ماذا تبقّى من “ثقافة المقاومة” في عصر ما بعد الربيع العربي؟

ماذا تبقّى من “ثقافة المقاومة” في عصر ما بعد الربيع العربي؟

يقول الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني إن مفردة “سياسة” في اللغة العربية لا تقابل نظيرتها الإنجليزية ذات الأصل اليوناني politic”، فعلى المستوى السيميولوجي تُشير الكلمة الإنجليزية إلى إدارة شؤون المدينة بما يحقق الصالح العام، أما الكلمة العربية مشتقة من فعل “ساس/يسوس”، فترتبط بسياسة الراعي لرعيته من الأغنام، مستخدما عصاه. وعلى رغم أن التتبُع الفيلولوجي للكلمة العربية لا يمكنه تبرير إعادة استخدامها على نفس الشاكلة كل مرة، مع التطور التاريخي والاجتماعي، من ثم تغيّر مدلولات الكلمات، إلا إن السياسة العربية لم تشهد تغيرا ولا تحولا يُذكر عن مدلول جذرها اللغوي، منذ عهود استخدامه للمرة الأولى. فعقب انهيار الإمبراطورية العثمانية عام 1924، تشكّلت حركات التحرر الوطني العربية، وعملت على استهداف الاحتلال الأجنبي، وأخذت في تبني خطابات الوحدة والعروبة والتقدّم، مُشكلةً بذلك لاهوتا سياسيا جديدا، تضمّ عناصره مكونات اشتراكية، نتيجة تأثير الاتحاد السوفيتي؛ وعناصر قومية عروبية، مماثلة للخطابات الفاشية الإيطالية؛ وعناصر إسلامية تحاول استحضار الروح العربية من قلب التراث الإسلامي.

احتوى هذا اللاهوت السياسي الجديد، بعناصره المتنافرة والمُلفقة، على فكرة مركزية، وهي مناهضة العدو الإمبريالي ووكلائه من الكومبرادوريين، وتحالفاتهم في المنطقة العربية، من ثم إمكانية تحقيق وحدة عربية شاملة. لكن على مدار النصف الثاني من القرن العشرين، مُنيت هذه الأيديولوجيا بكثير من العقبات والهزائم، وصارعت منظماتها وتكتلاتها بعضها الآخر، وراهنت على الانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية، للحد الذي تمنّت فيه الشعوب العربية الخلاص من كابوس مشروع التحرر القومي العربي هذا.

بعد هزيمة عام 1967، وانتهاء أسطورة الناصرية، رفعت تنظيمات “المقاومة”، خاصة الفلسطينية، لواء حركة التحرّر العربية، وتبنّت أفكارا كانت سائدة بشدة في عصرها، بتأثير الثورة الصينية والحركات اليسارية المسلّحة في أميركا اللاتينية، مثل “حرب التحرير الشعبية”، وحرب الأنصار غير المرتبطة بأجهزة الدولة، لتُأسّس بالتدريج ما سمي “ثقافة المقاومة”، التي، كما هو مفترض، لا يجب أن تكون عقيدة دولة فحسب، بل أفكارا وميولا وأنماط حياة يتبنّاها الناس في كل تفاصيلهم اليومية، باعتبارهم “حاضنة” المقاومة، ومصدرا لتوريد مقاتليها، حتى لو انهارت الدول أو سقطت، أو ضربها العجز العسكري والسياسي. 

