مسرحية “عيلة اتعمل لها بلوك”: كيف تستطيع أخلاق محمد صبحي الاستمرار؟

مسرحية “عيلة اتعمل لها بلوك”: كيف تستطيع أخلاق محمد صبحي الاستمرار؟

يُعرض حاليا في مصر، على خشبة “مسرح محمد صبحي” بمدينة “سنبل” للفنون، العرض المسرحي “عيلة اتعملها بلوك”، من تأليف مصطفى شهيب وبطولة وإخراج محمد صبحي، يبدأ العرض المسرحي بفيديو يستعرض حياة المصريين في عام 2027، بناء على تصوّر مخرجه بأنهم سيكونون داخل شاشة كبيرة، ومن خلالها يقوم أحد الشباب بالعودة لرؤية تاريخ عائلته على مر العصور، بداية من عام 1927، وصولا لزمننا الحالي 2023.

يتتبّع العرض تاريخ عائلة “زينهم” في كل عصر من تاريخ مصر منذ بدايات القرن العشرين: حقبة سعد زغلول، مرورا بالرئيس جمال عبدالناصر والرئيس أنور السادات والرئيس محمد حسني مبارك، وصولا ليومنا الحالي. قصد صبحي أن يضع لكل فترة رئيسها، ويبلورها تمثيليا، لرصد الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي فيها، وحين وصل لعصرنا لم يضع صورة الرئيس المصري الحالي، واكتفى بتمثيل الزمن من خلال تأثير وسائل التواصل الاجتماعي عليه.

في كل عصر تصوّره المسرحية، يمرّر صبحي جملا يقصد بها إدانة ذلك العصر بكل ما فيه، على عادته في كثير من أعماله، التي يقوم بناؤها على النصح والإرشاد والتوجيه، المغلّف بخطابية مباشرة.

يمكن القول إن الحالة الاستشرافية لمستقبل مصر، التي يبدأ منها العرض، بعناصرها المتعددة، مثل الشاشة التي سنحيا داخلها في المستقبل؛ والتحّدث على طريقة الإنسان الآلي؛ وتوحيد لون الملابس بشكل يذكّر بالسجن، تبدو تقليدية جدا، وأشبه بخيالات ديستوبية باتت مألوفة للغاية، وأقرب للكليشيهات. إلا أن تقليدية صبحي لا تقتصر على الشكل والصور والتي يقدمها، بل تظهر أساسا في المضمون، الذي لم ينقطع عن تكراره طيلة سنوات، فهو المرشد الأخلاقي الذي ينتقد عصره المنحرف عن الفضيلة؛ والمعلّم الذي يجب أن يتتلمذ الجمهور على يديه. إلى متى سيبقى محمد صبحي مرشدا أخلاقيا؟ وما الذي يدفع الناس لحضور عرض يمكن توقّع كل أفكاره وأحداثه؟ ما الذي يجدونه حقا لدى صبحي؟ 

وعظ ووصاية قبل بدء العرض

لم يتخلّ صبحي أبدا عن أسلوبه الوعظي، رغم كل التطورات الفنية والسياسية والاجتماعية التي شهدتها مصر والعالم. فالمسرح بحالته التفاعلية الحيّة اليوم ينبني على تقديم أطروحة درامية، قابلة للتأويل، يستقبلها كل متلقٍ وفقًا لثقافته وأيديولوجيته، ليحدث تفاعل حقيقي بين المبدع والمتلقي، بينما في مسرح صبحي جميع الحاضرين هم تلاميذ في فصل مربي ومعلم الأجيال والمرشد الأخلاقي.

يُفاجأ المتفرجون، حين الدخول للمسرحية، بطلب أفراد الأمن منهم على الأبواب التخلّي عن هواتفهم المحمولة، تلبيةً لطلب صبحي، ونظريته في أن الهاتف المحمول سيشغل المتلقي عن المشاهدة. أي أن أول ما “يتلقاه” المشاهد في العرض، وقبل بدايته نفسها، وصاية وسلطة أبوية وتربوية، تمارس على الجمهور، الذي أرتضى النزول من بيته ،والحضور للمسرح، ودفع ثمن التذكرة بكامل حريته وإرادته. فيتم التعامل معه وكأنه لا يدرك مصلحته، ولا يجيد الاستمتاع بالفن الذي سيشاهده، بل بحاجة لوصاية  الفنان الذي سيقدم المسرحية.

المسرح وجد قبل أن يظهر الهاتف المحمول، ومع ذلك، إذا كان في العرض شيء يدعو للملل، فالجمهور ليس في حاجة لهاتفه كي ينصرف عنه، فذهنه لن يستطيع التركيز مهما كانت عظمة الوعظ الأخلاقي الذي يشاهده، وهنالك عشرات الطرق للتعامل مع الملل غير الهاتف المحمول، كأن يتكلّم المشاهد بصوت خفيض مع من يجلس قربه؛ أو يغادر المسرح بكل بساطة. هل فكّر صبحي بمنع هذا أيضا، لضبط جمهوره/تلاميذه بشكل كامل؟

في الواقع تدعو هذه البداية للدهشة، خاصة ونحن أمام عمل فني، وليس في مؤسسة انضباطية؛ إلا أن ما سيلقاه المشاهد في العرض المسرحي نفسه، من وعظ وخطابية، يتناسب تماما مع ما حدث على باب المسرح.   

