جاء “الربيع العربي” وسط مشهد موسيقي لا يفتقر إلى التنوّع، إلا أن هذا المشهد اتُهم دائما بالمراوحة في القوالب التي تفرضها صناعة موسيقى البوب، بكل ما فيها من تكرار وتبسيط؛ فضلا عن ارتباط مؤديه وفنانيه الأشهر بـ”السلطة” بمعناها الأوسع، أي شركات الإنتاج الكبرى، التي صار الخليج العربي مركزها الأهم؛ وكذلك الأنظمة الحاكمة، بزعمائها وشعاراتها ونموذجها عن الوطنية. وذلك بعد  تراجع “الأغنية السياسية”، المعارضة غالبا، والتي شهدت أوجها في السبعينيات.

في هذا الظرف غير “الثوري” موسيقيا بدا أن ما سمّي “الأندرغراوند” مؤهّل ليكون أحد أكثر الأصوات تعبيرا عن التمرّد السياسي لجيل عربي جديد. ظهرت فرق متعددة، عملت على تقديم أنماط من الأداءات والتعبيرات اعتُبرت “غير مألوفة” في السياق العربي. وفي فترة من فترات الحماس الثوري ظن كثيرون أن البوب القديم سيُكنس مع الأنظمة القديمة. اليوم بعد اثني عشر عاما من “الربيع العربي”، وبروز جماليات “الأندرغراوند” الخاصة به، نعلم يقينا أن تلك الظنون لم تكن صحيحة.

يمكن القول إن تيار الأندرغرواند فقد كثيرا من بريقه، ليس فقط لمصلحة تيارات أخرى ظهرت بعده أو بالتزامن معه، مثل “المهرجان” و”الراب” و”التراب”، بل أيضا لحساب موسيقى البوب “التقليدية” نفسها، التي استمرت الموسيقى “الأولى”، رغم فترة انقطاع قصيرة جدا في العام 2011.

ربما كان فهم أسباب هذا التراجع يتطلّب تحديدا لمعنى مفردة “أندرغرواند”، التي لم تستخدم يوما بشكل دقيق في السياق العربي، خاصة الثوري منه؛ وكذلك تفحّص “الجديد” الذي جاء به الموسيقيون المحسوبون على هذا التيار. هل كان “الأندرغراوند” العربي حقا “عالما سفليا” للتمرّد وكسر القوالب النمطية والغنائيات المطروقة؟ وهل يمكن رد تراجعه إلى هزيمة الثورات العربية وخيبة طموحات التغيير فحسب؟

“لله وللوطن”: تنميط الأندرغراوند

حُمّلت الكلمة المفتاحية “أندرغراوند” دلالات متشعّبة في انتشارها الثقافي منذ العقد الأول من الألفية الثالثة، فقد كانت تعبيرا عن فئة من الموسيقيين والمشروعات الموسيقية، التي ظهرت بنظام إنتاج مستقل. و”الإنتاج المستقل” قد تكون له عدة معان: منها أن يتكلّف فنان أو مجموعة فنانين نفقات المُنتَج الموسيقي، مقابل تملُّك حقوق توزيعه وبيعه، والتحكّم في حقوق استغلاله على كافة الوسائط السمعية والإعلامية والبصرية، وبذلك يتوقّع أصحاب المشروع أن تعود أرباح المُنتَج لهم مقابل مغامرتهم الإنتاجية؛ قد يكون “الإنتاج المستقل” أيضا مؤشرا على تفضيلات الفنانين، التي لا تجد في الساحة الإنتاجية من يغامر بتحمّل نفقات إنتاجها وتسويقها، إما لمحتواها المتمرّد أو السياسي، أو لانغماسها في التجريب اللغوي أو الموسيقي، بحيث لا يتوقع المنتجون نجاحها تجاريا، واستعادة ما أُنفق على إنتاجها. أو لأي سبب عشوائي، مثل عدم التفاهم بين الفنانين وشركات الإنتاج، أو الرغبة في التمتعّ بسقف أعلى من الحرية، دون تدخلات تفسد ما يُتصوّر أنه الشكل المناسب للمشروع الموسيقي.

وبناءً على استقلال تلك المشاريع الموسيقية فهي تعتمد في انتشارها على جمهور محدود، عبر منافذ ضيقة أو بعيدة عن الجماهيرية (من هنا هي “تحت الأرض”)، ولكن قد يتغيّر توجهها بعد توسّعها الجماهيري أو زيادة ربحيتها. ومن ثمّ فكلمة “أندرغراوند” لا تُعبّر عن نسق جمالي بعينه، ولا تُعتبر معيارا للجودة من عدمها، ولا يمكنها أن تساوي بين المشاريع الموسيقية، من حيث أحكام القيمة أو الجمهور المستهدف. ولكن في الحالة العربية أصبحت المفردة أوسع من تعريفها الأكاديمي المحدّد.