انطلق الربيع العربي في تونس ومصر، ثم اليمن وسوريا وليبيا، من مظاهراتٍ عفوية، لكنها شملت جميع الفئات الشعبية والتيارات السياسة، وفي كل تلك البلدان طالبت الجموع بالخلاص من الديكتاتوريات والفساد، وإقامة أنظمة ديمقراطية، يصير فيها الفرد مواطنا وليس رعية، فكانت خرقا لمفهوم “السياسة” العربي، وأقرب للـ”politic”. تحدث كثيرون آنذاك عن “ّضياع بوصلة” النضال العربي في “الربيع”، وتراجع “ثقافة المقاومة”. بل أن بعض القوميين والعروبيين تحدثوا عن مؤامرة “صهيوأميركية” تُحاك ضد الجماهير العربية فاقدة الأهلية، ومنهم هشام غُصيب، الذي قال: “أرى أن الثورة في ليبيا وسوريا كانت بالأساس مُفبركة”، وهي الفكرة نفسها التي سوف يُعبّر عنها الكاتب الأردني ناهض حتر، في كتابه “الربيع المُزيّف”، والذي أكد فيه أن الثورات العربية انحصرت بين طرفين، أحدهما مُضلل والأخر عدو، مع استثناء سوريا طبعا.

“ثقافة مقاومة” إذن متعالية عن البشر ومطالبهم، وإذا حادوا عنها فهم مغرر بهم. كيف ظهر وتطوّر مفهوم كهذا؟ وكيف نظر إلى الثورات؟ وما الذي تبقّى منه في عصر ما بعد الربيع العربي، أي بعد كل الصراعات والمآسي التي عرفتها المنطقة، وشاركت التنظيمات المتبنّية لـ”ثقافة المقاومة” ببعض أسوأ فصولها؟

ضد المؤامرة: من “الرسالة الخالدة” إلى “تجاوز آثار النكسة”

ترجع نشأة حركات التحرر العربية، وتحوّلها من مجرد أفكار وتنظيرات إلى منظمات عاملة، إلى أربعينات القرن الماضي. فقد تأسس “حزب البعث العربي” في سوريا عام 1947، على يد كل من ميشيل عفلق وصلاح البيطار وزكي الأرسوزي، تحت شعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، وهو شعار ذي رنين يذكّر بالحركات الفاشية الأوروبية. كان الحزب في البداية يهدف إلى توحيد الدول العربية، وتحريرها من القيود الاستعمارية، ثم أضاف “الاشتراكية” إلى شعاراته، لدى اندماجه مع “الحزب العربي الاشتراكي” بقيادة أكرم حوراني، لينشأ في النهاية “حزب البعث العربي الاشتراكي” عام 1952. ومع كارثة النكبة، وتصدّع الواقع العربي تحت وطأة قيام دولة إسرائيل، تأسست “حركة القوميين العرب”،  لتوحيد كل التنظيمات القومية، وجمع المجتمعات العربية على فكرة واحدة، وهي طرد العدو الإسرائيلي، ثم إنشاء مجتمع اشتراكي ديموقراطي موحّد. وفي مصر تشكّل تنظيم الضباط الأحرار، بقيادة جمال عبد الناصر، والذي سينفّذ في العام 1952 انقلابه على الحكم الملكي المدعوم من الإنجليز، ويؤسس الجمهورية المصرية الأولى، بعد خروج الاحتلال الإنجليزي.

شهد عقد الخمسينات شكلا من اشكال التوسّع في قاعدة الحركات التحررية، فحزب البعث كان قد توسّع في العراق والأردن ولبنان، وبدأ منذ تلك الفترة التوجّه  لإجراء وحدة بين مصر وسوريا والعراق. وهو ما تحقق في “الجمهورية العربية المتحدة”، التي ضمّت سوريا ومصر عام 1958، تحت توجيه وإدارة عبد الناصر. وهي لحظة بداية الاختلافات، فالحلف الجديد بين مصر وسوريا أدى لبروز نزعة الزعامة لدى عبد الناصر على الأرض السورية، دون أي ترابط اقتصادي واجتماعي حقيقي بين البلدين؛ وكذلك حل الأحزاب السورية، ومنها حزب البعث نفسه. وفي الوقت نفسه ضغط البعثيون في العراق على حكومة عبد الكريم قاسم؛ وحاول الناصريون والقوميون والبعثيون في لبنان فرض واقع الوحدة على حكومة الرئيس كميل شمعون آنذاك. كل هذه الأحداث أدت في النهاية إلى الصدامات الطائفية المسلّحة في لبنان عام 1958، وسقوط الوحدة بين سوريا ومصر عام 1961، وانقلاب عبد السلام عارف في العراق عام 1963. 

