“مستقبل العمل” لخوان سباستيان كاربونيل: هل تحتاج “الثورة الصناعية الرابعة” إلى عمّال؟

“مستقبل العمل” لخوان سباستيان كاربونيل: هل تحتاج “الثورة الصناعية الرابعة” إلى عمّال؟

ألغت جائحة كورونا ملايين الوظائف، منذ عام 2020، وبرزت أكثر امتيازات عمل الروبوت، الذي لا يمرض، ولا ينتظم في نقابة، ولا يُنظمُ إضرابا، ورغمَ أن الحلم بمعمل بلا عمّال قديم قدم الثورة الصناعية، إلا أنه بدا خلال السنوات الماضية قريب المنال بالنسبة لكثيرين.

من وجهة نظر المتشائمين من التقدم التقني، فهذا يعني أننا متجهون إلى فقدان أعمالنا، وبالتالي حالة بطالة عامّة. أما المتفائلون يرون في “استبدال تكنولوجي كبير”، فرصة لتحقيق حلم اشتراكي قديم بالراحة ووقت فراغ أكبر.

ورغم توسّع العمل من المنزل، وتوسّع الاعتماد على الآلات والروبوتات، والعمل عبر منصّات وتطبيقات الخدمات المختلفة، أثناء فترات الحجر الصحي المتتالية، إلا أن العمل لم يختفِ، أو حتى تخف وتيرته، بل تحوّرَ وتبدل وتأقلم في كثير من الأحيان مع المتطلبات الجديدة، ما يعني أننا مازلنا نعيش حياتنا في “مجتمع مُؤسّس على العمل”.

ضمن هذا السياق، يأتي كتاب “مستقبل العمل” لخوان سيباستيان كاربونيل، الباحث المختص في علم اجتماع العمل، والصادر في شباط/ فبراير 2022 عن منشورات أمستردام في باريس. يسعى الكتاب لاستقراء التحولات الحاصلة في حقل العمل، والأشكال التي يمكن أن يتخذها مستقبلا، في ظل التطور التكنولوجي المتسارع، والأزمات الاقتصادية والمالية المتتالية.

يؤكّدُ كاربونيل أنه رغم كل النقاشات الحادة، التي تتناول دور العمل ووضعه اليوم وفي المستقبل، إلا أنه سيبقى يشغل دورا مركزيا في المجتمع، وتستند هذه المركزية برأيه إلى ركيزتين أساسيتين، الأولى أنثروبولوجية، فالعمل سيبقى نشاطا أساسيا ننتج من خلاله ونعيد إنتاج المجتمع؛ والثانية اجتماعية، إذ أن العمل يشغل موقعا مركزيا في حياة الفرد وتمثيله الاجتماعي.

ولكن هل تكفي هاتين الركيزتين للتأكيد على أن العمل لن يختفي قريبا؟ ألا يمكن أن تبرز أنماط جديدة للوجود الاجتماعي الإنساني في عالم “ما بعد العمل”؟

يحوي كتاب كاربونيل كثيرا من التحليلات، التي تحاول الإجابة على مثل هذا النوع من الأسئلة، ويمكن إيجاز بعض أهم طروحاته عبر توضيح نقده لعدد من الطروحات السائدة عن علاقة التقنية بالعمل، والتي يعتبرها مغالطات آن أوان تجاوزها.  

المغالطة الأولى: هل سُرّح العمال بسبب الروبوتات؟

يؤكد الكاتب، مثل كثيرين غيره، أنه رغم تغيير التكنولوجيا لكثير من قطاعات العمل التقليدية، وإنهائها لعدد من الوظائف، إلا أنها تساهم أيضا في خلق أشكال جديدة من العمل النامي على هامش الأعمال المأجورة، وهكذا سيكون التوجه المقبل نحو ظهور فئات عاملة جديدة، مركز نشاطها في تلك القطاعات الناشئة، التي قد تكون هامشية وغير مرئية في كثير من الأحيان.

