإنتاجات المباشرة، كان أبرزها فيلم The Batman (1989)، للمخرج تيم بيرتون، الذي كرر النجاح الكبير.

بدا واضحا أن هناك أسلوبا سينمائيا في مرحلة التشكّل، أسلوبا أبعد عن الأصل الكارتوني، وأقرب للسوداوية والواقعية، التي اشتهرت بها أفلام وارنر براذرز منذ تأسيسها. أخذت أفلام D.C” تنطبع بهذا الأسلوب، حتى وصل لذروته مع المخرج كريستوفر نولان في ثلاثية “فارس الظلام” التي أنتجتها وارنر، والتي خلطت أفكارا سياسية وفلسفية أعمق من المعتاد في ذلك النوع من الأفلام، وقدّم نولان من خلالها رؤية سينمائية مميزة لمدينة “جوثام” الخيالية.

ثم جاء المخرج تود فيليبس بفيلمه Joker ليحدث الضجة السينمائية الأكبر في العقد الأخير، ويحقق رابع أعلى إيرادات في تاريخ وارنر براذرز، مع انتقادات ومخاوف كبيرة من أن يصبح بطل الفيلم، “الشرير الخارق” في أدبيات “D.C”، قدوة للشباب، ويلهم مزيدا من أحداث العنف وإطلاق النار الجماعي.

من فيلم Joker

بالتزامن مع عرض جوكر، سادت موجة موازية من النقد ضد أفلام الكوميكس، افتتحها مارتن سكورسيزي بتصريحات لاذعة ضد إنتاجات شركة مارفل (منافس “D.C”) المملوكة لديزني (منافس وارنر). تلك الانتقادات لم تمس فيلما واحدا فقط من أفلام الكوميكس، بل امتدحته، وهو “جوكر”، ليس لأنه متأثر ببعض أفلام مارتن سكورسيزي، بل لأنه تأثر بالأفلام التي أثّرت في سكورسيزي! بكلمات أخرى ما ورثه الجوكر من عالم “D.C”  أقل بكثير مما ورثه من تقاليد الشركة الأم وارنر براذرز: نقيض البطل، المهمّش، الثائر على المجتمع الظالم، البريء الذي حولته البيئة لمجرم مختل. هذا النموذج “وارنري” بامتياز، يشبه بول موني في Chain Gang، وجيمس كاجني في Roaring Twenties، ووارين بيتي في Bonnie and Clyde، وبول نيومان في Cool Hand Luke.

الشيء الخلّاب حقا في دراسة تاريخ هذا الاستوديو هو الترسيخ لفكرة مفادها أن فضيلة التقاليد يمكنها أن تندمج بسهولة مع فضيلة التمرّد والتغير المستمر. أو أن يصبح فعل التمرّد نفسه هو التقليد، وربما هذا بالضبط ما جعل “المنظومة” عبقرية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.