انتهى عقد الخمسينات، ذي الزخم الكبير في نشاط التنظيمات القومية العربية، ليبدأ عقد الستينيات، وهو عقد الشقاق والخلاف، فبانتهاء الوحدة بين مصر وسوريا، وتفضيل عبد الناصر التركيز على القُطر المصري، وبناء دولة وبيروقراطية جديدة، وتنفيذ خطط خمسية على الطراز السوفيتي، انقلب عليه البعث في سوريا وفي العراق، وهنا ظهرت الفجوة الكبرى في فكر هذا التيار، فالمثقفون القوميين كانوا معزولين عن قطاعات جماهيرية كبيرة، وهو ما جعلهم أقرب للعسكريين، وأكثر إيمانا بإمكانية قلب المعادلة السياسية والاجتماعية بأدوات الحرب والعسكرية. ليحكم البعث العراق، بعد الإطاحة بحكم الشيوعيين المتحالفين مع عبد الكريم قاسم؛ وتصعد في سورية دائرة صلاح جديد، ومجموعته من الضباط البعثيين الصغار، الذين عملوا منذ البداية على الخلاص من القيادة التاريخية لحزب البعث، ممثلة في عفلق وبيطار، من ثم تولية أنفسهم إدارة الجمهورية والحزب.

اختتم عقد الستينات بالنكسة 1967، وباحتلال إسرائيل لسيناء المصرية والجولان السورية والضفة الغربية الفلسطينية، وهي اللحظة الكاشفة لحركات التحرر الوطني العربية، التي اعتمدت بالأساس على شعارات القومية والوحدة والعروبة، بينما خلت مشاريعها من برامج اقتصادية او اجتماعية حقيقية، ونزعت على المستوى السياسي إلى التقرّب من العسكريين وتوليتهم السلطة، وتقريب الحلفاء أكثر من المؤمنين بأي نظرية حقيقية، واعتماد الانقلاب العسكري وسيلة أسرع لتحقيق الأهداف من الإيمان بالديموقراطية التمثيلية. تلك هي اللحظة التي افتتحت الفصل الثاني من تاريخ حركة التحرر الوطني: مرحلة المقاومة.

يصف المفكر والكاتب المغربي عبد الله العروي الحالة العربية بعد الهزيمة في كتابه “الأيدولوجيا العربية المعاصرة” بالقول: “قد يئست من أن أرى المؤلفين العرب يكفّون يوماً عن الثرثرة، ويعدلون عن غرورهم المُفرط. كنت قد مللت التشدّق بخاصيات العرب، وسئمت الكلام عن الاشتراكية العربية والفلسفة العربية والإنسان العربي ورسالة العرب الخالدة، كما لو كنا نبدع كل يوم فكرة جديدة ونظاما جديدا، مع أنّ الأمر لا يتعدّى ضم كل عربي إلى ما هو معروف ومُبْتَذَل عند جميع سكان الدنيا… فعمّ الغرور، وصدعت الدنيا بثرثرة أنصاف المثقفين، ولجأ إلى الصمت كل من بقي له نُزُرٌ من استقامة الفكر والتطلّع إلى إنتاج جدّيٍ ومجدٍ”.

وعلى الرغم من حدث الهزيمة الكارثية، لم يتساءل مفكرو التيار القومي العربي عن السبب مباشرةً، وانما لجأوا لعدتهم الأبسط دائما، وهي المؤامرة الخارجية، أو عدم استعداد الجماهير العربية وتسلّحها بالوعي الكافي لمقاومة الاستعمار والوحدة. هذا الصخب الديماغوجي والديباجات التقليدية، عن الكادحين وفك الارتباط بالرأسمالية العالمية والثورة الثقافية العربية، لم يُعر الانتباه لكل تلك الانقلابات العسكرية والفوضى السياسية والفشل في بناء دولة حديثة من الأساس.

