تؤكد البلاغة الوطنية السائدة في العالم العربي أن دوله تملك “أقدم مدن العالم”، وهي عبارة صحيحة، إذا قسناها بالمفهوم الحديث لمفردة “المدنيّة” Civilization، والتي لا نظائر معروفة لها بالعربية القديمة، فالأخيرة لم تميّز إلا بين “بداوة” و”حضر”، أي كان معيارها الاستقرار والترحّل، والاستقرار قد يكون في المدينة أو الريف أو حتى مستوطنات زراعية محدودة؛ فيما يرتبط مفهوم المدنيّة بتطوّر بنى اجتماعية معقّدة، على رأسها الدولة والسلطة السياسية؛ تقسيم العمل وتنظيمه؛ الطبقات والفئات الاجتماعية؛ التوسّع الحضري والتخطيط العمراني؛ أنظمة التدوين والتواصل، الأكثر تركيبا من التداول الشفوي الاعتيادي؛ الازدهار الثقافي والتطوّر التقني، بمقاييس العصر الذي تحيا فيه المدينة. بهذا المعنى فقد عرفت المنطقة بالفعل أقدم مدن العالم في بلاد النهرين ومصر؛ مرورا بالاستيطان والتمدين الهيليني والروماني في العصر الكلاسيكي؛ وصولا لتأسيس المدن الإسلامية الأولى، مثل الكوفة والبصرة والفسطاط والقيروان.

إلا أن استعادتنا لتلك المدنيّة القديمة تمّت في شرط حديث، أي مع ظهور نموذج الدولة العربية الحديثة منذ القرن التاسع عشر، والتي أضافت إلى مروياتها وأساطيرها التأسيسية سِيَر العراقة المدنيّة، استنادا لنتائج علم الآثار والأبحاث التاريخية (الاستشراقية)؛ وكذلك عبر إحياء وإعادة تأويل بعض النصوص العربية القديمة، مثل تنظير ابن خلدون عن “العمران” و”المدن والأمصار” في مقدمته (أول طبعة كاملة لها صدرت في القاهرة عام 1857، بإشراف رفاعة الطهطاوي)، وأعمال الخطيب البغدادي والمقريزي وابن عساكر وابن العديم، وغيرهم من مؤرخي المدن. إحياء المدنيّة العربية، بالمفهوم الحديث، تمّ إذن بدافع “مشروع نهضوي” حداثي، ارتبط بنشأة دول؛ إدارات استعمارية؛ حركات تحرر وطني، سعت إلى إعادة تخطيط المدن القائمة؛ وتطويرها بما يتناسب مع ظهور مؤسسات جديدة، ومنها الأجهزة البيروقراطية والصحيّة والتعليمية والصناعية؛ وبالتأكيد العسكرية. وفي إطار ذلك المشروع تم تحديد ما اعتُبر “تراثا عمرانيا” أو مدنا قديمة، في قلب المدّن المحدّثة والموسّعة، عبر عمليات التنظيم والترميم والحماية. وعمليّا فإن المدن العربية التي نعرفها، بـ”قديمها” و”جديدها”، نتيجة مركّبة لعمليات التحديث المتراكمة، التي قامت بها سلطات متعددة.