أن تبدأ بوصفك مشروع أندرغراوند عربيا فهذا يعني غالبا أن لك توجّها معارضا للسلطة، وأنك تحمل “رسالة” فنية، تصنع مسافة بينك وبين سوق البوب وفنانيه وإنتاجهم (وهذا المعنى بالتحديد شديد الالتباس). السمة الأهم في الخيال الاجتماعي، الذي نشأ حول فناني “الأندرغراوند”، أنهم متجرّدون من ناحية الاحتياج المادي، و”التكالب على فرص النجاح والجماهيرية”، ما ينأى بهم عن “الدنو” بما يقدمون من الذوق الشائع، وكذلك عن المطالبة بالمقابل المادي المناسب لحجم إنتاجهم أو جماهيريتهم (في حالة تسعير تذاكر الدخول لحفلاتهم مثلا)، إذ أنهم يقدّمون الفن “لله وللوطن”، حسب التعبير الشائع.

هذا التنميط يرجع ربما لصور ثقافية احتفظت بها الذاكرة الوطنية العربية عن فنانين مثل سيد درويش (الذي يعدّ بمقاييس عصره من أعلى الفنانين أجرا) والشيخ إمام، جمعت مسيرتهم بين مناوءة السلطات في وقتهم؛ وتقديم ألوان غنائية ذات طابع مغامر، من حيث المحتوى الكلامي والموسيقي؛ وتوظيف الموسيقى في أداءات ساخرة أو مسرحية أو نقدية لاذعة أو وطنية، أو معبّرة عن طابع معاصر للحياة الاجتماعية اليومية.

بطبيعة الحال لكل من درويش وإمام مسار مختلف، وطبيعة عصر فرضت شروطها على من يعمل بنظام إنتاج مستقل. فالنظام المستقل في عصر سيد درويش كان هو نظام الإنتاج بالتعريف، قبل سيطرة شركات الإنتاج الموسيقي الوطنية، وتضخّم رأسمالها تدريجيا، ودخول اقتصاديات الصناعات الإبداعية مرحلة التعاقدية محددة الشروط. موّلت فرق المسرح الغنائي المصري في زمن درويش إنتاجها بنفسها، ومن ضمنه الإنتاج الموسيقي الذي يظهر في مسرحياتها.

إعلان لإحدى مسرحيات سيد درويش

 أما تجربة الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم، وجيل الموسيقيين العرب الذي قاد حركة الأغنية “الملتزمة” سياسيا خلال نهاية الستينيات ثم السبعينيات، فهي ابنة عصر كان تبنّي نظام إنتاج مستقل فيه، لتقديم محتوى مناوئ للسلطات، أشبه بعملية انتحارية، لأنه يعد خروجا عن قبضة سلطة شمولية مركزية، تحققت لها بالفعل سيطرة كاملة على أدوات الإنتاج الفني، مثل السلطة الناصرية.

إذا كنا نفترض تواصلا بين الموجات الموسيقية، التي تظهر كل عدة عقود، معبّرة عن نزق فني تجريبي أو تمرّد سياسي اجتماعي، فلا يجب أن يمعنا هذا “التواصل”، المُقيّم على أسس سياسية غير دقيقة، من ملاحظة النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي تظهر فيه الموجات الموسيقية، والتحولات المؤسسية والسوقية والرأسمالية الجذرية في مجال الإنتاج الموسيقي المستقل وتياراته.