مثّلت العقود الثلاثة الأخيرة في القرن العشرين تفكك شرعية تلك الأيدولوجيات والخطابات، وظهور فشلها بعد تحولها لأنظمة شديدة القهر والسلطوية، متعاونة مع أعداء للقومية العربية، فمحاولة التقارب بين البعث السوري والعراقي في زمن عبد السلام عارف انتهت بعداء شديد بين حافظ الأسد وصدام حسين، ليصل إلى حد الحروب بالوكالة بين البلدين في لبنان، ودعم الأسد لإيران في الحرب العراقية الإيرانية. أما الطامة الكبرى للمشروع القومي العربي، المرتبط بالدول وأجهزتها، فكان خروج مصر منه في عهد السادات، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد.

من جهة أخرى تقدّم مشروع “المقاومة” غير النظامية بشدة في السبعينيات، خاصة مع ترسّخ قوة منظمة التحرير الفلسطينية، وزيادة حركة القوميين العرب لنشاطاتها، من الخليج العربي وحتى أوروبا، عبر عمليات الجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين، وتحالف الأولى مع عدد من التنظيمات اليسارية المتطرفة حول العالم، مثل الجيش الأحمر الياباني والألماني، والألوية الحمراء الإيطالية، والجماعات المسلّحة في أميركا اللاتينية. إلا أن “المقاومة” غرقت في أوحال الصراعات العربية الطائفية والفئوية، وخاصة في لبنان، إحدى أهم قواعدها. وتدريجيا حلّ المقاتلون الإسلاميون، المدعومون من سوريا وإيران، محل المقاتلين اليساريين والقوميين.

انهار الاتحاد السوفيتي عام 1991، وفقدت الحركات القومية الاشتراكية غطاءها الأيديولوجي، وهو ما تبعه اقتحام دبابات البعث العراقي لحدود دولة عربية أخرى هي الكويت، ثم اندلاع حرب الخليج الثانية، وخلالها ظهر صدام حسين على التلفاز ليخبر الشعب العراقي بأن أيديولوجية حزب البعث هي الإسلام لا العلمانية! في حين صار حزب الله هو “المقاومة” الفعلية الوحيدة في لبنان بعد اتفاق الطائف. تأسلم التحرر الوطني العربي و”ثقافة المقاومة”، إلا أن هذا التأسلم حصل بسلاسة، وذلك لأن الإسلاموية كانت متضمنة في عمق ذلك “التحرر”. 

التحرر الوطني العربي بمرحلتيه: النظامية، المرتبطة بالدول؛ وغير النظامية المرتبطة بـ”ثقافة المقاومة”، لم يعبأ يوما بإدارة فعلية لـ”شؤون المدينة” ومصالحها العامة؛ الأنظمة القومية الديكتاتورية في مصر وسوريا والعراق وليبيا حلّت الأحزاب وقمعت الحريات وسيطرت على الإعلام، وارتكبت انتهاكات ومجازر بحق شعوبها، تفوق ما ارتكبه الاستعمار نفسه. أما “المقاومة” فبدأت بمحاولة تحويل العاصمة الأردنية عمّان إلى “هانوي العرب” قبل أيلول الأسود، رافعة الأعلام الحمراء على المساجد والكنائس، لتنتهي بمليشيات طائفية في لبنان، وحركات متطرفة في الضفة الغربية وغزة، صحّرت كل أنواع الثقافة، بما فيها “ثقافة المقاومة” نفسها.  

الربيع المُزيف: إعادة تدوير “التحرر الوطني”

بنهاية القرن العشرين، وافلاس أنظمة التحرر الوطني وحركات المقاومة، وفقدانها لعدّتها الخطابية والأيدولوجية اليسارية، ظهرت مشاريع أخرى: في مصر تمدد الإخوان المسلمون، وسيطروا على النقابات، وحصدوا عددا من المقاعد في البرلمان، وفي سوريا تحالف بشار الأسد مع حزب الله وملالي إيران من أجل توفير داعمين سياسيين جُدد؛ وفي فلسطين سيطرت حركة حماس على قطاع غزة، بعد فوزها بالانتخابات، وهي النسخة الفلسطينية من الإخوان المسلمين.