تحدّث كثير من المثقفين، منذ الربع الأخير من القرن الماضي، عن ضعف أو تراجع أو اضمحلال المدينة في العالم العربي، بناءً على عوامل سيسيولوجية وديمغرافية وثقافية متعددة، مثل النمو العشوائي؛ الاكتظاظ السكاني مع ضعف البنى التحتية؛ ما يُسمى بـ”الترييف”؛ انحدار المؤسسات الثقافية والاجتماعية الأساسية؛ وعلى رأس تلك العوامل “الاستبداد” السياسي، الذي ألغى المظاهر المتنوّعة والحيّة للمجتمعين المدني والسياسي، مثل النقابات والأحزاب والإعلام الحر والحركات الطلّابية. وكل هذه وقائع صحيحة بالتأكيد، ولكنها لا تؤدي بالضرورة إلى اضمحلال المدينة، فقد يكون النمو العشوائي والانفجار السكاني والترييف علامات على حيوية اجتماعية ومدنيّة غير مألوفة، وغير مطابقة بالضرورة للنماذج الأوروبية، وقد عرفتها معظم دول العالم الثالث، ولم تنتقص من نموها أو “نهضتها”، بل ربما كان العكس صحيحا، فمن شنغهاي الصينية وبومباي الهندية، وحتى ريو دي جانيرو البرازيلية، تبرز مشاهد مدينية متشابهة، لا تخلو من عشوائية وازدحام وهجرة موسّعة وعدم كفاية البنى التحتية وارتفاع مستوى الجريمة، إلا أنها لا تعني أن تلك المدن فقدت مدنيّتها. أما “الاستبداد السياسي” فهو عبارة فضفاضة لا تعني الكثير، إذ نمت مدنٌ وازدهرت في ظل حكومات ديكتاتورية وأوتوقراطية، بل حتى عسكرية، وفي أحيان ليست بالقليلة ساهم ذلك النمو بنوع من الانتقال الديمقراطي في البلاد.

ربما كان فهم تراجع المدنيّة العربية يحتاج إلى أكثر من الوصف الهجائي، أو الحديث عن حكومات وأنظمة ظالمة، فهو متعلّق بطبيعة مشروع التحديث العربي نفسه؛ الثقافة السياسية والرواية الوطنية السائدة؛ وأساسا بنى اجتماعية/اقتصادية أكثر عمقا من هذا الديكتاتور أو ذاك.       

بكل الأحوال، يبدو أننا تجاوزنا اليوم مرحلة الحديث عن “اضمحلال” أو “ترييف” المدينة العربية، لنصل لما هو أبعد، أي ما يمكن تسميته “موت المدينة العربية”، وموت المدن ظاهرة أشد جذرية من تراجعها أو انكماشها أو تشوّهها، وتعني أساسا تفتتها، بوصفها مراكز حضرّية، وفقدانها القدرة على أداء أي وظيفة في الاجتماع الإنساني الحديث، سواء كانت تنظيميّة أو سياسية أو ثقافية أو اقتصادية. بعض المدن العربية ماتت فعلا بهذا المعنى؛ فيما يبدو بعضها الآخر في طور الاحتضار.

يمكن تقسيم ظاهرة موت المدن العربية إلى عدة أنماط أساسية، أولها المدينة/ساحة الحرب، كما يظهر مثلا في حلب السورية، والخرطوم السودانية، وهو نمط مغاير لما تؤدي إليه حروب المدن الكلاسيكية، حين تُحاصر مدينة، أو تقع فيها معارك كبرى. فعلى خلاف ليننغراد وستالينغراد، أو حتى بيروت عام 1982، لا تُخاض المعركة ضد عدو خارجي، وتُضاف فيما بعد إلى سِجل الرواية الوطنية، عن بطولات الشعوب والجيوش، بل تتم بين أطراف محليّة؛ كما أنها مختلفة عن كثير من الحروب الأهلية المعروفة سابقا، بأن الدولة والنظام السياسي طرف أساسي فيها، يصعب تمييزه عن بقية الأطراف والميلشيات المتحاربة، ويدمّر بنفسه البنى المدينية الضرورية لسلطته وتنظيمه الاجتماعي، وكأنه لم يعد معنيا بصفته “نظاما” سياسيا، ولا بأي شكل حضري للهيمنة، أو لأداء الوظائف الأساسية للحكم. يصعب بالتأكيد معرفة أين تنتهي “القوات النظامية” وتبدأ “الميلشيات” في معارك النظام السوري؛ كما لم يعد من السهل التفريق بين الجيش السوداني وميليشيا “الدعم السريع” التي يقاتلها. أيٌ منهما القوات المسلّحة “الشرعية” حقا؟ ربما يمكن القول إن المدينة/ساحة الحرب ليست مجرد نتيجة لاضطرابات اجتماعية وسياسية أدت لحروب أهلية، بل أيضا محصلة لانهيار بنية ومفهوم الدولة العربية نفسيهما، وتحوّل النظام السياسي إلى مجرّد عصبيّة مقاتلة، إلى جانب عصبيّات أخرى، لا يمتلك أية أفضلية عنها، لا سياسيا ولا أيديولوجيا ولا أخلاقيا ولا تنظيميا، وأحيانا لا يمتلك حتى الأفضلية العسكرية.   

