ما بعد الألتراس: هل سيجد المستثمرون مشجعين “صالحين” في مصر؟

ما بعد الألتراس: هل سيجد المستثمرون مشجعين “صالحين” في مصر؟

 خرج رئيس نادي الزمالك، المستشار مرتضى منصور، في شهر نيسان/إبريل 2023، وهاجم مجموعة من المشجعين، حضرت مباراة الزمالك أمام فريق “المريخ” السوداني، مرتدية قمصانا سوداء، لتكوّن دائرة على شكل “إيموجي غاضب”، احتجاجا على وضع الفريق مؤخرا.

وأعلن منصور منع الجماهير، التي ارتدت القمصان السوداء خلال المباراة، من حضور المباريات القادمة للفريق الأبيض، قالا في مؤتمر صحفي: “أي مشجّع لن يرتدي قميص الزمالك لن يدخل إلى المدرّج مرة أخرى، الزمالك يرتدي الأبيض مع خطّين أحمرين، كل من يريد أن يدعمنا مرحب به، ولكن ليس باللون الأسود. أولئك الذين ذهبوا إلى مباراة المريخ باللباس الأسود لن يسمح لهم بالحضور مرة أخرى”.

جمهور الزمالك على هيئة “ايموجي الغضب”

الجماهير، التي حرمها منصور من حضور المباريات، مختارة بعناية من قِبل شركة تذكرتي، وهي الشركة التي أنشأتها الدولة المصرية لتنظيم عملية بيع وشراء تذاكر المباريات، ويرى كثير من المتابعين للشأن الرياضي أن الهدف الأساسي من إنشائها هو السيطرة على فئة عريضة من الجماهير، كانت فاعلا رئيسيا في الأحداث الاجتماعية والسياسية في العقد الأخير.

منذ عدة سنوات سعت الدولة المصرية لإحكام قبضتها على أحد البؤر الرئيسية، التي سببت للأنظمة المتعاقبة متاعب عدة، وهي ملاعب كرة القدم وجمهورها. أتى ذلك عن طريق حل روابط “الألتراس”، التي لعبت دورا رئيسيا في الحراك السياسي، منذ بداية ثورة يناير، لتُحلّ محلها طبقة أكثر استهلاكا، وأقلّ إثارة للشغب. وهو جزء من عملية عالمية، يسميها بعض علماء الاجتماع “برجزة مشجعي كرة القدم”.

مؤخرا، لم يعد من الغريب أن نشاهد الجمهور يفعل كل شيء إلا التشجيع، يأكل ويشرب ويشتري المنتجات المتوافرة داخل الملاعب، يتبادل الأحاديث الجانبية، ويبتسم للكاميرات، هذا إذا سمحت له الدولة بالحضور من الأساس. الجميع داخل الملعب في نزهة، ساعتان أو أكثر قليلا، تخرج فيها الجماهير للترويح عن نفسها. إذا فاز فريقها فهذا إيجابي، وإذا خسر فلا غضاضة في الأمر. لم يكن الأمر على هذا المنوال أثناء تواجد الألتراس في المدرجات. هل نجحت السلطة في مصر بالقضاء تماما على الألتراس، بوصفهم ظاهرة اجتماعية؟ وبعيدا عن القضايا السياسية البحتة: هل يمكن أن لكرة القدم المصرية نفسها أن تستمر بعد أن فقدت جمهورها الأكثر إخلاصا؟

قومية الألتراس: التنظيم الأيديولوجي الثوري الوحيد؟

قبل العام 2007، كانت العلاقة بين جماهير كرة القدم في مصر والأجهزة الأمنية سلسة للغاية. المشجعون ينقسمون ما بين مشجع تقليدي، لا تربطه أية صلة بجماعات منظّمة لدعم الأندية؛ واتحادات المشجعين غير المؤدلجة، والتي كانت تُشكَّلها في الأساس إدارات الأندية، ويحصل أعضاءها على امتيازات، مثل تخفيض سعر تذاكر المباريات. وهكذا لم يشكّل المشجعون فيما مضى أي تهديد لنظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، أو الشرطة. ما الذي حدث بعد ذلك، وأدى إلى تدهور العلاقة بين روابط المشجعين والدولة؟

في عام 2007، سعى بعض الشباب الأصغر سنا في مجموعات المشجعين لإضفاء بعد التحديثات على طرق التشجيع التقليدية، متأثرين بموجة إنشاء روابط الألتراس في أندية شمال أفريقيا، وبالتحديد تونس، حيث تأسست أولى تلك الروابط عربيا، وهي رابطة ألتراس نادي الترجي.

