هل تراجعت الأغنية المصرية التقليدية أمام الموجات “البديلة”؟

هل تراجعت الأغنية المصرية التقليدية أمام الموجات “البديلة”؟

لم يختبر المشهد الموسيقي في مصر حالة من التعددية والزخم مثل الذي يعيشه الآن. فمن ظاهرة لظاهرة، ومن موجة لموجة، ومن اكتشاف لآخر.

الراب والبوب والمهرجان والأندرجراوند. أربعة تيارات رئيسية يقوم عليها المشهد الموسيقي الأكثر حداثة في الأغنية المصرية الآن. نعرف أن “البوب”، تيار الأغنية الرسمية أو التقليدية، هو التيار الأقدم، وكانت له السيطرة التامة قبل خمسة عشر عاما من الآن. لكن الرياح الجديدة باتت تثير الشكوك حول هذا التيار، هل لا يزال رئيسيا؟ هل تراجع، وإلى أي درجة؟ هل يتلاشى تماما لتحلّ محله التيارات “البديلة”؟

إلى أين وصل “البديل”

في أي سوق موسيقي، فكرة تحوّل الموجة الموسيقية البديلة/المستقلة لموجة شعبية سائدة ونظامية (بوب)، تعتبر جدلية معقّدة، ولا يمكن حسمها لمجرد أن أغنية أحدثت “فرقعة”، أو أن فنانا تصدّر “التريند” لفترة طالت أو قصرت، أو لأن فلانا كتب تغريدة غاضبة على موقع تويتر، يرثي فيها الأغنية التقليدية.

مهرجان “بنت الجيران” مثلا مرّ على طرحه ثلاثة أعوام، اكتسحت الأغنية التشارتات الغنائية وقت صدورها. وقيل فيها ما قيل، لكنّ صنّاعها عادوا للهامش سريعا. الهامش نفسه الذي عاد إليه أوكا وأورتيجا قبل عشرة أعوام من الآن. لا، ليس لأن النقابة تحاربهم، فساحة الحرب تقتصر على الحفلات العامة، وليس للنقابة سلطة على اليوتيوب والمنصات الإلكترونية الأخرى. رغم ذلك لا يمكن القول بإن تيار المهرجانات استطاع الرسوخ، أو ما يزال يلاقي نفس النجاح الذي لاقاه في بداية هذا العقد.

بالورقة والقلم، المهرجانات لم تنجح في التحوّل لحالة البوب، رغم أن هناك أغنيات مهرجانات نجحت نجاحا كاسحا. ما الذي ينقص صنّاعها؟ ربما كان السبب النَفَس القصير لرموز هذه الأغنية، أو افتقادها لطموح أو مشروع فني حقيقي؟ أو قد يكون السبب في أن موسيقى البوب، وحالة الرسمنة المرتبطة بها لا تقوم على الانتشار فقط!

ما “الأغنية التقليدية”؟

 موسيقى البوب، من اللفظة الإنجليزية popular، لها سمات عديدة، أولها الترجمة الحرفية للكلمة: “شعبية”. من الملاحظ أن تعبير “الأغنية الشعبية” في مصر يساء استخدامه كثيرا، لتصنيف الأغنيات المعبّرة عن الطبقات الشعبية (عدوية وشعبان وعبد الباسط)، وإن كان في الحقيقة يعني الموسيقى الرائجة في كل الطبقات والفئات العمرية. لو طبّقنا هذا القياس فالأغنية الشعبية المصرية هي الأغنية التي غناها محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، ومرت بعبد الحليم حافظ وعمرو دياب، ثم وصلت لتامر حسني ومحمد حماقي. تلك هي أغنية “البوب”، ومن مصطلحاتها العديدة: الأغنية التقليدية، الأغنية الرائجة، الأغنية النظامية.

من أسرار سطوة هذه الأغنية أنها تأخذ صفة من كل الصفات السابقة.

فهي تقليدية لأن بها عناصر التكرار، تُنتقد كثيرا لنفس السبب، لكن الناجحين فيها أدركوا أن ذلك مصدر قوتها. والتكرار هنا بالمعنى الذي حدّده الفيلسوف وعالم الموسيقى الألماني تيودور أدورنو بأنه “المعيارية” standardization، أي الوصول لمعادلة بعد محاولات متراكمة، ثم الثبات على تلك المعادلة. ينطبق ذلك على أغاني البوب، سواء في بنية الأغنية (المذهب والكوبليه)، أو المواضيع (الحب والعلاقات)، وكذلك المعايير الصوتية والنغمية (الآلات والمقامات والكوردات). غرض التكرار هنا هو سهولة استساغة الأغنية من العامة. وبالطبع هناك هامش من التغيّر والتطوّر يكون السبب في نجاحها واستمرارها.

وهي رائجة؛ لأنها تستهدف الجميع، كل الأعمار والطبقات. لكن علينا الانتباه هنا بأن العبرة ليس في أن الجميع يسمعها، بل في أنهم لا يخجلون من إعلان سماعها، وهذا شيء مختلف!

