“اتّبع نهر موسكوفا، نزولا إلى حديقة غوركي

استمع إلى رياح التغيير

هل فكّرت من قبل أنه بإمكاننا أن نكون قريبين جدا مثل الأخوة؟

المستقبل في الهواء ، يمكنني أن أشعر به في كل مكان..

خذني إلى سحر اللحظة، في ليلة مجيدة، يحلم فيها أطفال الغد بعيدا برياح التغيير”.

بهذه الشاعرية عبّرت فرقة “سكوربيونز” الألمانية الغربية عام 1989 عن نهاية الحرب الباردة، من خلال ما يُعتبر الأغنية الأكثر نجاحا عالميا من إنتاج ألماني في كل العصور. كلاوس ماينه، كاتب ومُلحّن الأغنية، كان يتنزّه في إحدى ليالي الصيف بموسكو، التي باتت أخيرا مفتوحة له ولفرقته، رأى جنودا سوفييت يرمقونه بلا مبالاة، وكأن وجوده عادي وبديهي جدا، وذلك بعد سنوات طويلة من ملاحقة موسيقى الروك في روسيا. شَعَر وقتها أن العالم تغيّر، حقا تغيّر. فصَفّر من بين شفتيه، تحت تأثير سحر اللحظة، اللحن الشهير لـ”رياح التغيير”.

هذا المشهد الرومانسي قد يكون أحد أهم علامات تدشين العولمة، بالمعنى “الشعبي”، الذي قد يخطر على بال أي إنسان عند ذكر المصطلح: سقطت الحواجز والحدود، عالمنا بات واحدا، لا أفكار متحجّرة ستفرّقنا بعد اليوم، المستقبل للحرية والإبداع والتطوّر، الناس فهمت أخيرا أن مصلحتها في الانفتاح والتواصل غير المحدود، فيما لن يحقق لها الانغلاق سوى الاستبداد والبؤس.

لم يدم هذا التفاؤل طويلا، إذ سرعان ما غرق العالم في حروب وصراعات هائلة، من حروب البلقان، مرورا بأحداث 11 أيلول/سبتمبر، وحتى غزو أفغانستان والعراق، والأزمة المالية العالمية عام 2008. “رياح التغيير” لم تكن بهذا القرب. رغم هذا فـ”الأطفال يحلمون بعيدا”. لم تعن هذه الأحداث كلها أن المبدأ العام كان خاطئا. فالعالم يبقى متّجها، رغم كل المشاكل والعوائق المؤقّتة، نحو ما هو أفضل وأكثر انفتاحا، والتغيير لا عودة عنه. أعضاء “سكوربيونز” صرّحوا أكثر من مرة أنهم ليسوا نادمين على “الحلم الذي منحوه للناس”.  

للعولمة المعاصرة إذا جانبها الثقافي/الأيديولوجي شديد الأهمية، والمؤثّر على كل جوانبها الأخرى. كثير من الخبراء والمؤرخين لا يعتبر “العولمة” بحد ذاتها ظاهرة جديدة، إذ أن الرأسمالية، حتى بأشكالها الجنينية، تتجه دائما لسياسات وروابط عولمية. بل أن البعض يرجع العولمة إلى عصور مغرقة في القدم، وسابقة للرأسمالية نفسها. إلا أن عمليات العولمة المعاصرة، وربما ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي، ارتبطت بشرطين، تقني وإنتاجي، يعطيانها كثيرا من خصوصيتها. فهي تقنيا قائمة على تطوّر كبير في وسائل الاتصال، ونقل المعلومات والبيانات؛ وإنتاجيا على سلاسل توريد طويلة، خاصة بعد ما يسمى “نزع التصنيع” في الدول الغربية (وهو في الواقع تخصص بالتصنيع ذي التكنولوجيا الأعلى)، فبات معظم السلع والمواد يمرّ بمراحل إنتاجية متعددة ومركّبة، ممتدة على طول خريطة الكوكب، وعبر دوله “المتقدّمة” و”المتخلًفة”، التي تنتظم وظيفيا في بنية “النظام العالمي الحديث”. ومن مرحلة استخراج المادة الخام، وحتى إضافة “السوفت وير” على المنتجات الأعقد، يعمل ملايين وملايين البشر حول العالم بشكل متسق. ربما هؤلاء من تمنّى “سكوربيونز” أن يصبحوا “قريبين جدا مثل الأخوة”.