سرعان ما تبنّت تلك الروابط أشكالا جديدة في التشجيع، مثل الهوية أو القومية الرياضية، أي اعتبار الانتماء للنادي أكثر من مجرد شغف بكرة القدم، بل أقرب للرابطة القومية. وأصبح الألتراس أكثر انفتاحا في النظر لكرة القدم، والرياضة عامة، من منظور اجتماعي وسياسي، لم يكن موجودا بهذه الجرأة من قبل.

وفقا لمحمد جمال، أحد مؤسسي ألتراس نادي الزمالك “وايت نايتس”، في كتابه “الألتراس”، فإن جوهر أفكار روابط الألتراس يتجلى في تصوّر أعضائها عن أنفسهم، إذ يعتقدون أن ما يُقدمونه أسلوب حياة، تتم ممارسته عن طريق أشكال التشجيع التي يتبنّونها، فيتحوّل تشجيع كياناتهم المفضّلة إلى مفهوم أكبر من الرياضة وهو تحقيق الذات، ولا يقتصر جوهر تشجيعهم على الترفيه والاستمتاع باللعبة، بل يدور داخل سياقات اجتماعية/نفسية، مستعدة طوال الوقت للوقوف بوجه ركود عادات وأعراف المجتمع، وبالتالي يبذل المشجعون كل جهد ممكن من أجل استمرار روابطهم، التي تُمثل لهم ذواتهم الجمعية في الأساس، وهو ما يفسّر عدم انتظار الألتراس لأي مقابل نظير الدعم المطلق لفرقهم، فهم يشجعونها تشجيعا مجردا، فلا يهتمون حتى بتحقيق البطولات من عدمها، ويستمرون بالولاء والإخلاص، محافظين على الوتيرة نفسها في التشجيع، بغض النظر عن الفوز أو الخسارة.

أثارت مجموعات الألتراس ضغينة الأجهزة الأمنية، واعتبرتها تهديدا للنظام داخل الملاعب وخارجها، وهو ما جعلها تمارس على أعضائها ضغوطات أمنية، مثل منعهم من اصطحاب الألعاب النارية داخل الملاعب، واعتقال كل من يخالف ذلك، وهو ما أدى إلى اشتباك المشجعين مع قوات الأمن.

حاول الألتراس مساندة فرقهم بكل الطرق الممكنة، رافضين أي تدخّل من قوات الأمن في تحديد الإطار الذي ينبغي عليهم اتباعه في التشجيع، ومؤكدين على استقلالهم تجاه أية تعليمات أمنية أو اجتماعية، أو حتى صادرة من إدارة النوادي.

ظلت علاقة الكر والفر هذه بين الألتراس وقوات الأمن ضمن إطار الخلاف على طريقة التشجيع، لكنها لم تمتد إلى المجال العام حتى اندلاع ثورة يناير، التي مثّلت نقطة انطلاق جديدة لهؤلاء الشباب. كان الألتراس الجماعة المنظّمة الأساسية، وربما الوحيدة، التي شاركت في الثورة، فعوّضت نسبيا عن ضعف أو غياب التنظيمات السياسية في مصر.

 خاضت روابط الألتراس تجارب أكثر احتكاكا بالمجال العام مع تقدّم الثورة. التي يمكن اعتبارها التكوين النفسي الثاني لأعضائها بعد تجربتهم في الملاعب، ففي خضمّها أعادوا اكتشاف وتعريف أنفسهم، ووجدوا فيها مساحة لتجريب ما يعتنقونه من أفكار، مثل الجماعية والقومية والانتماء. وبهذا يمكن القول إن الألتراس لم يكونوا فقط القوة المنظمة الأولى في الثورة فحسب، بل كذلك إحدى أهم القوى الأيديولوجية، وأكثرها فعالية.

في الثامن والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011، أو يوم “جمعة الغضب”، الذي يعتبره كثيرون الانطلاقة الحقيقية للثورة، لعبت روابط الألتراس دورا شديد الفعالية، واستفاد الحراك الثوري من القدرة التنظيمية لشبابها، وخبرتهم السابقة بالاشتباك مع قوات الأمن المركزي. فقد اتقنوا استراتيجيات الهجوم والدفاع، التي ساعدت في تقليل الخسائر؛ وعرفوا كيف يحافظون على المقاومة النشطة، وهكذا ثبت أن تاريخهم في المواجهة المستمرة مع وزارة الداخلية المصرية كان عملا ثوريا استثنائيا. فرأس حربة الثورة المتمرّس في الصدام مع السلطة لم يكن جماعة الإخوان المسلمين، أو حركة شباب 6 أبريل، بل الألتراس.

