مصر بعد الربيع العربي: هل ما زال المثقف المصري “ما بيفَهّم شي”؟

مصر بعد الربيع العربي: هل ما زال المثقف المصري “ما بيفَهّم شي”؟

“أنا ما قلتله شي، هو خرّب كل شي، هو معلم مش متعلم عن عمره الماضي شي”.

هذا المقطع من أغنية “إنشا الله ما بو شي” لفيروز وزياد الرحباني قد يكون مدخلا لطرح سؤال عن المثقفين المصريين في فترتنا الحالية، التي يمكن تسميتها “ما بعد الربيع العربي”: هل هم فعلا مثل جار فيروز الذي “ما بيفهّم شي”، مَن يدّعي أنه يعرف، لكنه لا يعرف، وواثق من نفسه في الوقت ذاته. كما أنه مغرور، مثل كل مدعي المعرفة، “بيحكي بين شفافو، وبيجاوب بكتافه”، لذا تكون محصّلة كلامه تهتهة، لا تسائل نفسها، “بيبرم ساعة ع الكلمة، وما بتطلع هي بالذات”.

الحبيب الغائب في الأغنية “خرّب كل شي”، وعندما تلجأ المغنية إلى جاره لكي تعرف عنه أي معلومة، لا تنال إلى غمغمات مثيرة للأعصاب. الحبيب “لم يتعلّم من عمره الماضي شي”، أما جاره فيكمل المشهد ويوصله إلى ذروته، إذ يبدو النقيض التام للمعرفة والتعلّم.

قد يكون تأويل الأغنية بهذا الشكل، ولطرح هكذا سؤال، تكرارا لما نفعله نحن المصريون مع أغاني فيروز، التي نحبها دون أن نتوقّف حقا لفهم ما تعنيه. ولكن بالفعل تبدو نقمة كثيرين على المثقفين المصريين أشبه بنقمة فيروز أو الرحباني على الجار المغرور مدّعي المعرفة.

ربما كانت الربيع العربي هو الحبيب الغائب الذي “خرّب كل شي”، ولكن ماذا عن جاره؟ هل ما زال كلامه وتفكيره غير واضحين؟ هل تعلّم شيئا من تجربته و”عمره الماضي”، أم سيستمر فقط في استفزازنا؟

إسقاط القديم: في لا جدوى “النيو لوك” الشبابي

فور قيام ثورة يناير في مصر سقط الحزب الوطني الحاكم، وكل بنيان سياسي وثقافي هش يشبهه. هذه الكيانات سقطت بالفعل قبل الثورة، لكنها كانت في انتظار هزة قوية، تؤكد انهيارها. على مستوى السينما مثلا، لم يعد هناك مكان لعادل إمام، ليس بحكم قلة موهبته، لكن بحكم الزمن الذي صار خارجه. ظل يقاوم لمدة عشر سنوات قبلها، بأفلام تتراوح بين النجاح المدوي والمتوسط والفشل أيضا، وقد كان التشكيك في نجوميته المطلقة منذ عام 2000 بداية إدراك أن ثمة تغيرا في العصر بأكمله، وجد عادل إمام الحل في اصطناع “نيو لوك” جديد، يتخلى فيه عن التوليفة السابقة، يحيط نفسه بالشباب، ويمثّل دور الأب. في عام 2005 فعل مبارك الشيء عينه، عندما سمح أخيرا أن يترشح أمامه أحد في الانتخابات الرئاسية، وظهر في الصور بنكهة شبابية، وسمح بتصوير فيلم دعائي يظهره إنسانا. بينما الحقيقة أنه كان قد انتهى، ويؤجّل حكما بسقوطه.

عقب نجاح الثورة مباشرة، أُنتج فيلم “18 يوم”، الذي يتناول عدة قصص تدور حولها، وشارك فيه عشرة مخرجين وثمانية مؤلفين، وعدد كبير من الممثلين المعروفين، ويتكوّن من عشرة أفلام قصيرة، لكل منها مخرج ومؤلف وممثلون بشكل منفصل. وهي أفلام جيدة في المجمل، رغم التعجّل الواضح في إنتاجها، لكنها كانت تشي بأمل قادم: استعادة السينما القدرة على قول الحقيقة، بعيدا عن المواءمات مع الرقابة. إلا أن التوقف تحديدا عند أحد تلك الأفلام، أي “احتباس”، الذي أخرجه وألّفه شريف عرفة، قد يعطي انطباعا عن المتاهات التي دخلتها الثقافة المصرية آنذاك.