وفي هذا السياق، تبدو الحقيقة الماثلة بعيدة جدا عن الخطاب التخويفي المهيمن في أوساط الإعلام والباحثين الأكاديميين، الذين يرى كاربونيل أن خطابهم ينطلق غالبا من مرجعيتين غير موضوعيتين، هما التكنوفيليا (الهوس بالتكنولوجيا) أو التكنوفوبيا (الخوف المرضي منها)، وهما ما يدفعهم دائما للحديث عن التهديد الدائم بحلول الروبوت والآلة والبرمجيات مكان العمل الإنساني. إلا أن العلاقة بين دخول الآلة إلى العمل والاستغناء عن وظائف معينة تبدو أعقد من النظرة التبسيطية السائدة اليوم، والتي لا يندر فيها استخدام مصطلح “الاستبدال التقني الكبير”، وكأنه يكفي دخول الآلة أو الروبوت إلى مكان العمل، سواء كان معملا أو منشأة صحية أو خدمية، حتى يخسر العمال عملهم في اليوم التالي.

من الصعب حساب الوظائف التي ألغيت نتيجة دخول الآلات إلى سوق العمل فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف الأخرى المحيطة بعملية الإنتاج، مثل تعديل خطط العمل وطرق تنظيمه، أو حتى حجم الخسائر وتكاليف العملية الإنتاجية، فضلا عن تحديد المدّة الزمنية، التي يمكن من خلالها قياس أثر دخول الآلة إلى سوق العمل.

عملية الحساب هذه تحتاج طرح مزيد من الأسئلة: هل يترتب على دخول بعض الآلات خسائر مادية، أو عدم قدرة على المنافسة في السوق؟ أو هل يتطلب مثلا إعادة تأهيل البنى التحتية للمعامل، أو حتى نقلها من مكان إلى آخر؟ مع الأخذ بعين الاعتبار الفوارق بين المعامل المختلفة، ونوع السلعة التي تنتجها. على سبيل المثال وجد ضمن قطاع صناعة السيارات في الولايات المتحدة الأميركية، في عام 2014، 117 روبوت مقابل كل ألف عامل، بينما لم توجد هذه النسبة في صناعات أخرى، ولم تبلغ أكثر من روبوت واحد مقابل كل ألف عامل في بعضها. فيما تم تسريح عمال في كل القطاعات، ولم يكن نصيب عمّال قطاع السيارات في التسريح أعلى من غيرهم. ولهذا فإن إلغاء للوظائف لا يرتبط دائما بإدخال تقنيات جديدة، بقدر ما يرتبط بسلسلة الأزمات الاقتصادية والمالية المتتالية، منذ مطلع الثمانينات وصولا إلى أزمة عام 2008، والآثار القاسية المترتبة على كل أزمة، إذ تتبع كل واحدة منها إعادة هيكلة لسوق العمل، لا تشمل فقط إلغاء بعض الوظائف والأعمال، بل تتعدى هذا لتلغي مكتسبات عمالية أساسية، مثل وقت الراحة والطعام.

وضمن هذا الإطار، لا يمكن تحديد كم منصبا ووظيفة وفرصة عمل ألغيت فقط بسبب دخول الآلات والروبوتات إلى سوق العمل، ولا يمكن رسم خط مستقيم يبدأ بدخول الآلة، وينتهي بخروج العمال. وهذا ما أمكن ملاحظته مطلع هذه الألفية، عندما دخل المحاسب الآلي إلى قطاع السوبر ماركت، ما قاد إلى احتجاجات وإضرابات عمالية، رغم ذلك ليس متوقعا الاستغناء عن العمال بشكل تام في ذلك القطاع، إذ بعد عشرين عاماً من دخول الآلات، يستخدم 57 بالمئة فقط من محلات السوبر ماركت المحاسب الآلي في فرنسا، وهي مخازن ضخمة يتجاوز مساحتها ألفي متر مربع. 

المغالطة الثانية: هل سيبقى الذكاء الصناعي بأيدي النخب؟

يُقرُّ كاربونيل بأن الموجة الحالية من الاختراعات التكنولوجية غير مسبوقة، ونحن بالفعل نعيش في قلب “الثورة الصناعية الرابعة”، فبعدما جلبت الثورة الأولى المحرك البخاري؛ وشهدت الثانية دخول الكهرباء إلى المعامل، وبداية توسّع عمليات الإنتاج بكميات كبيرة؛ وعرفت الثالثة بدايات تقدّم التقنية الرقمية في الصناعة، تأتي الموجة الحالية لتمزج التكنولوجيا الجديدة والذكاء الاصطناعي وتطور استخدام شبكة الانترنت. إذ أن الاتصال المستقل ما بين الآلات بات قائما، وسيؤدي كل ما سبق إلى تغيير جذري في شكل وطبيعة العمل.