بدأ الانخراط السياسي الواعي للألتراس بالثورة خلال اشتباكات تشرين الثاني/نوفمبر 2011 في شارع محمد محمود بالقاهرة. وازداد هذا الانخراط أهمية عندما حشدوا للمطالبة بالقصاص لضحايا مذبحة بورسعيد، التي قُتل فيها أكثر من 74 شابا من ألتراس النادي الأهلي، تحت أنظار الشرطة. بالنظر إلى هذه القدرة على التعبئة، اعتقد عديد من المحللين أن الألتراس أصبحوا قوة سياسية، على الرغم من أنهم أنفسهم لم يقدّموا مثل هذا الادعاء.

يبدو أن مصر شهدت تطورا طبيعيا لصراع حتمي بين طرفين، يتّبعان نموذجين مختلفين للحياة: نموذج الركود، الذي ظل نظام مبارك معتمدا عليه طوال ثلاثين عاما، وطال أثره الحياة الاجتماعية والقوى السياسية والنشاط الثقافي في البلد؛ مقابل نموذج الثورة، الذي مثّل فئات شابة، سعت للتحرر من قيود الأعراف الاجتماعية والمؤسسية، وعملت على خلق نوع من الفوضى المتعمّدة، التي لعبت دورا في إيقاظ ما يسمى “الطبقة الوسطى”، المتمسّكة بأسطورة الاستقرار. وهكذا كان هناك إيقاعان اجتماعيان في مصر، أحدهما خافت لدرجة أنه يفشل في إدراك هشاشته وركوده وانقراضه التدريجي؛ والآخر شاب جدا ومليء بالحيوية، لدرجة أنه يفشل في إدراك العواقب السياسية لأفعاله. 

كانت ثورة يناير في جوهرها انقلابا سريعا وجريئا ضد إيقاع حياة جامد وخافت. صحيح أن السياسات الاقتصادية الفاشلة لنظام مبارك، والقمع من قبل قوات الشرطة، كانا السببين الأبرز للانتفاضة الشعبية من منظور سياسي، لكن الثورة احتاجت أيضا إلى روح مغامرة جريئة، تتحدى الأعراف الاجتماعية، لترجمة مشاعر وتوقعات المتضررين من النظام السياسي القائم.  وقد كانت روابط الألتراس أحد أهم الأطراف التي خاضت المغامرة.

“تحديث” الكرة: السعي وراء الجمهور البرجوازي

في السادس عشر من أيار/ مايو 2018، أعلنت إدارة رابطة “ألتراس أهلاوي” حلّ نفسها، وقام أعضاؤها بإحراق علمهم الخاص، وهو ما يعني انتهاء الرابطة في عرف الألتراس عالميا. بعدها بقرابة أسبوعين، وتحديدا في الثامن والعشرين من الشهر ذاته، أعلنت إدارة رابطة “وايت نايتس”، أي ألتراس نادي الزمالك، حلّ الرابطة أيضا، لينتهي دور تلك هذه الروابط في المشهد الكروي تماما، وبالتبعية في المشهد السياسي، وهو ما أرادته الدولة المصرية.

بالرغم من حل الروابط، لم تسمح الدولة بعودة المشجعين إلى الملاعب بشكل كامل، بل لاتزال مباريات الدوري المحلي تُلعب خلف الأبواب المغلقة، بدون جمهور. وتسعى الدولة، في المباريات القليلة التي تسمح فيها بحضور الجماهير إلى الملاعب، إلى انتقاء نوعية تلك الجماهير، وذلك عن طريق زيادة أسعار تذاكر المباريات، وبالتالي ضمان جمهور مهذّب، يأبى الصدام مع أي شيء. أي أنها تحاول تدجين الجمهور مرة أخرى.

ما تنتهجه الدولة المصرية في تسليع التشجيع، ليس بالأمر الجديد على كرة القدم، ولا على الرياضة بالعموم. ففي إنجلترا مثلا، وهي البلد الذي كان يحوي أعرق روابط المشجّعين، وأشدهم شغبا، باتت الملاعب أكثر تهذيبا بدورها، إذ نرى مدرّجات منظمة، وجمهورا منمّقا لا يخرج عن السياق، إلا في مناسبات قليلة جدا. وهو ما يُرجعه عالما الاجتماع لان تايلور وتشاس كرتشر إلى خطة مدروسة، وضعت من جانب المسؤولين عن إدارة كرة القدم، للسعي وراء جمهور أكثر ثراء واستهلاكا، بعد أن كان الجمهور المُسيطر على المدرجات الإنجليزية، في ستينات القرن الماضي، جمهور الطبقة العاملة، الذي كان يرى أنه لا يلاقي التقدير الاجتماعي الكافي، فيبحث عن تعويض ذلك في الملاعب من خلال الإحساس بنشوة النصر، التي لا يعرفها في الحياة اليومية، وهو ما ولّد الشغب في المدرجات.

