“وحدة الهلال والصليب”: لماذا لا يوجد مسيحيون في فِرق “الساجدين”؟

“وحدة الهلال والصليب”: لماذا لا يوجد مسيحيون في فِرق “الساجدين”؟

أعلنت صفحة “كنائس وسط القاهرة” على فيس بوك، في مطلع شهر أيلول/سبتمبر المنصرم، عن تأسيس نادي “عيون مصر”، تحت إشراف الأنبا رافائيل، الأسقف العام، وفتحت باب التقديم للفئات العمرية المختلفة لفريق كرة القدم، الذي سيشارك في دوري الدرجة الرابعة العام، حسب بيان الصفحة.

 هذا الخبر أثار لغطا كبيرا بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما استدعى تعقيبا سريعا من وزارة الرياضة المصرية، التي خرجت لتؤكد، في بيان رسمي لها، أن كافة اللوائح والقوانين المصرية، المنظّمة للعمل الشبابي أو الرياضي، تحظر تماما إقامة أو إنشاء أو إشهار أي منشآت أو هيئات شبابية أو رياضية على أساس ديني.

الحادثة أدت أيضا لجدل أكثر تجذّرا في المجتمع المصري، وأكثر شمولا، حول علاقة المسيحيين المصريين بالرياضة، وبكرة القدم تحديدا، وما يُصاحبها من قصص وروايات كثيرة، بين الواقع والخرافة. ليبقى السؤال حاضرا: ما الذي دفع الكنيسة لاتخاذ مثل هكذا قرار؟ وما هي التبعات المصاحبة لإنشاء نادٍ ذي هوية دينية؟

للملتزمين دينيا فقط

قبل التسرّع في اتهام المسيحيين المصرين، وكنائسهم، بالميل للطائفية، دعنا نسأل سؤالا في البداية، باعتبار كرة القدم هي اللعبة الشعبية الأولى في مصر: هل تعرف لاعبا مسيحيا مصريا بارزا في أحد أندية الدوري الممتاز حاليا؟

 نعتقد أن إجابتك ستكون في الغالب مثل إجابتنا، وهي “لا”. حتى وإن فتشنا في دفاتر اللاعبين السابقين، ربما لن نجد سوى لاعبا بارزا وحيدا وهو هاني رمزي، قائد منتخب مصر السابق، وبعض اللاعبين الأقل شهرة منه، والذين ظهروا على فترات زمنية متباعدة. لكنّ هذا غير منطقي، باعتبار أن المسيحيين يشكّلون حوالي عشرة بالمئة من عدد سكان مصر، وهي نسبة تكفي لأن يكون تاريخ اللاعبين المسيحيين في الرياضة المصرية عموما، وفي كرة القدم خصوصا، أكبر مما هو عليه الآن بكثير. أين المسيحيون إذا؟

 يُرجع البعض السبب إلى التمييز والاضطهاد، اللذين يُمارسان على المسيحيين في اختبارات الناشئين للأندية المختلفة، فكثيرا ما يتم استبعاد بعض الناشئين من اختبارات أكبر الأندية المصرية، لأنهم فقط مسيحيون.

في الخمسة أعوام الأخيرة فقط، أُثيرت قضيتان لنبذ طفلين مسيحيين من اختبارات الناشئين في النادي الأهلي لكرة القدم. الأولى تعود لعام 2016، وتخصّ طفلا يُدعى مينا عصام، الذي صرَّح أنه تفوّق على 250 طفلا متقدمين لمركز حراسة المرمى، وأبلغه المسؤولون بالحضور للاختبار النهائي في فرع النادي في مدينة نصر بالقاهرة. ذهب متحمِّسا، ليجد أن اسمه حُذف من القوائم.

والأخرى تعود لطفل يُدعى توني عاطف، ذهب لاختبارات النادي الأهلي، واستطاع إقناع المُختبرين بموهبته، إلا أنهم أقصوه لأن الصليب مرسوم على يده، وفقا لتصريحات أخيه الأكبر.

 في كلتا الواقعتين، خرج النادي الأهلي إما لنفي حدوث ذلك، أو لتوجيه دعوة لإعادة اختبار الطفلين. لكن يمكننا الإشارة إلى أنّ هذه الحوادث غيض من فيض مما يعانيه المسيحيون في الرياضة المصرية. وإذا أفلت اللاعبون في اختبارات الناشئين، فإنهم يواجهون معضلة التوقيع مع نادٍ كبير في الدوري الممتاز، حتى وإن كانت إمكانياتهم تسمح بذلك. وهناك عشرات بل مئات القصص، رواها مسيحيون مصريون، تحكي معاناتهم مع أندية ومدربي الفرق، بسبب ديانتهم.

 يقول مينا سمير، شقيق أحد اللاعبين السابقين، ويُدعى أبانوب سمير، أن شقيقه تقدّم لاختبارات نادي “الاتحاد السكندري”، وبعد أن أعجب القائمون على النادي بموهبته، طلبوا تغيير اسمه شرطا رئيسيا لضمّه للفريق.

