صادف هذا الشهر، شباط/فبراير، الذكرى الـحادية والثلاثين لمجزرة حماة، التي ارتكبها النظام السوري عام 1982، وهي المجزرة التي لم يعرف “العالم” عنها شيئا، وكل ما نمتلكه بخصوصها قصاصة إخبارية في صحيف نيويورك تايمز الأميركية تعود لذلك الزمن. ربما ترك “العالم” أهل المدينة لمصيرهم لأنه لم يرَ أو يسمع، أو هكذا ظن كثيرون.

عاد الحديث عن “العالم” مع انطلاق الثورة السوريّة عام 2011، كان الرهان حينها التالي: كلما شاهد العالم فظائع النظام السوريّ، ازدادت قدرته على التدخّل وإنقاذ حياة البشر من الموت. وجّهت النداءات إلى “العالم” من كل مكان، من تحت القصف والأنقاض، من المشافي، في بناء الأمم المتحدة نفسه. كل ذلك تحركه الرغبة بعدم تكرار سيناريو حماة.

انتشرت صور الجثث ومعاناة الأطفال، ورآها كل “العالم”، لكن “الخذلان” كان رد الفعل الذي لاقاه كل من اختبروا المأساة. العالم يشاهد بينما نحن نموت! “العالم” بالمناسبة ذكره أيضا سهيل الحسن، القائد العسكري في النظام السوري، الذي يرى أن هناك “أعداءً للعالم”، وسوريا جزء منه، مرددا بلاغة هزلية لا يمكن فهمها، لكنها تتمحور حول “العالم”: “على العالم أن يعرف أعداء العالم”، يقول الحسن.

يخضع  “العالم” حاليا لاختبار كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا، كان المأمول أن يكون واحدا، يتجاوز الحدود السياسيّة، في سبيل “البشر”، خصوصا أن قنوات الاتصال التي تشكّل “العالم” فعّالة، أي وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، الذي “يشبّك” الجميع. فضلا عن حضور منظمات دولية وغير حكومية عابرة للحدود. ولكن يبدو أن “العالم خذل السوريين” من جديد.

ما ذاك “العالم” بالتحديد، الذي ينتظره السوريون؟ سؤال تهكّمي، يمكن طبعا حسم جوابه بالقول إنه “الغرب”. لكن للموضوع جوانب أكثر تعقيدا. فقد ارتبطت معظم الثورات العربية بمجموعة قناعات ورهانات عن العولمة، بوصفها تغيرا عالميا شبه حتمي، سيؤدي لانتشار الحرية والديمقراطية، ومنع تكرار المجازر والحوادث دموية. “العالم” قادر على تجاوز المحلي والسيادي والسياسي، لأنه بات معنيا بالكوني والحقوقي العابر للحدود والثقافات.

ربما كانت الحرب السورية أحد أهم العلامات على سذاجة هذا الرهان، ففيها برزت السيادية بأكثر أشكالها وضوحا؛ وتوضّحت تحالفات وتكتلات دولية وإقليمية؛ فضلا عن تراجع النزعة الحقوقية العالمية لمصلحة الواقعية السياسية، إلى درجة يمكن التساؤل فيها: هل يمكن اعتبار الحرب السورية أولى حروب نزع العولمة، سابقة بذلك الحرب الأوكرانية نفسها؟ وما الذي تقوله الحوادث الدموية التي شهدتها سوريا عن كثير من المفاهيم الأساسية لأيديولوجيا العولمة، مثل “العالم المفتوح” و”المواطن العالمي” و”عالمية القيم”؟

“الخط الأحمر” للعالمية

يُقال أن سوريا كشفت وجه “العالم” الحقيقي، إذ  تُرك الناس لموتهم، يوثّقونه ويروونه ويبثّونه للعالم، الذي لا يفعل شيئا، تستخدم الباحثة الفرنسيّة إيما أوبان بولتانسكي عبارة “جرائم على المكشوف” لوصف الحالة السورية، في إحالة إلى ممارسات النظام السوري، و”العالم” الذي “لم يحرّك ساكنا”.