إدانة الزمن الذي نجهله

يستخدم صبحي كل العصور التي يستعرضها في المسرحية لإدانة العصر الحالي، وذلك عن طريق “الإفيهات” التي يقدمها، وهو يعي أي جمهور يخاطب، وفي أي عصر يحيا. فعلى سبيل المثال، يدين أغنيات قديمة لسيد درويش وأحمد عدوية، صُنفت وقت طرحها بوصفها إفساد للذوق العام، ليس من منظور العصر الذي يقدّمه مسرحيا، وإنما من منظور ما نحيا فيه الآن، ليوجّه رسائل صريحة، مفادها أننا في اضمحلال حقيقي اليوم.

ومع الوصول لزمننا الحالي، مسرحيا، يبدو أن كاتب ومخرج العمل ليسا على دراية كافية بآليات العصر الحقيقية، والمشهد الغنائي فيه، فيقدّم صورة المطرب الشعبي في مواجهة الطرب الأصيل، ليجعله أقلّ قيمة، ناسيا أن الأول يؤدي لونا غنائيا متطوّرا بتطور الزمن، ومصرّا على أن الزمن القديم هو الأجمل والأكثر رقيًا. وكأن التاريخ يجب أن يتوقّف عند نقطة معينة.

ولكن لم تكن تلك الأيديولوجية هي المشكلة الوحيدة، بل تكمن الأزمة الحقيقية بأنه هناك تصميما على إدانة العصر الحالي، دون أن يكون القائمون على العمل متابعين لمستجداته. فمثال المطرب الشعبي اليوم تقدّمه لنا المسرحية على هيئة وطريقة شعبان عبدالرحيم، بملابس ملوّنة وطريقة غناء نمطية، رغم أن الأغنية الشعبية المصرية تجاوزت أسلوب عبد الرحيم. ومضى على ظهور أغاني المهرجانات أكثر من عشر سنوات. أي أن صبحي يدين زمنا لم يواكبه.

أطلال الزمن الجميل

عرض “عائلة اتعمل لها بلوك”  قائم إذن بمعزل عن المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي نحياه. كل زمن مساوئه ومحاسنه، لكنّ العرض يقوم جملة وتفصيلا على الإدانة المباشرة، ولا يتمتع بسمات فنية كثيرة، باستثناء تقديم مواهب تمثيلية مبشّرة للشباب المشاركين فيه، القادرين على التنقّل بين الشخصيات المختلفة من عصر لعصر، والتنويعات الأدائية، واللازمات الخاصة بكل شخصية. لكن مخرج العمل لم يحسن استغلال تلك القدرات استغلالا حسنا.

وأخيرا ينتهي العرض المسرحي بتصميم حركي، وليس استعراضا، عن طريق رسم خطوط حركة للممثلين بين اليمين واليسار، وهم يتغنّون بكلمات تدعو للسلام والتمسّك بالهوية وأطلال الزمن الجميل، الذي تجاوزناه بالفعل، ونحيا اليوم في عصر به آليات وتفاصيل وموضوعات وأزمات مختلفة.

يتمسّك محمد صبحي بشعاراته التربوية، غير المستندة على أي ركيزة أساسية، سواء كانت ثقافية أو فنية أو سياسية، والتي لا تدلّ فقط على عدم متابعته للمشهد الفني حاليا على وجه العموم، ولكن أيضا على عدم مواكبة لتطوّر المسرح المصري على وجه التحديد، وما يقدّم في مسارح الدولة والفرق الشبابية المعاصرة.

الأخلاق داخل المحمية

رغم ما تم ذكره عن الأيديولوجيا الخانقة، التي يقدّمها العرض، وطريقة الطرح الخطابية، إلا أن ذلك لا ينفي الاقبال الجماهيري الحقيقي على مشاهدة المسرحية. وذلك غالبا لشعبية محمد صبحي، المترسّخة عبر أعماله الكوميدية، المسرحية والتلفزيونية والسينمائية، المتراكمة عبر عقود.

ولكن السؤال الأهم: من هم مشاهدو صبحي اليوم؟  عندما يسمع الجمهور، الذي تربّى على أعمال محمد صبحي، بعمل مسرحي جديد له، فسيتوافد لحضوره، نظرا لحالة الحنين للمسرح، التي تنتاب كثيرا من الناس من الجيل الأقدم،  مع الوضع في الاعتبار أن من يأتون لا يعلمون ماذا سيشاهدون بالتفصيل.

إلا أن مسرح صبحي عاجز عن استقطاب شريحة أخرى هامة، بجانب الجمهور الذي عاصر صبحي قديما، وهي “الشباب”. إذ يضمن صبحي أرباح عرضه استنادا إلى مشاهديه التقليديين، الذي يحنّون للماضي الجميل، ويوافقونه الرأي في مقت العصر الحالي.

ورغم أن عرض صبحي يعتمد اعتمادا كليا على عنصر الشباب في التمثيل، إلا أن الممثلين يفتقدون روح الشباب وحماسهم وآرائهم ومشكلات عصرهم الحقيقية، منساقين وراء الأيديولوجية التي تغلب وتحكم سياق العرض. وهو سياق بعيد عن عصر يتسم بالتطور التكنولوجي، والانفتاح على تجارب مختلفة من جميع أنحاء العالم، باتت الأجيال الأصغر قادرة على متابعتها على المنصات الرقمية المختلفة. ما يجعل صبحي غريبا في إطاره الأخلاقي.

يعيش صبحي غربته، مع جمهوره الذي انتُزعت هواتفه المحمولة على الباب، لأكثر من ثلاث ساعات، بمعزل عن إشكاليات العالم الحقيقي، وعبر قطع التواصل والاتصال عن الخارج. ربما يكون محمد صبحي قد استطاع البقاء والاستمرار والنجاح داخل “محمية أخلاقية”، ولكن الجمهور الأوسع ينتظر معالجة لعصره وقضاياه وأسئلته الهامة والملهمة من خارج تلك “المحمية” المنغلقة.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.