كان شريف عرفة قبل 2011 معروفا بأنه المخرج الأهم خلال عقدي التسعينات والألفية الجديدة، رغم ذلك جاء فيلمه القصير عن الثورة ضعيفا تائها مرتبكا، كمن يقفز من المركب فور غرقه، فشريف عرفة، الذي قدمت سلسلة أفلامه مع وحيد حامد وعادل إمام نقدا فنيا قويا لعصر حسني مبارك، هو نفسه من قدّم مبارك في “النيو لوك” الجديد الشبابي، وأخرج حواره التليفزيوني مع الإعلامي الشهير عماد الدين أديب، الذي أظهره في نسخة إنسانية وأكثر حيوية، وقادرة على تحمّل المسؤولية لعقد إضافي. بعد 2011، تراجعت أفلام شريف عرفة على المستويات كلها، الرؤية والتكنيك، وصارت أكثر رجعية، لقد أفقدته الثورة لغته. فيما بعد لم ينجح في ترجمة موقفه المتمترس مع النظام الحاكم فنيا، وصعد مكانه مخرجون شباب، مثل بيتر ميمي، قادرون على إنتاج أعمال فنية أكثر نجاحا في الدعاية للنظام.

كان لا بد من البحث عن جديد، قادم من مكان آخر، ويعبّر حقا عن فئات لطالما استُبعدت وهُمشت. شيء مختلف عن “نيو لوك” مبارك وإمام وعرفة، يفهّمنا شيئا ما.

من “عبده موته” إلى “قلب الأسد”: العودة إلى القيم “الوسطى”

بعد الثورة بعام  قدّم الفنان محمد رمضان أولى بطولاته السينمائية، فيلم “عبده موتة”، تلاه بفيلمين آخرين: “الألماني” 2012، و”قلب الأسد، “2013”، وهذه الأفلام أقرب لثلاثية.

تتناول الأفلام عنف الطبقات الشعبية، الذي يُنحي جانبا أخلاقيات الطبقة الوسطى، وأحكامها التي تسيّدت السينما المصرية، منذ توجو مزراحي إلى شريف عرفة، وبجرعات عنف غير معتادة على السينما المصرية، التي طالما صوّرت الطبقة الشعبية رمزا للجدعنة والتضحية والصبر.

صعد نجم رمضان، ليتربع على عرش الإيرادات، لفترة لم تدم طويلا، إلا في ذهنه فقط.

نجاح رمضان، المدان الآن بسبب سلوكه المتباهي بثروته الفاحشة، وتصنّعه دور البلطجي، يرتبط بثورة يناير، التي قلب انضمام الطبقات الشعبية إليها موازين القوة؛ وكذلك بحالة التساهل الرقابي التي أعقبت الثورة.

يسعى البطل في الأفلام الثلاثة للانتقال اقتصاديا من الطبقة الدنيا إلى الطبقة الوسطى. فيحاول في الفيلم الأول بيع المخدرات ليصبح غنيا، لكي تتزوج أخته من رجل مقتدر ومن بيئة أرقى؛ وفي الفيلم الثاني يسعى للخروج من الطبقة الدنيا، عبر استغلال حالة الفوضى، التي سادت ما بعد ثورة يناير، لبيع الأنابيب والموتوسيكلات؛ في الفيلم الثالث يحاول أن يوفّر أموالا لعلاج أم حبيبته، ثم ليصبح وجيها مثل ـ”الناس اللي عايشة”، على حد قوله.

وبحسب الناقد الفني محمد سيد عبد الرحيم، فثمة اختلافات دقيقة بين الأفلام الثلاثة، الأول يطرح السؤال، والثاني يجيب عنه، أما الثالث فيتراجع عنه لصالح أحكام الطبقة الوسطى.