الشرطان التقني والإنتاجي استلزما تغيرا معقّدا على مستوى البنية الثقافية حول العالم، باتت المهارة في “العلاقات العامة” و”الموارد البشرية” و”السلوك بين الثقافات”، وعموما كل ما هو عاطفي وتواصلي وثقافي، عاملا شديد الأهمية في نمط الإنتاج المعولم. وهذا ما دفع كثيرا من المفكرين والاقتصاديين للحديث عن أهمية “العمل غير المادي”، المرتبط بالذاتية الفردية، وكذلك “انضغاط الزمان والمكان”. لقد تغيّرت نظرة البشر لذواتهم ومجتمعاتهم، وأواصرهم معها. وكل ما في العالم بات يحيّي “المرونة” وينتقص من قيمة “الاستقرار”.

وبالتوازي مع ذلك تعاظمت الاستثمارات في مجال التطوير الحضري، بشكل غير مسبوق تاريخيا. تضخمّت المدن، التي توصف بالعالمية، نتيجة النشاط الهائل في سوق العقارات، والتشييد في مجال البنية التحتية “الجديدة”، وصار للمدن معالم وأوابد وأنماط حياة مستحدثة. بعد أن باتت الوحدة الأساسية للإدارة المالية، المضاربة العقارية، الإنتاج “غير المادي” وكذلك الاستهلاك بأنماطه وثقافاته المستجدّة. وفي الوقت الذي تحوّلت فيه كثير من المناطق الصناعية “الصلبة” القديمة، مثل ديترويت الأميركية، وحوض الرور الألماني، إلى “أحزمة صدأ”، باتت المدن المعولمة تضجّ بالحياة و”التنوّع”، ولسكّانها همومهم وقضاياهم “الجديدة”، المتعلقة بالذاتية الفردية، وما يمكن أن تواجهه من تمييز أو تهميش، وليس القضايا “القديمة”، مثل الطبقة وحقوقها المادية.

العولمة المعاصرة، بوصفها تغييرا ثقافيا وأيديولوجيا، ليست مجرّد وهم بالتأكيد، وكان لها انعكاسات سياسية مهمة: كثيرون حول العالم، وخاصة في دول العالم الثالث، التي تعيش تحت سلطة الاستبداد، آمنوا بدورهم بـ”رياح التغيير”، واعتبروا أن تقدّم الحرية والديمقراطية عالميا أمر شبه حتمي. لن يحتمل هذا العالم المستبديّن العتيقين وانغلاقهم، ولن يسكت عن ممارساتهم المتعارضة مع القيم الكونية، التي نشرتها العولمة. معظم الثورات والأعمال الاحتجاجية انبت، في جانب منها، على هذا “الإيمان”. من “الثورات الملوّنة” في شرق أوروبا، مرورا بـ”الربيع العربي”، وصولا إلى انتفاضة أوكرانيا عام 2014.

إلا أن شيئا ما في كل هذا النسق لم يعد يعمل بالصورة الصحيحة، وربما منذ 2008، العام الذي انفجرت فيه الفقاعة العقارية في الولايات المتحدة. ورغم “تجاوز” الأزمة إلا أن شعورا عاما بعدم الارتياح، وأن الأمور لن تعود كما كانت، طغى على كثيرين جول العالم. ثم جاءت الأزمة اليونانية عام 2010، و”حزمة الإنقاذ” التي تلقّتها أثينا بشروط مذلّة عام 2015، لتكون علامة فارقة على التعثّر، فالأمر تعلّق وقتها بعمق المشروع و”الفكرة الأوروبية”، التي كانت أساسية في أيديولوجيا “رياح التغيير”. إلى أن جاء انتشار وباء كورونا، ليدفع الاقتصاديين ومدراء الشركات العالمية للتحذير من الكارثة القادمة: سلاسل التوريد، التي انبت عليها العولمة، على وشك الانقطاع! وعلى الرغم من التأكيدات الكثيرة بأن الأمر قد يكون مؤقّتا، والعالم سيعيد وصل سلاسله بالتدريج، فإن كثيرا من الدول، ومنها الولايات المتحدة نفسها، أظهرت بوادر نحو المضي في طريق انكفائي أو حمائي. يبدو أن الأمر أعقد من مجرد موانئ معطّلة ومعامل مغلقة بسبب وباء.

