يصعب تصنيف ما عُرف إعلاميا باسم “الربيع العربي” بوصفه ثورات اجتماعية بالمعنى الكلاسيكي، إذ غابت عنه عناصر أساسية في مفهوم “الثورة” الحديث، كما تراكم في التجربة التاريخية منذ “الانتفاضة الهولندية” أو “حرب الثمانين عاما” (1566- 1648)، مرورا بالتأكيد بالثورة الأميركية، وكذلك الثورة الفرنسية التي يبدأ معها، بحسب التقسيمات المدرسية للمؤرخين، التاريخ المعاصر. أهم ما غاب عن “الربيع” كان “الجماعة السياسية”، أي الفئة الاجتماعية ذات المشروع، التي تريد قلب علاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية وقانونية معيّنة، والتأسيس لأخرى، ليس وفق مصالحها المادية فحسب، بل بناء على منظور مختلف للحياة والحق والعالم. والأهم، انطلاقا من تعريف جديد للذات الجماعية والفردية. أنتجت الثورات دائما، مباشرة أو بشكل تدريجي، وسواء نجحت أم فشلت، نماذج عن شعوب وأمم وأوطان وطبقات، ومفهوما عن الفرد المنتمي لمتحدها السياسي المستحدث: الذات القانونية؛ المواطن؛ ابن/بنت الأمة النموذجي؛ وأحيانا “الرفيق”. وبالتالي فإن تقييم الثورات على أساس مدى نجاحها في تبديل الحكّام القدماء، أو حتى الاستيلاء على السلطة، قد يكون غير ذي معنى، إذا لم تنتج جديدا في مجال الجماعة السياسية ومنظوراتها.

وعلى الرغم من أن الربيع العربي شهد أحيانا حضورا لتنظيمات اجتماعية فعّالة، مثل النقابات ذات الدور المهم في الثورتين التونسية والسودانية، إلا أنه يصعب الحديث عن أن المشاركين فيه قد فهموا أنفسهم بوصفهم جماعة سياسية جديدة، أو تريد إنتاج ذاتها. فـ”الجماعة” موجودة سلفا، وهي “الشعب” الذي “يريد”، أي عموم المصريين أو التونسيين أو السوريين، الخ، بدون أية محاولة جديّة لإعادة تعريفهم؛ أو دراسة تشكّلهم، بوصفهم أمة، عبر تاريخ كياناتهم الوطنية الحديثة، بكل ما رافق ذلك من إشكاليات وأزمات وعمليات سياسية وسلطوية، تشمل العنف والإقصاء، وعمليات الإبادة والتطهير العرقي في أحيان ليست استثنائية. ظل “الشعب” مفهوما بسيطا، ولا يستدعي تعريفا، بثقافته وقيمه ومعتقداته و”آدابه العامة”، المتوارثة عن عمليات تأسيس الدولة/الأمة الحديثة. بهذا المعنى يمكن اعتبار “الربيع العربي” محافظا إلى حد كبير، وبدون حتى مفهوم سياسي عن “المحافظة”.

من هنا يمكن فهم الانتقادات التي وجهها عدد من مثقفي الأجيال الأقدم لانتفاضات “الربيع”، فهي، بحسبه، غير مسبوقة بثورات فكرية أو ثقافية تؤهّل المنتفضين للتغيير الحقيقي، ما قد يكون نقدا من منظور ثقافي بحت لغياب الجماعة السياسية الثورية. لم تسبق الثورات المعروفة في التاريخ “ثورات ثقافية” بالضرورة، إلا أنه يصعب تحديد ثورة لم تحملها جماعة سياسية، أو سعت لتأسيس جماعتها السياسية، بكل ما يرتبط بذلك من قيم ومفاهيم ثقافية.