دروب تحت أرضية: مآلات متمرّدي السبعينات والثمانينات

الخلط بين ما هو رمزي وسياسي وأخلاقي وتصنيفي في الاستعمال العربي لمفردة “أندرغراوند” يمكن ردّه لتداعيات فشل موجة الأغنية الملتزمة السبعينية في كسر الطوق الرقابي على الأغنية من ناحية؛ وكذلك الفشل في إرساء أبنية مؤسسية لما يسمّى “غناء الثقافة المضادة” و”الثقافات الفرعية”. وهو فشل يتحمّل فيه منتجو تلك الأغنية نصيبا، نتيجة تبعثرهم بين عدة توجهات متناقضة، منها القومية المحافظة، التي صعدت وسط صراعات ما بعد اتفاقية كامب ديفيد في مصر؛ واليسارية الجذرية؛ والنزعات الإحيائية الجهوية، كما في حالة المغرب الكبير، حيث استُخدمت الأغنية السياسية في مقاومة سياسة التعريب الرسمية؛ إضافة للأغنية الاجتماعية النقدية، كما في حالة الفرق الجماعية المصرية (المصريين/ الأصدقاء/ طيبة، إلخ)، فلم يُنتج أولئك الموسيقيون، بما يكفي، خطابات تأسيسية وتقاليد جمالية تحررية، مثل حالة موجات الروك الغربية، المتوازية مع حركات الحقوق المدنية في أوروبا وأميركا. من ناحية أخرى قوبلت الموجات الموسيقية العربية بسحق وقمع غير مسبوق من قبل السلطات، انتهى بانزواء فنانيها، بعد اعتقالهم المتكرر أو نفيهم وتهجيرهم، وأحيانا اغتيالهم كما في حالة المغني الجزائري معتوب لوناس.

معتوب لوناس

عند هذا المفرق اتسعت المسافة بين ما حققته الأغنية المستقلة في الغرب، وما آلت إليه في المنطقة العربية. ألغت موجات الروك الغربية، بما أسسته من خطابات تحررية ونجاحات جماهيرية وشركات إنتاجية واتحادات فنية مستقلة، الضغوط الرقابية على الأغنية، لأن السلطات وقوى الإنتاج وصلت عند نقطة معينة لقناعة مزدوجة بأن الأغنية والموسيقى لا تحدث ثورة، ولكنها تسير بالتوازي مع الحالة الاحتجاجية وتغذيها، ما دامت شروطها الاجتماعية قائمة؛ وكذلك بأن تيارات الثقافة المضادة والفرعية قادرة على تعزيز صناعة الموسيقى اقتصاديا، وفتح سوق جماهيرية، بحيث تتمكن في النهاية من التعايش مع أغنية البوب وأغنية الترفيه، وربما تندمج بهما مع زيادة شعبيتها. يجب أن نتذكر دائما أن سلوك طريق “الأندرغراوند” في الغرب استلزم بدوره تضحيات ومغامرات فنية كبيرة، وتعرّض كذلك لتضييقات سلطوية وإنتاجية، لكن التطوّر الديمقراطي ما بعد الحرب العالمية الثانية دفع في نهاية الأمر لترسيم مختلف لتّدخلات السلطة وأدوار قوى الإنتاج، وتنظيم للمساحات العامة تصعب مقارنته بالوضع بالمنطقة العربية.

من هنا انفتح المجال الإنتاجي لفنانين مثل بوب ديلان وجانيس جوبلن وفرق مثل The Doors والبيتلز وبينك فلويد، التي بدأت بصيغة “الأندرغراوند”، ولكنها في النهاية تعاقدت مع أكبر شركات الإنتاج التجاري، مثل EMI البريطانية، بعد نجاحها المتوسّع، وهو ما سمح لها بتطوير منتجها الموسيقي، وتقديم الألبومات المفهومية، التي صنعت تاريخها المُلهم، وكذلك مساهمتها الكبرى في تشكيل العروض الموسيقية الحيّة بصريا وإخراجيا.

من حفلات “بينك فلويد”

كذلك نجحت تيارات الثقافة المضادة في تأسيس مهرجانات دورية كبيرة، تستضيف فنانيها، مثل مهرجاني Monterey Pop Festival وWoodstock، اللذين استضافا جماهيرا بمئات الآلاف؛ إضافة لتأسيس مجال مدني فضفاض، من شركات الإنتاج والمسارح والحدائق العامة والبارات، التي تحمل توجهات ذوقية خاصة في تقديم الأنواع الموسيقية والمهرجانات الصغيرة والمتوسطة بالمدن المختلفة في أوروبا وأميركا.

على النقيض تماما، بدأت البنية المؤسسية الرسمية للصناعات الإبداعية العربية في التفكك والتدهور تدريجيا، مع فقدانها لمركزيتها الإنتاجية بعد الطور الناصري (الذي يمكن تعميمه عربيا)، وقدرتها على استضافة التنوّع، أو مجاراة التطورات الموسيقية والاجتماعية. فكان “حلّها” لمواجهة تحللها الهجوم المستمر على التجارب المستقلة، عبر جهاتها البيروقراطية، مثل النقابات والإدارات الثقافية، والتدخّل القمعي لإجهاض أي تأسيس لبنية وسوق اقتصادي بديل، يتسع لفروع الإنتاج الموسيقي المستقل.