الغزو الروسي لأوكرانيا، بكل ما له من تبعات سياسية واقتصادية واستراتيجية، كان علامة أخرى حاسمة على الأزمة الكبرى. لم يعد العالم “مفتوحا” كما كان. والمشهد اليوم حزين على نهر موسكوفا، لا أحد يرى هناك “المستقبل في الهواء”، أو ربما يرى كثيرون “مستقبلا” لا أحد مستعد للتبشير به، اللهم إلا بعض المتطرفين.

يتحدّث خبراء ومفكرون اليوم عن “نزع العولمة”، أي عن تفكك الترابطات العالمية على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي، وتضاؤل العلاقات والهياكل العابرة للوطنية، وكذلك ظهور نموذج مستجد لـ”إعادة الأقلمة”، أي ربط البنى الاجتماعية بجغرافيا سياسية/ثقافية جديدة، تبرز تدريجيا من صراعات الحاضر.

يجادل البعض بأن بنى العولمة أكثر ترسّخا من أن تُنتزع، كما أنه لا يوجد طرف لديه مصلحة فعلية بتفكيكها بشكل شامل، وربما تتجه الأمور نحو ما يسمى “العولمة الجزئية”، أي حالة وسطى، يعتمد بها الإنتاج على سلاسل أقصر، وأكثر إقليمية، وإن كانت غير مغلقة أو حمائية بشكل كامل تجاه بقية أنحاء العالم. فيما يتحدث آخرون عمّا يسمونه “الانقسام الجيوسياسي المعزّز”، بمعنى أن المراكز العالمية الأكثر أهمية، مثل الولايات المتحدة والصين، ستعزز علاقاتها مع من تراهم حلفاءها الأكثر موثوقية، على أسس لا يمكن اعتبارها اقتصادية بحته أو “شفافة”، يقدر ما هي استراتيجية. ما سيدخلنا بحالة من سياسة “دعم الأصدقاء”. أي نمطا جديدا من الأحلاف والمحاور والتكتلات.

لا أحد يدري بالضبط ما سيحدث في المستقبل، وما إذا كانت العولمة قادرة على الاستمرار، ولكن العولمة التي ألفناها لم تعد موجودة غالبا، وشرطها الأيديولوجي/الثقافي في طريق التحلل. لم يعد بإمكان الألمان بالتأكيد أن يغنّوا بحريّة على ضفاف موسكوفا.

موقع “حيّز” يفتح ملف “نزع العولمة” على المستوى الثقافي أساسا، عبر طرح عدد من الأسئلة: ما انعكاسات التغيّرات في بنى العولمة على فهمنا لعالمنا وذواتنا ومجتمعاتنا؟ كيف تأثّر طموح التغيير والتحوّل الديمقراطي في العالم العربي نتيجة العولمة وأزماتها، ومن ثم الحديث المتكرر عن نزعها؟ ما مدى تأثير التحولات المتوقّعة في مجال تقنيات التواصل والاتصال على أنماط حياتنا وعملنا واستهلاكنا؟ ما مستقبل المدن “العالمية”، وكذلك التنمية الحضرية في العالم العربي، مع كل هذه التغيّرات؟ وما نتائج التحالفات والتكتلات الدولية المستجدّة على مصادرنا ومرجعياتنا الثقافية؟ هل ستذهب باتجاه التعددية أم الانغلاق؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.