رغم هذا يمكن الحديث عن أن “الربيع العربي” قدّم مفهوما غامضا عن جماعة ما للثورة، أو على الأقل تمثّل الثورة تطلعاتها، وهي “الشباب”، أي جيلا جديدا له آفاق ومنظورات مختلفة، ومطالب متعددة، لم تعد الأنظمة المتكلّسة القديمة تستطيع تلبيتها. الملفت أن هذا المفهوم لم يأت من الثوار أنفسهم فحسب، بل ربما لعبت الأنظمة القديمة الدور الأول في صياغته، عبر إعلامييها ومثقفيها، الذين تحدثوا عن “ثورة شباب”، أو “شباب طاهر بريء”. دون أن يعني هذا أن “الربيع” كان تكرارا لما يُعرف أحيانا بـ”ثورات الشباب” في الغرب، خاصة فرنسا عام 1968، فتلك الثورات كانت “شبابية” بقدر تمرّدها على المؤسسات الانضباطية التقليدية في الدول الغربية: المصنع والعائلة الأبوية والمدرسة، وكذلك الحزب السياسي والنقابة بمفهومها التقليدي. لم يعرف الربيع العربي تمرّدا مماثلا، وبالتأكيد لم يكن المجتمعون في الميادين، أو المشتبكون مع قوات الأمن في الشوارع المركزية، بـ”وقاحة” الشباب الفرنسيين والإيطاليين أو حتى المكسيكيين، فيما يتعلّق بالقضايا الدينية والجنسية والاجتماعية. قد يكون وصف “الربيع العربي” بـ”ثورات الشباب” لا يعني إلا المرحلة العمرية للمنتفضين، مع ملاحظة أنه لا يوجد أي مسح إحصائي يُعتد به لمتوسّط أعمار المحتجين في الشوارع.

لا يعني هذا أن “الربيع” كان خاليا من أي تمرّد على المفاهيم والقيم المترسّخة لـ”الشعب” ودولته، بل شهد محاولات، لاقت نوعا من الانتشار في فترة ما، لما يمكن وصفه بــ”النيل من البلاغة القديمة”، التي شكّلت الخطاب السائد للدول القائمة، بسلطاتها ومعارضاتها المترسّخة. والسلاح الأساسي لها كان السخرية والتهكّم، اللذين طبعا جانبا كبيرا من الأعمال الثقافية والفنية قبيل الربيع العربي وأثناءه. امتلأت تلك الأعمال بالمحاكاة الساخرة؛ إعادة روي السرديات والأساطير المؤسِّسة بشكل عبثي أو مدمّر للمعنى؛ عمليات التشويه والتحوير التهكمي؛ الاسترجاع الضاحك لمواد من الأرشيف الإعلامي والفني والأدبي؛ تعمّد “خدش الحياء” عن طريق ترديد ألفاظ، ووصف نشاطات جسدية ووضعيات جنسية، كان مجرد ذكرها يعتبر “تابو” في الشرط العربي.

تلازم هذا مع صعود تجارب فنيّة وموسيقية تُعرّف نفسها بكونها “أندرغراوند”، وتكاثرت نسبيا “المشاهد” Scenes الفنية، التي ترى أنها جانب من ثقافات فرعية Subcultures، حاملةً أصوات وتعبيرات صُنّفت بوصفها “جديدة”.

على المستوى اللغوي بدا التبرّم واضحا من العربية الكلاسيكية البيضاء (الفصحى)، بقيودها القواعدية والتعبيرية، وعدم فعاليتها في التواصل مع “العالم”. كانت هذه اللغة بنظر كثيرين الوعاء الأساسي للجمود الفكري والتعبيري، بل ربما التخلّف والتطرّف الديني، فتسارعت عمليات تطعيم العربية الكلاسيكية باللهجات المحلية، وأحيانا التخلّي عنها لمصلحة “العامية”، فضلا عن الاستخدام المتزايد للتعابير الإنجليزية وسط الجمل العربية. وهي تطورات سابقة للربيع العربي بكثير، ولكنها اكتسبت خلاله طابعا شبه ثوري، باعتبار أن “الشباب”، المنفتحين على العالم، والمجيدين لاستخدام الإنترنت (الذي اعتُبر لفترة أداة الثورة الأساسية)، لهم “لغتهم”.