يقود كل هذا إلى النمط الثاني من موت المدينة، وهو المدينة المقسّمة، ولا نتحدث هنا عن تقسيم مشابه لما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، وكان أهم نماذجه برلين الألمانية، والمدن الحدودية بين عدد من الدول، بل نوع آخر من التقسيم، غير المعلن في كثير من الأحيان، والذي لا يقوم على أسس طائفية واضحة، كما في حالة بيروت اللبنانية إبان الحرب الأهلية، بل وفق حدود سيطرة ميليشيات وتنظيمات وعشائر، وغيرها من كيانات عصبوية، أقل من طائفية في كثير من الأحيان، والأمثلة على ذلك كثيرة، من بغداد العراقية، وحتى طرابلس الليبية. التقسيم في هذه الحالة يعني الانعدام الكامل لإمكانية الاجتماع المديني، حتى بين متشابهين ثقافيا وعقائديا، وانتقال السيادة إلى حاملي السلاح، واقتصادّهم المُصغّر والعشوائي. أما الوظائف الاجتماعية والخدمات الأساسية فتؤدى بشكل اعتباطي، ووفق درجات القرب والولاء من الأمراء الصغار. وإذا كانت الحالة العصبوية أو حتى المافيوية، موجودة في كثير من المدن حول العالم، فإنها تتم غالبا على هامش اقتصاد وتنظيم مديني أكبر، أحيانا يكون عملاقا، في حين تصبح في المدن الميّتة الشكل شبه الوحيد لـ”التنظيم” الاجتماعي.

إلا أن ظاهرة التقسيم لا تتم فقط بهذا الشكل، بل لها أنماط أخرى، ما يقودنا للنمط الثالث من موت المدن، وهو المدينة التي تخترقها المعازل، وربما يكون مثالها الأهم القاهرة المصرية، حيث تنتصب أحياء ومناطق معزولة عن محيطها الاجتماعي والمديني، وهو عزل ذو سمة طبقية أساسا، إذ تقيم بعض الفئات الأكثر حظا مناطقها الخاصة، التي يصعب على الطبقات الأدنى دخولها، فضلا عن الإقامة فيها. ويتسم سكّان المعازل بصفات وأنماط سلوك وحساسيات ثقافية متشابهة، كما أنهم يتمتعون بخدمات أفضل من بقية سكان المدينة. يشير هذا إلى تعطّل وظيفة مدنيّة حاسمة، وهي تأمين الحد الأدنى من الاندماج الاجتماعي، فلطالما جمعت المدن بين أحياء مترفة وأخرى بائسة، ولكن أن يتحوّل هذا إلى ما يشبه معازل مسوّرة، فهذا يعني فشل المدينة في الاستمرار بوصفها وحدة اجتماعية/اقتصادية قادرة على التواصل، ويشير إلى شكل من الحرب الأهلية الباردة: من يعيشون وراء الأسوار لا يعتبرون من هم خارجها فرصة للتطوير أو الاستثمار أو حتى الاستغلال، بل خطرا مهدِّدا لحياتهم، أشبه بوباء. ليست هذه تصرفات البرجوازية، التي عملت تاريخيا على الهيمنة على المدن، والاستفادة منها للنهاية، لا الهروب منها إلى المعازل. مدنٌ تصل إلى هذه المرحلة، تمضي ببطء وثبات في طريق التحلّل.