ورغم أن كاربونيل لا يتفق مع التوقعات التي تتحدث عن أن دخول الروبوتات والذكاء الصناعي سيؤدي إلى نهاية العمل، لكنه يؤكد أن تلك التقنيات تتحدى القدرات الإنسانية في كثير من المجالات، وسوف تتجاوزها في أحيان كثيرة، بحيث لا يكون للإنسان أي امتياز بالمقارنة مع خوارزميات الآلات، وفي هذا السياق أول المهن المهددة بالانتهاء قد تكون مهن أصحاب الياقات البيضاء، وذلك لأن الآلات الذكية لها قدرة على مراجعة المعلومات واستعادتها تفوق سرعة البشر، ما سيجعل الأطباء والمحامين والإداريين يعانون من منافسة جديّة.

رغم ذلك، هناك صعوبة في توقّع أثر الذكاء الصناعي على عالم العمل ومستقبله، لكن يمكن القول إنه لن يبقى في أيدي النخبة ورواد الأعمال، فعلى غرار المحرك البخاري، والكهرباء، والإنترنت، سيتوسّع استخدامه، ويصبح مع الوقت متاحا لكل الناس أو غالبيتهم، ليتأسس عليه تطورات واختراعات جديدة. وهنا يتشابه الحال مع أمثلة سابقة. فعندما بدأت صناعة السيارات بالنهوض، وألغت وظيفة سائق العربة، كما ألغت مع الوقت كل وسائل النقل التي تستخدم الخيول والحيوانات، خاصة في المدن الكبرى، خلقت بالتوازي فرص عمل في صناعة السيارات، وفي الصناعات والخدمات المرتبطة بها، مثل بناء الطرقات واستراحات السفر، وأعمال الميكانيك، ومحطات الوقود والطرق المدفوعة. ورغم أنه من المبكر جدا وضع استنتاجات نهائية في هذا الإطار، إلا أن المنطق نفسه يمكن تطبيقه على مجال الذكاء الاصطناعي وتطوّره.

المغالطة الثالثة: هل يكره العمال التقنية؟

بالنسبة لكاربونيل من المفهوم أن الحديث المضخّم عن نهاية واختفاء العمل الإنساني، وحلول الآلات مكان العمال، يمكن أن يخدم بشكل دائم أرباب العمل، لكنه يتساءل: كيف يمكن لنا فهم نجاح هذا الخطاب في أوساط الحركات الاجتماعية والعمالية؟

يعتقد الكاتب أن من أسباب ذلك استناد كثير من الباحثين والصحفيين إلى أدبيات يسارية، ترى أن قوى الإنتاج الأساسية في المستقبل لن تكون العمل، بل المعرفة والتكنولوجيا، بحيث ستنشأ لدينا “معامل دون عمّال” و”مستقبل بلا عمل”.

وبعيدا عن تلك الأدبيات النخبوية في الجوهر، ربما كان العمال أنفسهم هم الطرف الأقدر على مواجهة القلق الحالي من التكنولوجيا. تاريخيا  لم يتردد العمال في الاشتباك مع التقنيات الجديدة بكل الأساليب، سواء كانت إيجابية أو سلبية، مثل إعادة تنظيم وسائل العمل وفضاءاته بما يتناسب مع مصالحهم، أو حتى تحطيم الآلات المفروضة عليهم، فخلال الثورة الصناعية، حين بدأت الآلات الجديدة تدخل إلى المعامل، دمّرَ العمال تلك الآلات في حالات ليست بالقليلة، وتحوّل الأمر إلى حالة منظمة مع تأسيس حركة “اللوديين” ما بين عامي 1811-1813، في توتنهام بالمملكة المتحدة. كذلك لم يتردد العمال، أثناء احتجاجاتهم وإضراباتهم، في إشعال الحرائق بالآلات، أو تعطيلها في أوقات العمل، بهدف جذب اهتمام وسائل الإعلام، من أجل تغطية احتجاجاتهم ومطالبهم. وبالتالي فإن انعدام الثقة بالآلات ضمن الأوساط العمالية ليس بالحال الجديدة، بل هو قديم قدم ظهور النظام الرأسمالي، الذي هدد بحلول الآلة مكان العمل الإنساني بشكل لم ينقطع.