في فيلم “عبده موتة” يقدّم لنا رمضان صورة عن البطل في الخيال الشعبي: شخص له طموح، ويسعى للرزق، و” جواه حتة بيضا”، رغم ما يبدو عليه من بلطجة وشر بالظاهر، تعشقه النساء، ويحتفي بالتفكير العقلاني والخرافي في الآن عينه. أما فيلم “الألماني” فيجيب عن الجدل الذي أثارته الطبقة الوسطى عن الطبقات الأدنى. فنجد أم الألماني (شادية/عايدة رياض) تسأل المذيعة: “محدش سأل فيكوا الألماني بقي ألماني ليه؟” والإجابة هي الخلاص من الحياة الشقية التي شارك الجميع في صناعتها.

لكن “موتة” و”الألماني”، الشخصيتان اللتان سلتطا الضوء على مستغلي أزمة الفراغ الأمني بعد الثورة، والكلام مازال للناقد محمد عبد الرحيم، هما الخاسران الوحيدان، الأول يُعدم، والثاني يعاني نوعا من العقاب النفسي، أما فيلم “قلب الأسد”، فلا يسير على منهاج الفيلمين السابقين، بل يناقضهما، إذ يُعلي من شأن قيم الطبقة الوسطى، فينتهي الفيلم نهاية سعيدة: يحصل بطله فارس، رغم مشاركته في بيع المخدرات، على مكافأة كبيرة، بعد مساعدته للشرطة على الإمساك بعصابتين لبيع الأسلحة وضابط فاسد. ما يعني مصالحة الطبقة التي عاداها رمضان، بعد أن صار نجما يتهيّأ للانضمام إلى الطبقة العليا، التي تحتقر الجميع، ويمارس سلوكيات تؤجج الحقد تجاهه، عبر التباهي بثروته الفاحشة، وهو أمر مناسب جدا للصورة التي يريد رمضان صياغتها عن نفسه، حتى لو كانت لا تعجبنا، فهو يفهم جيدا نفسية معجبيه من الطبقات الشعبية، الذين نزلوا لمشاهدة أفلامه الأولى. ألم يكن الثراء هو الوعد الكامن في أفلامه؟ اللافت أنه عقب انقلاب الثلاثين من يونيو 2013، وجد الخيال الشعبي في بوستر فيلم “قلب الأسد” تعبيرا عن ما قام به الرئيس عبد الفتاح السيسي، فاستبدلوا صورة رمضان في البوستر بصورة السيسي، لتكون هي الصورة الأكثر مبيعا في ذلك الوقت.

السيسي على بوستر فيلم “قلب الأسد”

لم يعد محمد رمضان نجم شباك التذاكر، لكنه صار يمثل في أفلام ومسلسلات من إنتاج جهات سيادية، ولم تعد صورته بوصفه فقيرا مكافحا أو غنيا متباهيا تملك أرضية صلبة للنجاح، كما لم تعد الطبقات الفقيرة والمتوسطة ترى الرئيس كـ”قلب الأسد”، بعد تردي الحالة الاقتصادية، خلافا لكل وعوده بأننا سنصبح “نمبر وان” لأن “الثقة في الله نجاح”، لقد تحطمت أساطير الجميع، لم ينجح أحد.

لم يثر الفقراء، لكنهم سيظلون حاضرين في خلفية المشهد مهما تم استبعادهم، يُعاد تشكيلهم من مجهول إلى مجهول، خارج صورة ممثلين المسلسلات، اللذين ما زالوا يزينون لهم الفقر والجدعنة، أو لعل صورة “الشقيان” تعجبهم بوصفهم نجوما، إذ تسمح لهم، إلى جانب “العضلات السكسي”، بتمثيل النبل، ليس وفق مفهوم الفقير، بل في قفص تصورات الطبقات الوسطى والسيادية والناجية.