ذلك التحلّل لكل ما هو خارج أسوار المعازل، يقودنا إلى النمط الرابع من موت المدن، وهو المدينة المنسيّة، أي المدينة التي تُركت لمصيرها، بعد انهيار الدولة، أو تخلّيها عن وظائفها الأساسية؛ عقب وقائع مأساوية، من حروب باردة وساخنة؛ انهيارات اقتصادية؛ وتدهور للخدمات الأساسية، ومن أمثلتها الموصل العراقية وبيروت المعاصرة. لا توجد سلطة جديّة، سواء كانت استعمارا أو دولة جوار أو بقايا النظام السياسي القائم، تجد فائدة من تحقيق هيمنة فعلية على تلك المدن، وإعادة تنظيمها بشكل جديد؛ وتتعامل معها غالبا بمنطق “إدارة الأزمة”، أي الحفاظ على الوضع القائم، أيا كانت كوارثه، والعمل على عدم تحوّله لمصدر أزمات وقلاقل جديدة على مستوى المنطقة. في هذه الأثناء، تفقد المدن المنسية معظم سماتها الحضرية، وتنعدم قدرة ساكنيها على التواصل الفعلي، وتخسر بالتدريج أهميتها الاقتصادية والثقافية، وحتى الاستراتيجية.

في كل الأنماط المذكورة أعلاه ينتفي المفهوم الحديث للمدنيّة Civilization، إذ لا توجد بنى وظيفية فعّالة، على أي مستوى، لتنظيم علاقات السلطة والاقتصاد والتواصل؛ وإدارة النزاع الاجتماعي، أو حتى حسمه، ما ينعكس بشكل انحطاط شامل، لا يمكن توقّع مآلاته. لم تعد توجد، في معظم المشرق العربي، موانئ مزدهرة، أو عواصم ثقافية، أو مراكز اقتصادية وصناعية. وفي بلدان ذات كثافة سكانية عالية، يصبح غياب أساسيات الاجتماع المديني خطرا مهددا بمزيد من الاضطراب والفوضى والانحدار للهمجية.

إلا أن موت المدن لا يعني فناءها المطلق، فكثير من الحواضر الميتة عبر التاريخ بُعثت من جديد، نتيجة تغيرّات داخلية، أو على مستوى المنظومة الدولية والإقليمية، ولذلك فإن السؤال حول مستقبل المدنيّة العربية مرتبط أساسا بوقائع الصراع الاجتماعي والسياسي، وكذلك بتطورات الاقتصاد العالمي، ونتائج النزاعات الاستراتيجية في المنطقة وحولها.

موقع “حيّز” يفتح ملف المدينة العربية، محاولا طرح أهم الأسئلة حول الحياة في المدن الميّتة، على المستوى الثقافي والاجتماعي: ماذا تبقّى من الإنتاج الفني والأدبي والإعلامي، في مدن خسرت حيّزها العام؟ كيف ينشط الفاعلون الاجتماعيون المدينيون وسط الاضطراب الأمني والانقسام العصبوي والقمع الموسّع؟ ما مفهومنا للمكان والمساحة والزمن في فضاءات حضريّة مفتتة ومنعزلة؟ كيف ننظر إلى التاريخ والتراث المديني، ونتعامل مع الذاكرة الجمعية، على أطلال المدن؟ ما أنماط العمران والتخطيط المديني، في سياق الفوضى والتدهور السياسي والثقافي؟ كيف تتم العمليات التواصلية، بعد تعطّل معظم الوظائف الاجتماعية والمؤسساتية الحديثة؟ هل يمكن رصد أشكال تضامنية، سواء كانت سياسية أو طبقية أو ثقافية، ضمن هذا الشرط؟ ما أساليب “النجاة” الأساسية، التي يمارسها كثير من سكّان المدن الميّتة، وخاصة ما يسمى بـ”الفئات الأضعف”؟ ما القيم والصيغ الأيديولوجية الأكثر انتشارا وتأثيرا، مع تراجع وانهيار الأجهزة الأيديولوجية الأساسية للدول؟ باختصار: ما “الحضارة” العربية المعاصرة في عصر تحلّل المدنيّة؟      

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.