ويؤكد حقيقة إقصاء اللاعبين المسيحيين، على المستوى الوطني، تصريحات سابقة لحسن شحاتة، المدرب التاريخي لمنتخب مصر (المُلقّب أحيانا بـ”فريق الساجدين”) الذي قال نصا: “لا يمكن أن ينضمّ لاعب إلى المنتخب الوطني، إلا إذا كان ملتزما دينيا وأخلاقيا”. وحين سُئل عن غياب الأقباط عن صفوف المنتخب الوطني، نفى شحاتة وجود أي تمييز في كرة القدم المصرية، قائلا : “ليس هناك أي لاعب قبطي، في أندية القسم الأول أو الثاني، ظهر بمستوى يستحق الانضمام للمنتخب”، وأضاف: “أنا أضم اللاعبين من الأندية وليس من الشوارع”.

 وفي إجابته على سؤال حول السبب وراء عدم ذهاب المدربين إلى الأماكن التي يتواجد بها اللاعبون الأقباط، قال شحاتة إنه إذا “مَرّ بلاعب قبطي بمستوى جيد في مراحل الناشئين في الأندية، فسيضمّه، لكنه لن يذهب لأحد المراكز الرياضية القبطية بحثا عن اللاعبين”.

ومع تأهّل مصر لمونديال روسيا عام 2018، لأول مرة منذ عام 1990 ، بدأت قضية التمييز ضد الأقليات الدينية في كرة القدم المصرية تُتداول في وسائل الإعلام العالمية، التي ركّزت على تقرير نشرته منظمة “التضامن القبطي”، تحدّث عن العقبات التي يواجهها المسيحيون المصريون في مسيرة الاحتراف الكروي، إذا لعب في ذلك العام 540 لاعبا في أندية الدرجة الأولى لكرة القدم في مصر عموما، ليس بينهم سوى لاعب كرة قدم واحد مسيحي. والأمر لا يقتصر على كرة القدم فقط، بل يمتد إلى الرياضات الأخرى.

 في أعقاب دورة الألعاب الأولمبية في ريو دي جانيرو عام 2016، أرسلت منظمة “التضامن القبطي”، ومركزها الولايات المتحدة، شكوى للفيفا واللجنة الأولمبية الدولية، تقول فيها إن “مصر تمارس تمييزا ضد الرياضيين المسيحيين”، مستنده إلى أنه لم يكن هناك مسيحي واحد ضمن الرياضيين المصريين المشاركين في أولمبياد ريو، والبالغ عددهم 122 رياضيا، مضيفة أن “الوفد المصري في أولمبياد لندن في العام 2012 أيضا لم يتضمّن أي قبطي”.

واعتبرت المنظمة أن “غياب الرياضيين الأقباط عن الفرق الأولمبية، وكذلك عن الفرق المحترفة وشبه المحترفة، هو نتاج للتمييز المتجذّر في إدارة الألعاب الرياضية وكرة القدم في مصر، وفي المجتمع المصري بصورة عامة”.

كيف بدأ كل هذا الاقصاء الممنهج للمسيحيين في مصر؟ هل هو سياسة دولة أم ممارسات اجتماعية متجذّرة ثقافيا بين المصريين المسلمين؟

من الثورة إلى “تديين كل شيء”

قبل قرنٍ من الزمان، بدأت مقدمات تأسيس الاتحاد المصري لكرة القدم، في خضم ظرف تاريخي، وذلك إبان ذروة أحداث ثورة 1919، التي اجتمعت فيها كل أطياف الشعب المصري، من مسلمين ومسيحيين، رجال ونساء، للمطالبة بالاستقلال، ورحيل الاحتلال البريطاني عن البلاد.

تذكر كل الأعمال التاريخية، التي تؤرّخ لثورة 1919، أن أحد أبرز شعارات الثوّار المصريين في وجه الإنجليز كان “وحدة الهلال والصليب”، دلالة على تخطّي المصريين للطائفية الدينية. خاصة أن حماية الأقليات المسيحية كان أحد مبررات الاحتلال البريطاني لمصر.

تأثّر تأسيس الاتحاد المصري لكرة القدم بالروح الوطنية تلك، وكان الرعيل الأول من الكرة المصرية يحوي عددا كبيرا من المسيحيين، مقارنةً بالأعداد الحالية. فما الذي أدى إلى هذا الخلل في علاقة المسيحيين بالرياضة في مصر؟

في كتابه “الأقباط والرياضة” يذكر نور قلدس، الكاتب المختص بالشؤون الرياضية، أنه “منذ مطلع السبعينيات تم تديين كل شيء في البلاد، وتم تقسيم مصر على أساس ديني، وهو الأمر الذي امتد إلى الرياضة، فأصبح كل لاعب يتباهى بتدينه”، وهو ما ترتّب عليه مستقبلا أن يتحوّل التديين إلى منظومة في الفرق الرياضية كلها، ومن ثم استبعاد غير المسلمين تلقائيا.

كما يرى قلدس أن “الرياضة تحوّلت إلى ساحة يقوم فيها الدين بدور حاسم”. يمعنى أن الرياضة كانت من أهم ميادين ما يسمى “الصحوة الإسلامية”.