هذا عن الأفلام “التجارية” ونجوم الشبّاك، ولكن ماذا عن منتجي “الثقافة الرفيعة”؟

فجر الدستوبيا: المعرفة خارج “الجهات السيادية”

ربما من الصعب التشكيك في وجود أدب تنبّأ بقيام ثورة يناير، لكن بإمكاننا تمييز أعمال توقعت يقينا فشلها، حتى قبل أن تتضح الصورة، أو في أثناء تشكّل الأحداث، من بينها عملان للروائي محمد ربيع: “عام التنين” 2012، الذي تنبّأ، في إطار ساخر، بأن الثورة ستهزم بسبب البيروقراطية المتأصلة في نظام الحكم المصري، أو الدولة العميقة المؤسَّسة على فكرة الفرعون؛ بينما كان أكثر سوداوية، حين عاد وقدّم الهزيمة في شكل الجحيم، في رواية الديستوبيا “عطارد” ،

يمكن اعتبار روايات الديستوبيا ما وسم فترة بعد الثورة، مثل رواية “الطابور” 2012 لبسمة عبد العزيز، وفيها تصعد إلى السلطة قوة مركزية، تُعرف باسم “البوابة”، في أعقاب “الأحداث المشينة”، في إشارة إلى انتفاضة شعبية. في واقع ما بعد الثورة هذا، يجب على المواطنين الوقوف في طابور عند “البوابة”، للحصول على إذن لتلقي الرعاية الصحية والفرص التعليمية والإسكان وغير ذلك. في طابور الانتظار الممتد على مسافة أميال، هناك انتهازيون، وباحثون عن الحقيقة، كثير منهم يحاول قضاء اليوم فحسب.

غلاف رواية “الطابور”

وبالطبع، سبق الاثنين في الشهرة ولعبة التوقّع، رواية عز الدين شكري فشير الشهيرة “باب الخروج”، التي لم تكتف فقط بتوقّع مسار الفشل، بل أيضا صعود رئيس عسكري، يفشل بشكل كابوسي بدوره.

في الأمثلة السابقة، المأخوذة من أفلام محمد رمضان والأدب الروائي، يظهر أن النوعين كانا منتبهين بشكل كبير لما يحدث، ويحاولان تصويره والتحذير منه أو حتى رصده، بطريقتهما الخاصة. وقد صوّر النوعان، على عكس المأمول، العنف واليأس والهزيمة، لا الأمل.

يحتاج الفن لصوت عاقل، لا علاقة له بالصوت الثوري. الفن يفكر أولا بهدوء مستبصر، ينجح إذا ما نحّى صخب الهتاف الثوري، لذا لم تُنتج أفكار قوية خارجه في تلك الفترة السائلة، لكنّ كل أفكار الفن آنذاك كانت وليدة يأس هائل، تعكس خيبات الأمل بإيجاد الحقيقة، دون أن يكون قد حاول “التعب على الحقيقة”، في هذا طيش ما.

ثم ماذا؟

ثم حلّ صمت وخَرَس. أغلب من حاولوا إنتاج المعرفة، خارج “الجهة السيادية” التي قررت احتكارها، ألقي القبض عليهم أو نفوا خارج مصر، وقد أجبرتنا لحظة مذبحة رابعة على التحديق في الهاوية، حيث لا منفذ سوى المعرفة. لم تعد “الحقيقة بلا تعب” رفاهية يمكن الحلم بها.

“انسحبوا: ما بعد اليأس والأمل

“انسحبوا” كانت صيحة المثقف، الشاب حينها، عمرو عزت، التي جاءت في مواجهة بطش غير معقول من قبل “الجهات السيادية” عام 2014. صار عزت الآن ناشرا، طرحت دار نشره “وزيز” كتبا طازجة في أفكارها واختياراتها، كأنها عودة حثيثة للصوت بعد أن أُخرس، بعد أن نضج، مستكملا دوره في إنتاج المعرفة، وقد فكّر بعمق.

وربما لذلك كانت صيحة “انسحبوا” على حق، ليس فقط من أجل أمن المثقفين والناشطين، ففترات الكمون كانت مهمة للجميع، لإعادة التفكير في شيئين: جنون السياق العام؛ والنظر إلى الداخل، حيث كان “الطيش الثوري”، وربما مراجعته اليوم ستُنتج وعيا جديدا، يطلب منا أن “نحب أفلاطون، لكن أن نحب الحقيقة أكثر”، بحسب المقولة الشهيرة المنسوبة لأرسطو.

