يمكن اعتبار مصطلح “ثقافة الإلغاء” Cancel Culture مستحدثاً إلى حد كبير، وأحد المفاهيم المرتبطة بما يُعرف بـ”الحرب الثقافية” في الولايات المتحدة الأميركية، التي تصاعدت بشدة، منذ وصول الرئيس الأسبق باراك أوباما إلى البيت الأبيض، بين اليسارين/الليبراليين، الموزّعين في أجنحة الحزب الديمقراطي الأميركي المتعددة؛ واليمينيين/المحافظين، الأقرب للحزب الجمهوري، سواء بصيغته الشعبوية، المتداخلة مع ثقافة البوب الأميركية pop culture، أو بصيغته العقائدية الأكثر تشدداً وانغلاقاً. وبالتالي يصعب فهم المصطلح خارج إطار الاستقطاب السياسي الأميركي المتصاعد، وميله لتمرير كل المسائل الخلافية، على المستوى الاجتماعي والعرقي والجنسي والطبقي، عبر آليات الثقافة الجماهيرية، والمؤسسات المنتجة لها.

لا تعني  “ثقافة الإلغاء” بالضرورة الرقابة أو المنع أو الاغتيال المعنوي لأفراد معينين، بسبب مواقفهم تجاه السلطة الحاكمة ومؤسساتها، بل هي أقرب لهيمنة أخلاقية/معنوية سائلة، ذات فعالية كبيرة داخل المؤسسات الثقافية الأبرز، من وسائل إعلام وجامعات وشركات صناعة ترفيه ودور نشر. ولكنّ تلك الهيمنة لا تأتي من مصدر واحد، يمكن تعيينه بسهولة، أو تنتشر من أعلى لأسفل بشكل هرمي، وإنما يمكن اعتبارها أقرب لمجموعة من التيارات المتفرّقة غير المركزية، التي لا يجمعها إلا تصوّر عن الثقافة واللغة السائدة، بوصفهما ميداناً أساسياً لكل من العدوان والاضطهاد والتهميش من جهة؛ ومنطلقاً محتملاً للتغيير الاجتماعي من جهة أخرى. ولذلك فإن “الإلغاء” لا يسعى أساساً لفرض التجانس في القول والتعبير، بقدر ما يحاول تحقيق نوع من “العدالة الاجتماعية”، عبر استبعاد كل مُنتَج ثقافي يمكن أن يُفهم منه ممارسة نوع من “العداون”، سواء الكبير أو المصغّر، على فئة اجتماعية ذات حساسية معينة، نتيجة معاناتها التاريخية؛ تهميشها الاجتماعي والسياسي أو عدم تحصيلها “الاعتراف” المعنوي والثقافي. ولأول مرة، ربما منذ بداية عصر التنوير، يُعتبر السعي للإلغاء الثقافي تصرّفاً “تقدمياً”، يمكن التشكيك بمن يرفضونه، بوصفهم محافظين أو يمينيين محتملين.

بهذا المعنى فإن مفهوم “ثقافة الإلغاء” يحتوي بذاته معظم العناصر التأسيسية لما يمكن تسميته “المنعطف الثقافي”، أي التغيرات التي طرأت منذ ثمانينات القرن الماضي على مجالات عدة، ومنها البحث الأكاديمي؛ الحركات الاجتماعية وحركات الحقوق المدنية؛ تعريف الذات الجمعية والفردية، نحو اعتبار الثقافة واللغة والهوية والتجربة الخاصة، العناصر الأساسية للتفسير والفعل، وذلك بعد عقود من سيادة الطروحات الاجتماعية/الاقتصادية، التي ركّزت على عناصر أخرى، مثل البنية والطبقة والشرط المادي.

قد تكون “ثقافة الإلغاء” أميركية للغاية، ولكنها، كأي ظاهرة أميركية أساسية أخرى، لا تحتاج جهداً كبيراً كي تصبح “عالمية”؛ كما أنها، من جهة ثانية، تكثّف، وبأكثر الأشكال جاذبية وإثارة، جانباً كبيراً من الحالة الثقافية السائدة، بكل ما مرّ بها من تغيّرات، عبر أزمنة وبلدان مختلفة.