كانت أبرز محطات عجز “العالم” قضية استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي ضد معارضيه. نقرأ في كتاب “الخط الأحمر” للصحفي الأميركي جوبي واريك، الصادر عام 2021، أن عدم تدخّل الولايات المتحدة بعد مجزرة الكيمائي سببه أن القرار لم يُتخذ من قبل الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما،  بل عُرض على مجلس  الشيوخ الأميركي، الذي رفض التدخّل في سوريا. بعبارة أخرى، فإن قرار إنقاذ حياة “فئة” ما من سكان العالم، كان بيد جهتين، إما السيد Sovereign، القادر على اتخاذ القرار لوحده، وهو الرئيس الأميركي؛ أو هيئة “ديمقراطيّة”، تقرر إن كانت ستخوض الحرب أم لا. وفي كلتا الحالتين نحن أمام سياسة “وطنية” داخلية أميركية، تتعلق بالسيادة وتوزانات القوى في بلد معيّن، وليس أمام “عالم” مجرد.

انقسم “العالم”، إثر جريمة الكيميائي إلى معسكرين: الأول ينكر، ويدافع عن نظام الأسد؛ والثاني يتّهم النظام، ويحاول توثيق استخدامه للسلاح المحرّم دوليا. وهو لم يكن انقساما بسيطا بين دول ومحاور، بل ستجد داخل كل دولة، ديمقراطية كانت أم تسلطية، ممثلين عن كل موقف. لا تجانس في ذلك “العالم”، بل قوى متصارعة، لا توجد جريمة يمكن أن تتفق عليها، وعلى ضرورة التدخل الفوري لإيقافها. سبب الاختلاف لم يكن الجريمة نفسه، بل سياقاتها ومكان وقوعها، ما يعني أن “البشر” ليسوا متساوين، بلّ فئات لها تعريفات سياسيّة ترتبط بالمكان.

لولا أيديولوجيا العولمة فلربما اعتبرنا كل الكلام السابق، عن السيادة وتوازنات القوى والصراعات والتعريفات السياسية والمكانية، بديهيا. وكان من المفترض أن يكون بحسبان كل حراك سياسي أو احتجاجي في منطقتنا، ولكن ربما كان لا بد من آلام ودماء الحرب السورية، والربيع العربي عموما، كي تُنتزع تلك الغشاوة الأيديولوجية عن عيون أنصار التغيير في المنطقة. ولكن هل انتزعت حقا؟

اقتصاد العولمة المحليّة

قد يساعدنا تذكّر الجانب الأكثر “افتراضية” في اقتصاديات العولمة بفهم الحالة السورية، إذ تنقسم نماذج الربح على  وسائل التواصل الاجتماعي إلى نوعين، الأول: “قدّم محتوى، واجمع لايكات من أنحاء العالم، فتنال النقود”؛ والثاني: ” ادفع نقودا ، ويصبح محتواك عالميا”.

 المعادلة الأولى حوّلت “العمل” إلى شكل من أشكال اللعب أمام الشاشة، نشارك فيه حياتنا وأجسادنا ومعلوماتنا كي “نكسب”، عبر وسيط التواصل الاجتماعي. والمقصود بـ”العمل” هنا ليس النشاط الساعي لتحقيق الربح المالي المحض، بل أيضا العمل السياسي والثقافي، بما يطمح إليه من مكاسب معنوية ومادية.

إلا أن الملفت أن الربح ذي خصائص محليّة وليس عالمية، فليس كل منشور على تيك توك أو فيسبوك ينال الربح ذاته حتى لو تساوى عدد اللايكات. كل “لايك” له ثمن، مرتبط بمكانه، وجنسية صاحبه، ومكان الصفحة. أي بصورة أدق، كل فرد “يُحاسب” وفق الموقع الجغرافي الذي يتواجد به، ووفق أماكن وجود جمهوره من أصحاب اللايكات. بمعنى أن “عولمة” وسائل التواصل الاجتماعي، وما تبديه من اقتصاد افتراضي قائم على المشاركة والمراقبة، شأن شديدة المحليّة، ينبني واقعيا بصورة دقيقة على الحدود السياسية الرسميّة.