إلا أن انعدام الثقة هذا، لم يكن ناجما أبدا عن توجهات وتصرفات لا عقلانية أو مناهضة للتجديد التكنولوجي من حيث المبدأ، بل كان أحد تكتيكات الصراع القائم ما بين العمال والموظفين وأرباب عملهم، من أجل الضغط عليهم لتحقيق مطالبهم، ولذلك لا تأتي الإضرابات أو عمليات تحطيم الآلات بشكل معزول، فهي غالبا ما تتزامن مع احتجاجات واسعة ضد البطالة وتراجع ظروف العمل والحياة، فيما كان هنالك إدراك تام بينن العمال أن “التكنولوجيا في العمل ليست جيّدة، وليست سيئة، وليست حيادية”، وفي الختام غالبا ما ينشأ حال إنتاجي وتقني جديد، نتيجة ذلك الصراع الطبقي المحموم، الذي يخوضه ملايين العمال، وعصرنا ليس استثناءً.

المغالطة الرابعة: هل نحن حقا في اقتصاد الخدمات والمعلومات؟

يرى كاربونيل في تحليله أن العمل سيحقق حالةً من الاستمرارية، المتزامنة مع المتغيرات التكنولوجية، ولن يكون هناك قطيعة مع طبيعة ومواد العمل المعروفة. ويخالف في توجهه هذا من يرون أن اقتصاد الخدمات والمعلومات حلّ محل الاقتصاد الصناعي القديم. إذ تبقى هذه النظرة معبّرة عن وجهة نظر مركزية أوروبية لسوق العمل وأحواله، بينما على العكس من تلك النظرة، لم تتوقف عمليات التوظيف في المعامل والمصانع الصغيرة على الصعيد العالمي.

وإذا كان العمل الصناعي يتراجع في غالبية الدول الغنية، إلا أنه يتقدم بازدياد في عدد من الدول الصاعدة اقتصاديا خارج القارة الأوروبية، وعلى خلاف الحديث عن نزع التصنيع على مستوى عالمي، وتحول الاقتصاد إلى اقتصاد لا مادي، تشير الإحصاءات إلى ثبات نسب التوظيف في القطاعات الصناعية، منذ سنوات السبعينيات إلى اليوم، مكذبة الخطاب السائد عن نزع التصنيع عالميا. 

وفي السياق نفسه، يؤكد كاربونيل أن رأس المال في مواجهة معضلتين أساسيتين، هما خسائر الإنتاج، وصراعات العمل، توجّهَ إلى دول يمكن أن تتوفر فيها أيدٍ عاملة رخيصة ويسهل السيطرة عليها، رغم أن هذه العملية تحمل خطر تأسيس طبقة عاملة جديدة في مكان جديد، أو تعزيز قدرات الطبقة العاملة الموجودة في المكان سلفا. بهذا عمّمت العولمة عمليات الإنتاج الضخمة، التي كانت سابقا حكرا على دول الشمال، وأدّت إلى تصدير صراعات العمل حول العالم أيضا، في إطار حركة تبحث عن مزاوجة الأيدي العاملة الرخيصة بالسوق الموجّه للطلب، مع التقليل، في الوقت نفسه، من خطر التحركات والتنظيمات النقابية في الأماكن التي ينتقل لها التصنيع. والمذكور سابقا يناقض النقاشات المهيمنة حالياً، والتي لا تتحدث عن مستقبل العمل إلا من وجهة نظر دول الشمال، وما يتعلق باقتصادياتها.

المغالطة الخامسة: هل أنماط العمل الجديدة أكثر متعة وابداعية؟

ينتقد كاربونيل الطريقة التي يُقدَّمُ فيها الاقتصاد الرقمي، بوصفه قطاعا إبداعيا وديناميكيا، وأقلّ تعبا ومشقّة، وأكثر متعة وإبداعية، لكن بعيدا عن هذه الصورة المثالية، العمل في الاقتصاد الرقمي يبدو غالبا شديد الإنهاك والتعب، فهذا العمل الجديد، كما يصفه كاربونيل ساخرا، “غير موجود في سحابة إلكترونية”، بعيدا عن العلاقات والروابط والبنى الاجتماعية، بل يستند في الحقيقة على عمل ملايين الأشخاص.