وبذلك يبدو أن حضور هذه الثقافة في العالم العربي جانب من شرط عالمي: جزء من الفئات العربية الأكثر انفتاحاً و”تقدمية” سيتأثر بالتأكيد بثقافة الإلغاء، ويعيد إنتاجها ضمن الظرف المحلي. وقد يتجسّد هذا أساساً في النسخة العربية من “الحركات الجديدة”، مثل نسوية المنظمات المدنية ووسائل التواصل الاجتماعي (التي يميل البعض لتسميتها “نسوية الموجة الرابعة”)؛ جماعات حقوق المثليين؛ مناهضة العنصرية والتنمّر.

إلا أن تبيئة “الإلغاء” العالمي “التقدمي” تأتي ضمن سياق عربي خصب في إلغائيته، تتراكب فيه تيارات متعددة، ومتضاربة في كثير من الأحيان، من أشكال القمع السياسي والاجتماعي والثقافي. ولذلك فقد يكون من المثير محاولة رصد كيفية تفاعل “ثقافة الإلغاء” المستحدثة مع أشكال الإلغاء العربي الأكثر “أصالة”: لدينا الإلغاء السياسي/الثقافي المرتبط بنموذج دولة الاستقلال العربية، التي لم تكتف بإلغاء معارضيها من أفراد وحركات سياسية، بل حاولت إلغاء مجموعات إثنية وعرقية ولغوية بأكملها، في إطار تشكيلها لهوية “الأمة”؛ وكذلك الإلغاء الديني/الاجتماعي، المرتبط بالتصورات عن الإسلام المعاصر، وما يسمى “قيم المجتمع”، والمتجسّد قانونياً في عدد من التشريعات، مثل “ازدراء الأديان” و”الآداب العامة”؛ وفوق هذا وذاك إلغاء، يمكن وصفه بـالمعارض، أو حتى “الثوري”،  تصاعد أثناء ثورات ما يعرف بـ”الربيع العربي” وبعدها، في محاولة من النخب المعارضة لسحب الشرعية الثقافية من كل من اعتبروا متواطئين مع الأنظمة الحاكمة، أو مدافعين عنها.

يمكن إذاً طرح سؤال ثقافة الإلغاء العربية على عدة صعد، وباستقلال نسبي عن تعريفاتها الأميركية والعالمية. ولكن، بكل الأحوال، يبدو أنه بات من الصعب فهم الشرط الثقافي العربي المعاصر نفسه، دون الحديث عن “الإلغاء”، والذي قد لا يكون بالضرورة عاملاً معرقلاً، بل له جوانبه “المنتجة”. فكثير من الإبداعات الثقافية الجديدة جاء في جدل مع “إلغاء” ما: محاولة التهرّب منه والتمرّد عليه؛ التفاعل مع شروطه وقيمه؛ والابتكار في التعاطي مع الحدود التي يفرضها.    

كيف تبدو ثقاقة الإلغاء العربية المعاصرة؟ وما الذي قامت بتحفيزه أو عرقلته؟ وهل يمكن الحديث عن ابداعات أو فرص مهدرة بسبب الإلغاء؟

موقع “حيز” يطرح هذه الأسئلة، ويفتح مجالاً لمحاولة تقديم أجوبة مبدئية عنها، عبر سلسلة من المقالات، تحاول تناول المسألة من جوانب متعددة: مآلات عواصم “الحرية الثقافية” العربية؛ القضيتين الكردية والأمازيغية؛ النسوية والاتهامات الموجهة لها بنشر نمط من “الصوابية” الإلغائية؛ وكيفية تعامل ما تبقى من نموذج دولة الاستقلال العربية، وكذلك الثورات ضدها، مع مسألة الإلغاء الثقافي.      

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.