إلا أن إلقاء اللوم كله على “الصحوة” قد يحوي بعض التبسيط. هاني رمزي، النجم الرياضي المسيحي الأبرز على الإطلاق، يؤكد في كل حواراته التلفزيونية أنه “لم يصطدم بالتمييز الديني طوال مسيرته لاعبا أو مدربا أو حتى إعلاميا”. ويضع اللوم على سلبية المسيحيين المصريين، متحدثا دائما عن “ضرورة كسر الأسر المسيحية للحاجز النفسي، وضرورة تشجيعهم لأبنائهم على الدخول لمعترك الرياضة في كافة الألعاب”. وعلى الرغم من أن نجوما مسلمين، مثل أحمد حسام ميدو، لا يتفقون مع رمزي في الرأي، ويؤكدون  على حقيقة التمييز ضد المسيحيين، إلا أن في كلام رمزي نقطة مهمة، وهي “الحاجز النفسي” الذي يواجهه المسيحيون.

ربما كان تراجع ما يمكن تسميته مشروعا وطنيا مصريا هو أحد أهم أسباب انكفاء الأسر المسيحية على ذاتها وكنائسها. لا “أمة” مصرية تكتشف نفسها اليوم. بل يغطي الخوف الجميع. دعك من أن تعريف “الأمة المصرية” لنفسها، بوصفها وحدة هلال وصليب، قد يكون إشكاليا بعض الشيء، ومقدمة لكثير من الانقسام الذي حدث فيما بعد.

درءا لـ”وجع الدماغ”

لم تعد الرياضة تقتصر على كونها أداة ترفيه، فمع زيادة الاستثمارات في المجالات الرياضية، صار اللعب الاحترافي في ناد رياضي فرصة للترقي الاجتماعي، هذا الأمر يصحّ في مصر، وبين أقلياتها وطبقاتها الأدنى، كما يصحّ في فرنسا مثلا. وبالتالي فإن استبعاد المسيحيين من الرياضة المصرية له جوانبه الطبقية بالتأكيد.

يبدو أن الكنائس المصرية باتت مُدركة لأهمية الرياضة، ليس فقط على المستويين الاجتماعي والثقافي، وإنما على المستوى الاقتصادي أيضا، وهو ما دفعها لإنشاء دوري خاص بها، “دوري الكنائس”. وفعلت ما كانت تفعله دائما، أي خلق نموذجها الذاتي، على مقياس صغير، بشرط أن يخصّ المسيحيين فقط.

يُشارك في دوري الكنائس أكثر من 700 فريق من مختلف الأعمار، ويجري وفقا لقواعد تتحكّم في العقوبات، وشكل الانتقالات والإعارات. وكذا ينتظم الدوري في عدة درجات، ويجري بنظام الصعود والهبوط، وتديره لجنة مُشكّلة بواسطة مندوب من كل فريق، تعتبر اتحادا للكرة المسيحية، تحت إشراف كنائس ضاحية مصر الجديدة في القاهرة، إلا أنه لا يعتبر نشاطا رياضيا عاما، بل نشاطا كنسيا، وبالتالي لا يشمله قرار حظر إنشاء الأندية على أسس دينية. كما أنه ليس تابعا مباشرة للكنيسة القبطية، مثل  “كأس الكرازة”، الذي يسلّمه البابا شخصيا.

و”كأس الكرازة” يشبه في تنظيمه إلى حد ما مباريات بطولات الكؤوس، إذ تجرى فعالياته على مرحلتين: التصفيات الأولية، وتتم على الملاعب الداخلية للكنائس في جميع المحافظات، أو في ملاعب يتمّ تأجيرها؛ أما المراحل النهائية فتجرى فعالياتها في ملاعب الكاتدرائية بالعباسية.

يبدو أن البطولات الكنسية حلّ مُريح لجميع الأطراف، فيباركه البابا بحضوره لليوم الختامي، ويقوم بتسليم الجوائز؛ وتُباركه الدولة، بحضور وزير الشباب والرياضة لحفلي الافتتاح والختام، أي تُعدّ هذه البطولات الكنسية بمثابة درء لـ”وجع الدماغ ” بالنسبة لكل الأطراف. لكن هل هكذا تتحقق ماهية الرياضة؟ ألا تقوم أساسا على دمج الجميع في لعبة واحده ومكان واحد، بغض النظر عن الدين واللون والعرق؟

حتى في إنجلترا، الرائدة في مجال “التعددية الثقافية”، والتي تعترف دائما بالأصول الدينية والعرقية لمواطنيها، لا يحدث هذا التطييف في الرياضة، بل على العكس، فيها حاليا تجربة رائدة في دمج اليهود بالأندية الرياضية القائمة، بعد أن ظلوا مهمّشين ومنغلقين على أنفسهم في أنديتهم الخاصة لعقود.  

ربما كان المصريون عموما لا يحبّون “وجع الدماغ”، ولكن ماذا إن أدت كل هذه “السلبية” إلى نتائج كارثية مستقبلا، خاصة مع الاضمحلال المتزايد لأي “مشروع وطني”، بهلال وصليب أو بدونهما؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.