وهي تُغنى باللغات الرسمية أو اللهجات البيضاء، محافظة وبسيطة في تركيبها، لا تحرّض اجتماعيا أو سياسيا. حتى في وقت تفاعلها مع الأحداث العامة الكبرى، تتفاعل بشكل متحفّظ، أو زائف ومصطنع ومنافق بحسب ما يرى البعض. ولا تتطلب حالة مزاجية بعينها، ويمكن أن تسمعها في أي مكان وأي ظرف. لكنها تستمد رواجها الأساسي وقبولها الواسع من شيء واحد: اعتمادها من الطبقة المتوسطة.

وهي نظامية، لأنها تُصنع وفق معادلة رأسمالية تصنيعية تجميعية: سوق، وشركات إنتاج، وموزعون، وطاقم حرفيين. تقلّ فيها الذاتية والاستقلالية، وتعلي من شأن التقنية أكثر من الموهبة الفردية، بل وتساهم مباشرة في الارتقاء بتكنولوجيا التسجيل والتوزيع والميكساج. والأهم أنها تمرّ على رقابة حكومية وأجهزة الإذاعة والتلفزيون. فهي نظامية لأنها قبل كل شيء مُعترف بها في المجال العام.

وفق ما سبق، لازالت أغاني البوب المصرية تتمتع بكل تلك الصفات دون جدال. الشكوك الآن تنحصر في شيء واحد، وهو نِسَب انتشارها. يدّعي كثيرون أن أغنيات البوب فقدت رواجها لصالح أغنيات الراب والمهرجان. وفي وقت ثورة يناير قيل نفس الشيء لصالح تيار الأندرجراوند، وظاهرة الفِرَق (“كايروكي”،  “مسار إجباري”، “شارموفرز”، “وسط البلد”، الخ) فهل هذا حقيقي؟

الأرقام ضد التنظيرات

بحسب إحصاءات منصة يوتيوب، في الفترة بين تشرين الثاني/نوفمبر 2020، والشهر نفسه من عام 2021،  تصدّر مطربو الأغنية المصرية التقليدية المراكز الأولى للأكثر استماعا (بينهم مطربون عرب اشتهروا بالأسلوب المصري)، جاء عمرو دياب في المقدمة بـ927 مليون استماع؛ حسين الجسمي ثانيا بـ898 مليون استماع؛ محمد حماقي ثالثا بـ846 مليون استماع؛ تامر حسني سادسا بـ772 مليون استماع.

الإحصاءات تؤكد الأمر نفسه في الفترة من تشرين الثاني/نوفمبر 2021 إلى الشهر نفسه من عام 2022، فقد ظلت الصدارة لنجوم الأغنية المصرية التقليدية (البوب) حتى من مطربين غير مصريين، لكن قوتهم الضاربة كانت بالأغنيات المصرية أسلوبا ولهجة. فجاءت إليسا في المقدمة بـ979 مليون؛ أصالة 906 مليون؛ أحمد سعد 840 مليون؛ محمد حماقي 791 مليون؛ حسين الجسمي 780 مليون؛ شيرين 767 مليون؛ تامر حسني 760 مليون؛ نانسي عجرم 624 مليون.

المفاجأة في الرقم الذي حققه المطرب الشاب مُسلم (معروف بأغنية “واتنسيت”)، والذي حقق 460 مليون استماع، وهو محسوب نظريا على تيار الأغنية التقليدية، لأنه يغني أغاني عاطفية بأصوات أغاني البوب. ومع ذلك سبق كل رموز الموجات الغنائية البديلة.

ويجز، نجم الراب الصاعد بقوة، نال هذا العام، وهو في أوج شهرته، 455 مليون استماع فقط، أكثرها من نصيب أغنية “البخت”، التي حققت نجاحا كبيرا هذه السنة؛ فيما لم يحقق الممثل والمغني محمد رمضان سوى 432 مليون. أما بقية نجوم هذه الموجة فكانت أرقامهم التالي: حسن شاكوش 390 مليون؛ حمو بيكا 188 مليون؛ مروان موسى 112 مليون؛ عنبة 101 مليون؛ مروان بابلو 62 مليون.

جدير بالذكر، أن عمرو دياب كان قد حذف أغنياته الأحدث في السنوات الثمان الماضية من اليوتيوب لبيعها حصرا لمنصة “أنغامي” مع بداية هذا العام، وبالتالي تأخّر ترتيبه قليلا، من قرابة المليار استماع في العام الماضي إلى 457 مليون استماع هذا العام.  يظل أكبر من أرقام كل رموز التيارات الغنائية الجديدة. باستثناء مغني المهرجانات عصام صاصا، الذي تجاوز 600 مليون استماع، وإن كان لا يؤخذ بجديّة، لأنه يصدر في العام الواحد تسعين أغنية، بمعدل أغنية كل ثلاثة أيام، أي يسير بمبدأ إغراق السوق بالكمّ، دون تأثير حقيقي لأغنياته.