وبينما يتركز النقاش حول العمل على فكرة “اختفائه”، فإن التكنولوجيا الجديدة تساهم في إنشاء جيش من العاملين فيها، ممن يمكن تسميتهم “الطبقة العاملة الرقمية الجديدة”، المرتبطة فيما بينها، والمربوطة بشركاتها من خلال الخوارزميات، هؤلاء العمال في معظم الأحيان غير مرئيين، أو بالأحرى يتم التعتيم عليهم، رغم أهمية عملهم لتطوير الشركات الرقمية. سواء كانوا يعملون في تطوير القطاع الرقمي، وتحسين خدماته وحماية أمنه، أو كانوا يعملون على الجانب الآخر منه، مثل عمال البنى التحتية، التقليدية والرقمية، وعمال توصيل الطلبات، وسائقي سيارات الأجرة، وهذه كلها خدمات توفرها منصات رقمية، لا تتوقف على مدار الساعة، ولا تقول لنا أبدا إن العمل سيختفي، بل إنه يتضاعف في أعمال ووظائف شاقة، وبأجور زهيدة.

كيف نواجه أزمة العمل؟

يذهب كاربونيل في قراءته عموما إلى أن العمل سوف يحتفظ بموقعه المركزي في مجتمعنا، بوصفه نشاطا منتجا وعامل تنظيم اجتماعي، وهو بعيد عن أن يختفي، بل سيتحوّل ويتغير ويتضاعف في قطاعات وأشكال اقتصادية وإنتاجية جديدة. وسيتوسع كذلك جيش العمال المستقلين، الذين يعملون بالقطعة، بغض النظر إذا كانوا من الكوادر، أو من الفئة الأقل تعليما، وبالتوازي سيبقى العامل صاحب الأجر الثابت في موقعه، وإن كانت هذه الفئة مهددة وستتراجع أعدادها.

وفي إطار حالة التزاوج القائمة، بين النسخة الكلاسيكية من الاقتصاد الرأسمالي والنسخة المعاصرة منه، يستغرب كاربونيل من الذين لا يتوقفون عن إعلان وجود “أزمة” في سوق العمل، دون محاولة طرح “حلول” لها.

ويذكّر الكاتب بأن العمل ليس فقط موضوعا للبحث العلمي، وافتتاحيات الصحف، بل إن موقعه المركزي في المجتمع يجعل منه موضوعا سياسيا أيضا، بالطريقة نفسها التي كانت فيها الثورة الصناعية أساس الجدل حول مستقبل المجتمع، ودور الدولة في تنظيم علاقات العمل. كما أن طبيعة التحولات الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة تتطلب مستوى أعمق من النقاشات، والطروحات النظرية.، لذا يرى من المهم الخروج من المقترحات ضيقة الأفق، باتجاه التفكير بتحرير أعمق للعمل وللحياة الاجتماعية من الشروط الاقتصادية الجائرة، التي يفرضها النظام الاقتصادي القائم على مراكمة الأرباح في أيدي فئة قليلة من الأثرياء.

وبما أن العمل لن يختفي في المستقبل، فمن الأفضل التوجه نحو حالة تنظيمية، تدرك أهمية إعطاء وقت أكبر للحياة الاجتماعية، والحاجات الأخرى في حياة الإنسان/العامل. وهو ما سعت له الحركات الاجتماعية والعمالية دائما طيلة التاريخ الحديث. يذكّر كاربونيل بنجاحات الطبقة العاملة الفرنسية في تخفيض ساعات العمل السنوية إلى النصف، منذ بداية الثورة الصناعية مطلع القرن التاسع عشر، حين كان العمال يعملون قرابة 3 آلاف ساعة في السنة، إلى مطلع القرن العشرين، حين بات متوسط ساعات العمل لا يتجاوز 1600 ساعة في السنة. وهو ما يجب أن يفكر العمّال الجدد المتكاثرون باستلهامه وتعلّم الدروس منه، أيا كان شكل عملهم، وعلاقتهم بالتقنية، بدلا من الخضوع لموجات الذعر الموسمية حول “نهاية العمل”، التي لن تأتي قريبا بالتأكيد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.