ما سبق يعني أن اللعب/ العمل ضمن قنوات ومساحات تدّعي العالمية والعولمة، وتضمن التعبير المفتوح وتنويعاته، ليس إلا واجهة لشركات خاصة، سلعتها الأساسية وهم “التواصل” و”المشاركة”، في حين يقوم ربحها على قوانين السوق المحليّة، المرتبطة بالحدود الوطنيّة ومخدمات الإنترنت المحليّة.

ربما كان يجب استخلاص نتائج سياسية من هذا، أهمها أن وهم “التواصل غير المحدود” لن يغيّر حقيقة أن السوريين موجودون داخل حدود وطنية، أهميتها وقيمتها لمنظومة التواصل العالمي محدودة للغاية، وبالتالي فآلامهم ودماؤهم ذات قيمة أقل من غيرهم، ولم يصبحوا يوما “مواطنين عالميين”، يتمتعون بالحقوق العالمية الموحّدة والمشتركة. مَن هم إذا المواطنون العالميون الفعليون؟

امتياز “المواطن العالمي”

فكرة “العالم”، وغياب الحدود، وإمكانية تجاوز العوائق السياسيّة والثقافية، مرتبطة بالتكنولوجيا إلى حد بعيد، والقدرة على الاتصال ونقل المعلومات، ما خلق ما يسمى “المواطن العالميّ”، وهو فرد ينتمي إلى فئة تبدو ذات أخلاق موحّدة، على رأسها الإيمان بالعالميّة. إلا أن أولئك “المواطنين” لا يعبرون الحدود عبر التكنولوجيا وحدها، بل غالبا يكونون من أصحاب جوازات السفر المدلّلة، التي تتيح لهم حرية الحركة. جنسياتهم، المرتبطة بسيادة وقوة دولهم، هي ما يعطيهم الامتياز العالمي.

عادة ما يكون الأفراد العالميون شديدي “اليساريّة”، لا بصورتها الشيوعية أو الأناركيّة، بل تلك “المسترخيّة”. أشخاص لا سياسيون، رحّالة، متنقلون من مكان إلى آخر، يصوّرون الفيديوهات الترويجية عن أنفسهم وأخلاقهم.

الناشط المصري أو السوري أو السنغالي لا يمتلك تلك الامتيازات، وسيعاني طويلا على أبواب السفارات وأمام الحدود، أي يواجه الوطنية والسيادة في كل حركة من حركاته. وأفضل ما يمكنه فعله، لتجاوز الحدود، ركوب قارب في البحر، ليرحّب به “المواطنون العالميون” بوصفه لاجئا يستحق التعاطف.  

كيف آمن الناشطون العالثمالثيون بأسطورة “المواطن العالمي” وهم يتعرّضون لكل هذا؟ هل كانت أيديولوجيا العولمة وقيمها ساحرة ومُغيِّبة للوعي لهذه الدرجة؟

ما القيم العالمية؟

ربما الأفضل أن نطرح سؤالا آخر: ما هي بالضبط القيم التي أكدت عليها أيديولوجيا العولمة؟ سؤال ساذج، ولكن فعلا ما المبادئ الأساسية، التي ظنّ كثيرون من ناشطي منطقتنا أن “العالم” يدافع عنها، وتصرّفوا على هذا الأساس؟  

ربما كانت الحريات الجندرية والدينية مثلا، فناشطو العالم “اليساريون” تخلّوا عن حماسهم في نصرة كثير من القيم، التي كانت سابقا تعدّ من أساسيات الديمقراطية، مثل حرية التعبير (مع “الصواب السياسي”)؛ واحترام نتائج صناديق الاقتراع (ردود الفعل المستنكرة لنتائج استفتاء “بريكست” في بريطانيا مثال جيد عن هذا)؛ وحقوق العمل والضمان الاجتماعي الأساسية (تراجع “الاجتماعي” لحساب الفرداني).