لا يمكن رصد “تمرّد” مماثل على مستوى الخطاب السياسي، فهو لم يكن يعني أغلب المحتجين، وبعضهم رفضه بوضوح، معتبرا ذلك أحد أهم مميزات “الربيع”. إلا أن “الشباب” لم يكونوا معزولين عن “العالم” فعلا، واستخدموا خطابا حقوقيا مكثّفا، عوضا عن الخطاب السياسي، وهذا من سمات الناشطية Activism الغربية عموما. كان الأبرز في الخطاب الحقوقي بالبداية توثيق انتهاكات وجرائم الأنظمة، والمطالبة بحريات أساسية، والسعي لرصد أوضاع المعتقلين السياسيين، وتحسينها؛ ومن ثمّ تطوّر تدريجيا لتصبح للحركات النوعية مكانة أكبر فيه، مثل النسوية والدفاع عن حقوق المثليين ومكافحة العنصرية.  

ظلت هذه “التمرّدات”، على أهميتها، مقتصرة على نخبة من المثقفين الشباب، ومتابعيهم الذين يصعب معرفة مدى انتشارهم، وثقلهم العددي، وإن كان استخدام تعبير “نخبة” إشكاليا بعض الشيء، لأن أولئك المثقفين لم يعرّفوا أنفسهم بوصفهم نخبا، أي فئات مثقفة تلعب دورا في صياغة خطاب طبقة أو شريحة اجتماعية ما؛ أو منغمسة في الجدل الاجتماعي العام، وإنما مجرّد أفراد، يعتبرون “تمرّدهم” جانبا من إظهار خصوصية وتميّز ذواتهم الفردية.

بكل الأحوال هذا “التمرّد” أمسى أقل جاذبية مع مرور السنين، وبعد أن بات فشل ثورات الربيع العربي، في تحقيق غاياتها السياسية والاجتماعية المعلنة، مثل إزالة “الاستبداد” ودمقرطة المجتمع، واضحا لكثير من المتحمسين لها والمشاركين فيها. ما قد يجعل الحديث عن “ما بعد الربيع العربي” أمرا له ضرورته، أو ربما طريقة لمحاولة فهم النزعات والتوجّهات الثقافية الأساسية المعاصرة في الثقافات العربية.

يمكن ملاحظة تراجع أشكال التمرّد الساخر، لحساب صيغ ثقافية أقرب لليأس والسوداوية، أو الانسحاب أكثر نحو “مساحات خاصة”، تحاول تجاوز كل ما هو عام، باتجاه جعل الخيبات شأنا من شؤون الذات الفردية، في مواجهتها مع العالم، بمعناه الأوسع. “المشاهد” الموسيقية والفنية اندمجت غالبا في ما يُسمى التيار الرئيسي Mimestream، أو فقدت كل طموح لها، اللهم إلا تكرار وتقليد “مشاهد” معروفة، وربما صارت تقليدية، في “الغرب”؛ كما أن ظهور تيارات فنية مستحدثة، مثل “الراب” و”التراب” و”المهرجان” في مصر، وغيرها من تجارب متعددة في بقية دول العالم العربي، بكل ما حققته من شعبية، وما أثارته من معارك، غطّى على بريق “الأندرغراوند”؛ لغويا انحلّ “التمرّد” اللغوي لـ”شباب الربيع” في نمط من الفوضى اللغوية، التي عززتها وسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص، وإن كانت هذه الوسائل أنتجت بدورها نوعا من “العربيات الوسيطة”، التي ربما لم يكن ظهورها متوقعا فيما مضى، نتيجة نشوء “مجتمع” من مشاركي الحالات و”الميمز” و”الكوميكس” و”التريندات” على امتداد العالم العربي وتنوّع لهجاته؛ يبقى أن الخطاب الحقوقي المكثّف ما يزال له حضوره القوي، على الأقل في أوساط “الناشطين” الافتراضيين، أو العاملين في “منظمات غير حكومية”، والمتأثرين بهم.       