خلال النصف الثاني من الثمانينيات وعقد التسعينيات، خضعت الساحة الموسيقية العربية لشروط استقطاب فقير، بين من يمثّلون البيروقراطية الرسمية وتصوراتها عن “زمن الفن الجميل” و”رموز الفن الأصيل”، وبين إنتاج الشركات الخاصة، التي تعمل في نطاق البوب، لكن وفق شروط رقابية أفقدتها كثيرا من إمكانيات تنويع المحتوى الغنائي. من هنا نشأ نوع من القطيعة بين الأجيال الموسيقية مع نهاية موجة الفرق الجماعية والغناء السياسي أو الاجتماعي في سبعينيات القرن الماضي. حتى ذلك الوقت، كان محمد عبد الوهاب يستطيع، رغم مكانته وموقعه في السلطات الرسمية، أن يتحدّث في الإذاعة المصرية بانضباط نقدي، وتقدير لنزعة التمرّد في مشروع الشيخ إمام ، كما تعاون عبد الحليم حافظ مع هاني شنودة، الموسيقي الصاعد من تيار الفرق المستقلة، لتجديد دماء أغنياته.

هذه الطبيعة الصحيّة للعلاقة بين ظواهر الثقافة المضادة والثقافة الرئيسية داخل السوق الموسيقي تساهم في رفد الأخيرة بنتاجات التجريب الموسيقي، والصيحات الثقافية الشابة والتجديدية، وتعتمد دائما على تبادلية المواقع، فلا تترسّخ قناعات زائفة عن أن ما ينجح تجاريا هو نوع واحد أو محتوى بعينه، أو أن هناك قَدَرا يحتم على الفنان، ذي وجهة النظر المناوئة، أن يعيش مفتقرا متسوّلا، لأنه وهب حياته لرسالة ما.

ما رأيناه في إنتاج مادونا أو مايكل جاكسون، وهما من أساطير البوب الغربي، من اعتماد مستمر على موسيقيين مجرّبين، منتمين بشكل ما لتيارات “الأندرغراوند”، في إنتاج ألبوماتهم الأحدث، هو دليل على تلك العلاقة والتأثير المتبادل بين “الرئيسي” و”المضاد”، وهو ما منح إنتاجهما الموسيقي طابعه المعاصر المتجدد، وألحقه كذلك بالنزعات التحررية في مجتمعه، ليتحدث في عديد من الأغنيات بلسان حركات مقاومة العنصرية، والتحرر الجنسي والنسوية، ومقاومة السلطوية والاحتكارات الرأسمالية.

أندرغراوند “الربيع”: استعادة الله والوطن

موجات الأندرغراوند العربية في الألفية الثالثة كانت محمّلة، في كثير من مشروعاتها، بالطابع الرسالي الذي تشرّبته عبر ميراث ثقافي متراكم، هذه المرة في مجتمعات تكرّست فيها المحافظة الاجتماعية والتشدد الديني. وكان على تلك الموجات أن تعمل ضمن استقطاب ديناصورات الثقافة الرسمية وشركات الإنتاج الخاص، وسط بنية مُفقرة من المسارح المستقلة، ضعيفة الإمكانيات وزهيدة الأسعار، تُعدّ على أصابع اليدين، وكذلك في شروط عسيرة للإنتاج الموسيقي المستقل، أهمها المحاسبة الضريبية المجحفة لمواقع تقديم الفنون ومنتجيها، وغياب قوانين حماية الملكية الفكرية، وتحصيل عوائد الأداء العلني، خصوصا مع تصاعد ظاهرة قرصنة الأعمال الموسيقية على الإنترنت بلا ضوابط، ما دفع أغلب موسيقيي التيارات المستقلة نحو مؤسسات التمويل الثقافي، التي دعمت كثيرا من المشروعات في بداياتها.

برغم ذلك نستطيع تلمّس نضوج متدرّج لبعض المشروعات مع مرور الوقت، وقدرة على اكتساب الجماهيرية، لتضيف للمشهد الموسيقي علامات مؤثّرة وشهيرة. منها ما حمل خطابا تحرريا جذريا مثل “مشروع ليلى“؛ ومنها ما واكب الحالة الاحتجاجية مع الثورات العربية، مثل “كايروكي“؛ ومنها ما أضاف لتقنيات الأداء والعزف والتوزيع الموسيقي تأثيرات امتدت لموجات الهيب هوب والتراب والراب في ما بعد، مثل “المربع”. والأهم أن فناني هذه الموجات مهّدوا لإتقان أساليب الإنتاج الموسيقي الأقل بريقا واكتمالا بمعايير البوب Lo-fi music، وأعادوا تدوير جماليات موسيقية قديمة في أعمال حديثة، وهو الأسلوب الذي ساد فيما بعد مع اكتساح المنصات الموسيقية الرقمية وبرامج الاستوديو المنزلي، وأعادوا جماعية الغناء للمشهد الموسيقي بعد انقطاع، كما قدّموا نجوما مؤثرين خارج النسق المكرّس لنجم/ة البوب اللامع، المعتمد/ة على ملاحقة أدوات الإبهار المكلفة اقتصاديا.