تلك هي الصورة المسيطرة على المشهد السياسي ما قبل الربيع العربي مباشرة، وهي لم تكن صورة سارة حتى من المنظور القومي واليساري التقليدي، إلا أن كثيرا من مفكري “المقاومة” وجدوا أنها أفضل من ربيع تحرّر من متطلبات “السياسة” العربية. 

كتب ناهض حتر، وهو ماركسي قومي أردني، كتابه “ربيع زائف أو نقد الثورات العربية من منظور حركة التحرر الوطني”، وفيه يحاول تفكيك مشهد انهزام ثورات الربيع من موقعه السياسي، فهو يرى أن الجماهير العربية قد وقعت فريسة بين اليسار الليبرالي واليمين الإسلامي الرجعي، فاليسار الليبرالي يُطالب بشكل من اشكال الديموقراطية التمثيلية، التي سوف يهزمه فيها الإسلاميون بمنتهى السهولة وعن طريق الصندوق، وعلى الطرف الأخر يوجد الإسلاميون وتحالفاتهم الإقليمية والدولية، التي سوف تحتم عليهم الاتجاه ناحية اللبرلة الثقافية والاندماج في السوق العالمي، والسماح بحركة رؤوس الأموال والفوائض، وهو ما سوف يضعهم في تناقض شرعي بخصوص العلاقات الربوية، وأيضا سيدفعهم للتطبيع مع إسرائيل.

وفي الشأن السوري يتخذ حتر موقفا متطابقا مع موقف النظام البعثي، معتبرا أن قمعه للثورة السورية هو حرب ضد قوى الرجعية والإرهاب الوهابي، المدعوم من الممالك الخليجية بأموال البترودولار، ومن تركيا الإخوانية، وهي المؤامرة التي لم تنجح حتى الآن في الخلاص من الدولة السورية القوية، التي تخوض معركتها دفاعا عن مستقبل التقدّم العالمي. يعيب حتر على النظام السوري فقط أنه قبل الحراك الشعبي مباشرة كان قد بدأ يتّجه ناحية الاندماج في الاقتصاد العالمي، الأمر الذي دفع الجماهير إلى الخروج ضده في 2011، بسبب التضخّم والبطالة.

وفي مقابل ما يعتبره الربيع العربي الليبرالي الأميركي، يقترح حتّر بديلا أخر، وهو “إعادة بناء الذات في مشروع تنموي وطني، يحقق الخبز والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والحرية، في ربيع مختلف، عماده تجديد حركة التحرر الوطني”. ويقترح أن يكون في قلب هذا المشروع الجديد/القديم الصراع مع إسرائيل، بوصفه قضية مركزية يجتمع عليها المشرق العربي؛ والتالي في الأهمية اقتراح مشروع تنموي اجتماعي “للتحرر من شروط التخلّف الداخلية، المعرقلة لنمو قوى الإنتاج والتشغيل”.

باختصار يُحاول ناهض حتر إعادة تدوير مشروع التحرر العربي السابق كما هو، وباستخدام المصطلحات والأدوات والعدّة المعرفية نفسها، وكأن شيئا لم يحدث في الخمسين سنة الماضية. ويسخر من فشل الربيع العربي بوصفه ربيعا أميركيا.

بالنسبة لحتر، وكثير ممن تبقى من مثقفي التحرر الوطني و”المقاومة”، فإن حزب الله ونظام الملالي في إيران مقاومة، وجزء من ممكنات التحرر، بوصفهما حليفا مهما للنظام السوري ضد الحلف الأميركي الاسرائيلي، وليس قوى رجعية دينية كما الإخوان المسلمين. ولعل هذا هو التناقض الفكري الأساسي لـ”ثقافة المقاومة”، فمقاومة العدو أهم من قتل نص مليون سوري بالبراميل  المتفجرة.