 كشف مونديال قطر الأخير بدقة عن التغيّرات في قيم “العالم”، فتحوّلت الاعتراضات على استضافة قطر للمونديال من قضية حقوق إنسان، وعمال يعيشون أسوأ الظروف، إلى ضجيج حول الميول الجنسية والتعبيرات الجندرية. ما حصل أن “العالم” نقل المشكلة من صراع حول عبوديّة مقنّعة، أو حتى صريحة، نحو نزاع حول الهوية، وأصبح الجدل يدور حول احترام “التقاليد المحليّة”. أي بصورة ما، ليس لدى “العالم” ما يقدّمه لمن يموتون تحت القصف، أو وهم يعملون كالعبيد، إلا أحاديث متراخية حول الهويات، و”الاعتراف” بها. وقد أعطى “العالم” ما عنده عندما جاءه السوريون لاجئين، ألم تمتلئ الصحافة الأوروبية بالنقاشات حول الهوية و”الإسلام” مع موجة اللجوء؟ و”ناضل” الناشطون الغربيون كي ينال اللاجئون السوريون “الاعتراف”؟

لا بد من الإشارة أن هناك “عالم” آخر،  لديه التكنولوجيا ووسائل التواصل والقيم العالمية الخاصة به، ونعني أساسا دولا مثل روسيا والصين، بناشطيها وقراصنتها، وشركات المرتزقة العالمية التي تديرها. ومن أهم القيم الذي يسعى ذلك “العالم” لنشرها “احترام السيادة الوطنية”، وربما كان تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في الدورة التاسعة والأربعين من مؤتمر ميونخ الأمني عام 2013، تلخيصا جيدا لتلك القيم: “مَن مِن الحكام حاليا شرعي، ومَن لا شرعي؟ متى يكون مقبولا التعامل مع أنظمة قمعية؟ ومتى يكون مقبولا دعم الحركات العنفية التي تريد الإطاحة بها؟”.

مساندة روسيا والصين للنظام السوري كانت من أولى علامات تفكك “عالم” العولمة التي ألفناه، أو توهمناه. وبعدها صار الحديث عن “نزع العولمة” أكثر حضورا وانتشارا في كل مكان.

أين يمكن أن نجد “العالم”؟

إلا أن “العالم” موجود بالنهاية، المشاهد القادمة من خيم اللاجئين السوريين، التي تُرسم عليها شعارات الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية، تدلّ على فعل كيان دولي ما. وربما الأجدى التساؤل عن ذلك الفعل بالارتباط مع مفاهيم السيادة و التمايزات الوطنية والإقليمية، التي لم تنته يوما.

 يكشف “العالم”، حين الحديث عن دول “الجنوب”، عن نموذج فريد للسيادة، ينطبق على الشأن السوري. لفهم هذا النموذج نعود إلى تعريف السيادة السياسية، بوصفها السلطة على التراب والأفراد، الساعية إما لتأمين حياتهم Biopolitcs، أو تهديدها Necro-politics. ما حصل في سوريا أن السيادة السياسية قررت أن تسحب يدها من منطقة جغرافية تابعة لها، أو بالأصح تحتويها عبر استثنائها Inclusion via exclusion. بهذا الأسلوب، تترك المساحة الجغرافيّة وقاطنيها لمصيرهم. وفي هذا الفراغ يظهر دور “العالم”.

يظهر “العالم” في المساحات المستثناة من السيادة عبر المنظمات غير الحكومية، التي تعمل على تأمين “الحياة” في المناطق التي انسحبت منها “الدولة الوطنيّة”،  أو تلك التي بقيت على الهوامش. هنا نحن أمام نموذج سياسي -اقتصادي عالمي مثير للاهتمام، لمّح إليه بشار الأسد نفسه: لماذا الاكتراث لحياة من هم خارج “نظام الطاعة” إن كان “العالم” يتكفّل بهم. هكذا يظل النظام السوري، وضحاياه، جزءا من “العالم”، عبر ما يصلهم من مساعدات، ووفق منطق “إدارة الأزمة” بالحد الأدنى من الإغاثة، وليس حلّها.

تلك هي “العالمية”، التي تكشّفت في العصر الذي يميل البعض لتسميته “نزع العولمة”. إنها صورة مغايرة تماما للأحلام عن “القرية الكونية الواحدة” و”رياح التغيير”، التي سادت منذ نهاية الثمانينات. وربما لا يجب أن نبحث عن “العالم” بعيدا، فالصور القادمة من سوريا هي تكثيفه الأكثر صدقا، والطريقة الأكثر دقة لفهمه، بعيدا عن أيديولوجيات العولمة، التي باتت عتيقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.