من حفلات :”مشروع ليلى”

هذه المحاولات واجهت بطبيعة الحال مقاومة سلطوية، برغم تمتّعها، بحكم طبيعة العصر، بمنافذ أكثر اتساعا من سابقتها السبعيناتية، ولكنها التقت أيضا مع الحركات الاحتجاجية للربيع العربي في غلبة الطابع المحافظ والاستعادي على غنائها “الثوري”، فقدّمت طبعات محدّثة من غناء تيار السبعينيات، باستثناءات هامة يمكن تحليلها في سياق آخر، وفي هذا استجابة لما كان يُستمع إليه بالفعل في ميادين الانتفاضات، من أغنيات عبد الحليم حافظ عن القومية العربية ورايتها المنصورة، وتراث الشيخ إمام الاحتجاجي.

من ناحية أخرى، قدّم “الربيع العربي” دفعا لكثير من مشروعات الأندرغراوند نحو صدارة مؤقتة للمشهد الموسيقي، مع ارتفاع نبرة “ثورات الشباب”، ولكنها صدارة ارتبطت بحمل علاماته وشعاراته، التي لم تلبث أن أصبحت محل استقطاب اجتماعي عريض، مع انتكاس الحراك نفسه.

 بالتوازي، توسّعت المنصات الرقمية، لتجعل “المهرجانات” و”التراب” و”الراب” أكثر شعبية من “الأندرغراوند”. وقد أظهرت تلك الموجات في بداياتها طابعا ثوريا، على نسق بزوغ الهيب هوب فنا احتجاجيا بالأساس في أميركا، إلا أن “ثوريتها” أصبحت الآن محل شك كبير، بعد أن نجحت السلطات بالفعل في هندسة المجال الموسيقي وفق أسقف محدودة، وخطوط حمراء واضحة. ولكنّ هذا لا يغفل دور تلك الموجات المؤثّر في تثوير المحتوى اللغوي والعاميات العربية المختلفة، وإحلال الأنماط الموسيقية المحلية داخل قالب موسيقي مستورد، واستعمال تقنيات إنتاجية وصوتية، استفادت منها مشروعات الإنتاج المستقل السابقة عليها. إلا أنها في صورتها العامة التحقت بصورة شبحية، يلفها شعور عدمي، تبرز فيها أصداء التحلل الاجتماعي والتفريغ السياسي.

إضافة لذلك لم تنجُ مشروعات الأندرغراوند المواكبة للحراك الثوري من مزايدات أطراف هذا الحراك نفسه، وحملاتهم الممنهجة، والتي انطلقت من الميراث الطويل عن فناني “لله وللوطن”، خصوصا عند أي محاولة من فناني “الأندرغراوند” لزيادة دخلهم المادي، برفع أسعار تذاكر حفلاتهم؛ والتعاون مع جهات تجارية، مثل شركات الإعلان مثلا؛ أو اختلاف المضمون الفني الذي يقدّمونه عن المُتوقّع على مقياس سياسيين أو نشطاء بعينهم، امتازوا ببذاءة واستحقاقية غير مسبوقة في التسويق والحشد لاختياراتهم وأحكامهم، التي تتفرّع لكل مجال ثقافي ممكن، وهي سمة تطوّرت مع الفشل الكامل للانتفاضات، وتنامي الاستقطابات، وشيوع اليأس وإلقاء مسؤولية الفشل من الجميع على الجميع.

لا يوجد ما يدعو للتشاؤم بخصوص قدرة المجال الموسيقي دائما على التجديد، والمراهنة على سأم الجمهور، وتطوير نزعات ثقافية مختلفة، شريطة أن تستدعيها حالة اجتماعية أكثر ديناميكية، وهو الشرط الغائب في سياق ما بعد الربيع في معظم البلاد العربية. ولكنّ أفول موجة بدأت في العقد الأول من الألفية الثالثة، تحمل أبعادا اجتماعية أو جماعية أو تحررية، لا يعني أبدا أن الوضع القائم مستمر للأبد، أو أن التواصل مع ما حدث في بداية الألفية الثالثة قد انقطع تماما.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.