هكذا صارت برجزة جمهور كرة القدم السياسة الأساسية للإدارات الكروية، أي إبعاد الطبقة العاملة لحساب الطبقة البرجوزاية، التي تُشكل مفاهيم الطاعة والعائلة والاستهلاك جزءا كبير من ثقافتها. وبالتالي فهي تهتم بمشاهدة مباريات ممتعة فنيا، وقضاء وقت لطيف في المدرجات، واستهلاك ما هو مسموح من منتجات، وبالطبع القليل جدا من الكحول.

تغيير الجمهور أدى لتغيير طبيعة اللعبة نفسها، إذ صارت المباريات أقرب لعروض مبهرة؛ ومشاهير اللاعبين أقرب لنجوم الإعلانات. لقد نجح تسليع كرة القدم في معظم أرجاء العالم، ولكن هل ينفع فعلا في بلد مثل مصر؟

عصر “المستثمرين”: هل يوجد جمهور برجوازي في مصر؟

بالرغم من كل التردي الذي تعانيه جماهيرية كرة القدم المصرية، وتعانيه كرة القدم نفسها، لا تزال وزارة الشباب والرياضة المصرية تعتقد أن الميدان الرياضي مفتوح على مصرعيه أمام المستثمرين.

يقول وزير الرياضة، الدكتور أشرف صبحي، في تصريحات سابقة عن الاستثمار الرياضي: “نحن نرحّب بالاستثمار الرياضي في مصر وتوفير المناخ له، أهلا وسهلا بكل المستثمرين، نحن بلد كبير ولدينا استثمارات داخلية ضخمة، لكن في النهاية هذه قواعد تُدار بشكل مُحكم”.

لكن حتى في التجربة الوحيدة، التي كان من الممكن أن يقال عنها إنها بادرة استثمار رياضي حقيقي، أي تجربة نادي “بيراميدز”، خرج سالم الشمسي، مالك النادي، منذ أيام قليلة، ليعلن إيقاف الاستثمارات في النادي، بسبب عدم تكافؤ الفرص، وغياب العدالة.

يبدو أن مشروع تحويل كرة القدم المصرية إلى مجال للاستثمارات العربية والأجنبية قد باء بالفشل، يبقى إذن الجمهور الداخلي، وهو الاستثمار الأهم لأي رياضة، والذي يبدو أنه سيخذل بدوره طموحات القائمين على كرة القدم المصرية بتسليع اللعبة.

مع الأزمة الاقتصادية الكبرى التي تعاني منها مصر، وانهيار سعر الجنيه أمام الدولار، لم يعد يمكن التعويل على جمهور برجوازي أو مبرجز. فمن كانوا يُعتبرون من “الطبقة الوسطى” في البلاد انحدرت أوضاعهم بشدة، ولم يعودوا، مع كل تهذيبهم وحبّهم للاستقرار السياسي، قادرين أن يكونوا مستهلكين مثاليين في الملاعب. كم من المصريين يستطيع شراء التذاكر باهظة الثمن؛ أو إنفاق دخلة المتضائل على استهلاك المنتجات الرياضية الترفيهية؟

ستبقى الملاعب غالبا بلا جمهور، فمصر ليست إنجلترا، أو حتى دول الخليج العربي، حيث يمكن التعويل على جمهور موسر، يرسم صورة “حضارية” للتشجيع الرياضي. ربما ليس حل روابط الألتراس بحد ذاته هو ما أفقد الكرة المصرية روحها، بل مجموعة من السياسات الأمنية والاقتصادية والثقافية، التي لم تترك للعبة العريقة منافذ كثيرة للاستمرار. حال كرة القدم في مصر كحال كثير من مناحي الحياة في البلد: انتهى عصر الثورة، الحافل بالحيوية والشباب، وليس بالإمكان استعادة عصر الركود المباركي، وما نراه اليوم قد يكون تحللا تدريجيا بطيئا، لا يمكن توقع أين سينتهي فعلا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.