قد يكون من المتسرّع اعتبار الحالة العربية فريدة من نوعها، أو نتيجة ما يُعتبر “تخلّفا عربيا”، على العكس، ربما كانت تلك الحالة ذات دلالة عالمية، فمهما كانت أزمات “الربيع العربي”، يبقى أنه الحراك الاجتماعي الأكثر أهمية عالميا في قرننا الحالي. كثير من الأعمال الاحتجاجية، من جنوب أوروبا وصولا إلى الولايات المتحدة الأميركية، استلهمت عناصر أساسية من “الربيع”، وخصوصا الصور والمشاهد، التي حملت بعض السمات الأيقونية، المقبلة من ميدان التحرير المصري، ما دفع مفكّرين يساريين شهيرين، مثل أنطونيو نيغري ومايكل هارت، حاولا دائما أن يكونا منظّري النمط المعولم من الاحتجاج الاجتماعي، إلى اعتبار “العرب روّاد الديمقراطية الجدد”، بحسب مقالتهما الشهيرة، المنشورة في صحيفة “الغارديان” البريطانية عام 2011.    

الأسئلة التي طرحتها الانتفاضات العربية، والمرتبطة بنمط جديد من الاحتجاج الاجتماعي، قائم على تفكك مفاهيم الجماعة السياسية، وقيام الذاتية المفردنة بلعب الدور الأساسي في التمرّد السياسي، فضلا عن الانحلال الفعلي لمعظم بنى الفعل الاجتماعي الكلاسيكي، مثل الحيز العام وأماكن العمل التقليدية، تطرح نفسها على كل قول وفعل سياسي حول العالم. ربما كانت الانتفاضة الأوكرانية عام 2014، هي وحدها من طرح أسئلة مختلفة، متعلّقة بعودة الصراعات والنزعات القومية المتطرفة، والمحاور والأحلاف الدولية، بعد عقود من توقّع الانتصار الساحق للعولمة. رغم هذا فإن أي “متمرّد” في العالم لن يستطيع تجنّب مواجهة إشارات الاستفهام التي أثارها “الربيع العربي”.

موقع “حيّز” يطرح أسئلة “ما بعد الربيع العربي”، خاصة على المستوى الثقافي، والتي يمكن أن تتكاثر وتتفرّع بقدر تعقيد الحالة الراهنة: إلى أين وصلت تلك “الثورية” العربية المحافظة، ذات الأفق “العالمي”، بعد أن تبيّن فشلها السياسي والاجتماعي، وتعثّرها الثقافي؟ ماذا تبقّى من طموحات تجاوز البلاغة العتيقة، وادعاءات “الثقافات الفرعية”، بعد نجاح عدد من الدول العربية بترميم حضورها وسيادتها وخطابها رغم كل الأزمات؟  كيف تُفهم الذاتية، الفردية والجماعية، في عصر التأزّم الشامل المميز لحالة “ما بعد الربيع”؟ ما الذي تقوله الإسهامات الثقافية في الفضاء العربي حاليا، بعد غرق كثير من منتجيها بحالة اليأس والسوداوية والامعنى؟ هل توجد “مراجعات” جديّة لخطابات ومفاهيم الفترة “الثورية” الماضية، أم أن تفكير جيل الثورة، الذي لم يعد من “الشباب”، ما يزال يجترّ المقولات نفسها رغم مرور السنين وتغيّر الظروف؟ ما الذي يعنيه “النضج” السياسي والثقافي في الظرف الراهن؟ وكيف حلّلت الإسهامات الثقافية الأكثر نخبوية، وعلى رأسها الدراسات الأكاديمية، الشرط الاجتماعي والسياسي الذي أنتج “الربيع” وما بعده؟      

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.