أما على منصة “أنغامي”، وهي المنصة العربية الأكثر انتشارا ومصداقية وكمالا، من حيث احتوائها على كل المكتبات الموسيقية العربية، فتصدّر عمرو دياب نسب الاستماع عربيا على المنصة هذا العام، مثلما تصدّرها في كافة السنوات الماضية، بفروق كبيرة عن منافسي الصدارة، إذ حاز على 382 مليون استماع. وفي المركز الثاني ويجز، متقدما مركزا واحدا عن العام الماضي. ثم تامر حسني، يليه محمد حماقي، الذي تراجع مركزين عن العام الماضي، ثم أحمد سعد، الذي صعد صعودا لافتا في الفترة الأخيرة.

يُذكر أن أربعة من الخمسة الأوائل في منصة “أنغامي” محسوبون على الأغنية التقليدية، وواحد فقط من تيار الراب. وبعد أن حقق صاحب المركز الأول ثلاثة أضعاف استماعات صاحب المركز الثاني، فلا يعقل بعدها القول إن أغاني البوب تراجعت لصالح النوعيات الأخرى.

حراك موسيقي.. ولكن!

نعم، الأرقام تقول أيضا إن هناك تمثيلا لا يمكن تجاهله لرموز الموجات الموسيقية البديلة، وهو مؤشر إيجابي عن حراك موسيقي حقيقي. لكن بقدر إيجابية ذلك، ترتّب عليه  شهوة في المبالغات، والخروج باستخلاصات غير واقعية، من النوع الذي نقرأه ونسمعه يوميا في الإعلام والصحافة. فبدلا من تقدير التعددية، والفرح باتساع الساحة لكل الأنماط، يستسهل البعض استخدام الظواهر الصاعدة، بوصفها فزّاعة تهدد بانحدار الذوق العام؛ أو يلوّح بها بهدف الإقصاء وتصفية الحسابات مع رموز المهنة القدامى، أو لتمرير سردية بأن الجديد جاء ليُبني على أنقاض القديم، وأن الموجات الجديدة باتت هي السائد والمسموع حصرا، الفن المصري الآن يساوي حمو بيكا أو ويجز أو عنبة. وهذا ليس حقيقيا.

الأرقام لا تؤيد ذلك. موسيقى البوب التقليدية مازالت الموسيقى السائدة في مصر. هي معلومة لن تصنع مانشيتا صحفيا جيدا، أو نظرية مثيرة للقراءة. لكنها الحقيقة.

أغنية البوب ستظل الأغنية السائدة، لنفس السبب الذي يجعلك لا تسمع سواها في المقاهي والمطاعم الفارهة ونصف الفارهة، أو في خدمات التوصيل الخاصة مثل “أوبر”، والمتاجر العامة، والإذاعات الغنائية المحترمة، رغم أنك تعلم بنسبة كبيرة أن العمال في تلك الأماكن لهم ذائقة أكثر تنوّعا، لكنها خلافية، لن يغامروا بفرضها عليك، بأوامر صاحب العمل، والأخير هنا سينحاز للبوب، ليس لشيء سوى إدراكه، بفطنة المسؤولية والبيزنس، أن قائمة الأغاني الملعوبة في أي مكان تعبّر بشكل ما عن المكان. أغاني البوب ربما ليست الواجهة الأفضل موضوعيا وتحليليا، لكنها العامل المحايد والمشترك بين الجميع، وبالتالي هي الخيار الآمن باختصار. وهذا عامل قوتها الكبير، الذي تتجاهله كل التنظيرات.

إذا، فرغم كل المقالات والبوستات والتغريدات والبيانات الإعلامية الشبقة لصناعة تغيير على الورق أو بالإيحاء والإلحاح، تظلّ أغاني البوب سائدة رقميا، وستظل فلسفيا، لكنها الآن تسود في مشهد موسيقي أكثر إيجابية، متنوّع وبه مساحة للجميع، ولا شك في أن ذلك انعكس علي أغنيات البوب نفسها، فتطوّرت في السنوات الأخيرة بحكم المنافسة ورياح التأثير من هنا وهناك. مع احتفاظها بعنصر التقليدية، وصارت بعض أغنياتها تفاجئنا بمعدلات متفاوتة.

وكما اتفقنا، رغم عنصر التقليدية في أغاني البوب، فهناك دائما هامش معين لتغيّرها، قد تكون حدوده عند تبديل الصوت والكلمة، وقد يصل لتبديل الوجوه بوجوه أخرى. ربما تكشف السنوات القادمة عن هامش جديد لا نعرفه، فالمنافسة ما زالت موجودة وساخنة ومفيدة، والسيادة على المدى البعيد وحدها قادرة على التمييز بين من كان ينجح وفق مشروع فني مدروس، ومن كان ينجح بـ”البخت”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.