يظهر هذا الوعي في كتاب الصحفي والمدون عبد الرحمن مصطفى “العودة إلى آخر الحارة”، الصادر حديثا  عن “وزيز”، وهو من الجيل الذي اختبر الثورة في بداية الثلاثينات من عمره، وقد ولد من رحم التدوين.

غلاف كتاب “العودة إلى آخر الحارة”

يبدأ عبد الرحمن من اللحظة التي انخرط فيها، في المنتصف الثاني من عشريناته، مدونا يكتشف صوته، ثم ينتقل إلى الصحافة، في الفترة ما بين عامي 2005 إلى 2011، التي شهدت صعودا مهنيّا لجيل ينعم بهامش حرية غير مسبوق في الصحافة الورقية، وكذلك الإنترنت، لم تكن تلك الحرية كافية، لكنها كانت غير مسبوقة فعلا، وربما الاعتراف بهذا مماثل للقول: ” أكره مبارك، لكني أحب الحقيقة أكثر”.

يواجه عبد الرحمن تلك الذاكرة، التي وثّقها في مدونته عاما تلو آخر، ثم يعود في الكتاب إلى طريقته الأولى: التدوين الأدبي، لكن محمّلا هذه المرة بخبرات الصحفي، الذي عرف وشاهد؛ المتأمّل الذي ينشئ حوارا بين أطوار ذاته: المدون عشريني والصحفي الثلاثيني والكاتب الأربعيني، كشاهد حكيم، لكن ليس بأثر رجعي.

 منذ البداية كان عبد الرحمن يراقب بحثا عن الحقيقة، حتى لو أغضبت معسكر انحيازاته، لكنه بدا آنذاك صوتا صارخا، غير مسموع في البريّة. لم تكن الحقيقة مطلوبة وقت الثورة، بل الصرخات عن وجود الحقيقة، ورغم أن تلك الصرخات كانت المحاولة الأكثر جدية في تاريخنا لمواجهة كل ما فسد، لكنها لم تكن فعليا “تعبا على الحقيقة”.

يدوّن الكتاب كل التيمات الأساسية لما عاناه البعض، يأس واستنكار ونوستالجيا وشعور بالغربة واللاجدوى، لكن ما لم يُقل في ذلك الكتاب إلا ضمنا، أن المثقف المصري قد “تعلّم من عمره الماضي شي”: وجد الكلمات الدقيقة، صار قادرا على أن “يفَهّم” بدل أن “يجاوب بكتافه”.

قيمّ عبد الرحمن التجربة الماضية بالأسلوب التالي: “المفارقة أنني وأغلب أبناء الجيل العظيم لا نبدي أي اهتمام بالظهور كأصحاب تجارب، أسسنا وشهدنا تأسيسا، ثم أصبحنا جزءا من العدم، لم يعد هناك من يهتم بالحديث عن أشياء رآها قبل عشرين سنة.. الآن تدركُ حكمة الرئيس مبارك الذي تورّطتَ في الثورة عليه، ألم يقل: “خليهم يتسلوا”؟ كان الرجل عدميا أكثر من ادعاءاتك بالعبث واللاجدوى. أنت من هذا الجيل الذي لم يتعلّم شيئا، ولا يراهن على شيء، بلغ النضج دون أن يعلن، وصنع تجارب دون أن يدرك أهميتها”.

قد يُظهر مثل هذا النص أن كثيرا من المثقفين، الذين شاركوا في الربيع العربي، لديهم في حقبة “ما بعد الربيع” ذاكرة، ليس هدفها النقد وجلد الذات فقط، بل الفهم والتجاوز، وقد تساهم من جديد في إنتاج المعرفة.

يمكن رصد عشرات الكتب والمقالات المؤسِّسة والبودكاست وبرامج اليوتيوب، وتجارب روائية أكثر نضجا مما أُنتج قبل 2014، من الجيل نفسه الذي حاول وهزم، تسعى حثيثا، بخفوت لكن بثبات ونضج. فما زالت القبضة الأمنية حاضرة، لكن تلك التجارب تواصل دورها الشجاع في إنتاج المعرفة، تناقش الماضي والحاضر وتختبر المستقبل.

الآن نتكلّم بطيش أقل، وربما بمعرفة أكبر، بلا يأس وبلا أمل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.