أحزاب انقلابية: متى فقد “التحرر الوطني” العربي بوصلته؟

تتبع تاريخ تيار التحرر الوطني والمقاومة، وتجاربه، وطريقته في النقد، وأولوياته، تظهر بوضوح أنه النموذج المعاصر والحداثي لمفهوم “السياسة” العربي التراثي. لا تريد السياسة العربية أن ترى في البشر إلا رعية يجب سياستها، ولا تضع للإنسان أي وزن أو أهمية في مقابل حتميات “الأمة”. يجعل هذا الناس “رعايا” للمقاومة، وليس “مواطنين” في متحد سياسي مدني، يسعون لتطوير حياتهم، وتحقيق نوع من الإجماع الديمقراطي حول ما يعتبرونه “المصلحة العامة”. نظام حافظ الأسد حاصر مدينة حماة ودمرها براجمات الصواريخ عند اول بادرة تمرد؛ وفي العراق استهدف نظام صدام حسين الكرد بالأسلحة الكيماوية؛ وفي مصر قامت “مراكز القوى” بفرض حالة من الرعب السياسي والأمني، لاستهداف أي مخالفين محتملين للنظام الناصري. لا معنى للبشر إلا كونهم وقودا للقضية، أو محطات على “طريق القدس”.

كل هذا جعل “التحرر الوطني” العربي لا يعرف كيف يُنشئ دولة حديثة، فأدبيات البعث والقوميين العرب لم تحو تنظيرات دقيقة لإمكانية بناء دولة علمانية مدنية، تشارك فيها تجمّعات السكان سياسيا، وتكرّس فكرة المواطنية على الضد من الطائفيات والعشائريات القديمة. وفي المقابل فهي لا تعرف إلا تكريس ظاهرة عبادة الزعيم الأوحد، واحتكار الأجهزة الأمنية للممارسة السياسية. لم يجد حزب البعث حرجا في بداية تأسيسه بوصف نفسه بـ”الحزب الانقلابي”. فالتغيير لا يأتي من داخل المدينة، بل يُفرض عليها، وهذا ما يبعد التحرر الوطني تماما عن مفهوم الـ”politic”

من الملحوظ أيضا في ذلك التيار وعيه العُصابي المؤامراتي، الذي يرى في الغرب متآمرا أبديا على العرب والإسلام، وأن العالم بأسره يحيك المؤامرات، إلى الدرجة التي تستحيل معها الممارسة السياسية الحقيقية، ولا تنتج إلا التذمّر الثقافوي والهوياتي المنعزل عن الواقع. وهو ما برع به الإسلاميون فيما بعد، وهم الورثة البارون لـ”التحرر الوطني” العربي.

لم يفقد هذا المشروع بوصلته على مر الزمن، بل بالأحرى وُلد مُبتسرا وفاقدا للوجهة، لأنه افتقر للنُضج النظري، والبناء العلمي الاقتصادي والسياسي، وحتى الأخلاقي الحقيقي. تلك الوجهة المفقودة هي ما تحلل من أشباحها الثوار العرب في مصر وتونس، وخرج ضدها السوريون، وإذا لم تجن ثورات العرب مكاسب سياسية واضحة، فيكفيها أنها دفنت الجثة المتعفّنة لمشروع التحرر الوطني العربي.

في عصر “ما بعد الربيع” باتت الأمور أوضح، ما زالت تنظيمات “المقاومة” موجودة، ولكنها فقدت كل ادعاء، أو أي قدرة على الهيمنة الأيديولوجية. بات من النادر في مصر أو المغرب الكبير مثلا أن تجد من يعتبر حسن نصر الله مثلا قائد المقاومة، رغم شعبيته الكبيرة في تلك الدول مطلع الألفية. فالحقيقة باتت واضحة للأغلبية: لا يمكن لميليشيات طائفية؛ تنظيمات مسلّحة تتاجر بالمخدرات؛ جماعات إسلامية متطرفة؛ وبقايا هزلية للقومية واليسار، أن تنتج ما هو أكثر من المجازر والخراب الاجتماعي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.