أعلنت الحكومة العراقية، على لسان وزير ثقافتها والمتحدث باسمها، عزمها بناء جدار خرساني على الحدود مع سوريا لحماية البلاد من الإرهاب، في الوقت الذي بدأت فيه بولندا بالفعل ببناء جدار على حدودها مع بيلاروسيا لمنع دخول المهاجرين. وكانت تركيا قد سبقتهما قبل ذلك بسنوات وأنهت بناء جدار على حدودها مع سوريا، والذي يعد ثالث أطول جدار حدودي في العالم بطول 688 كيلومتراً وارتفاع ثلاثة أمتار.
فما مدى مشروعية إقامة الدول للجدران والسياجات الأمنية، انسجاماً مع حقوقها السيادية وحقها في حماية مواطنيها وأمنها الوطني، من وجهة نظر القانون الدولي؟
إن بناء الجدران والسياجات ذات الطبيعة الأمنية هو ظاهرة قديمة متجددة وتتمدد. وتاريخ العلاقات الدولية زاخر بأشكال مختلفة من هذه السياجات والجدران، وأغلبها يحمل طابعاً سياسياً، حيث تتجه الدول إلى رفض استقبال أو حتى مرور بعض الأفراد، أو تجنب بعض الأخطار. وفي هذه الحالة، تهدف الجدران إلى الوقوف ضد الإرهاب والجريمة العابرة للحدود أو الحدّ من دخول المهاجرين “غير الشرعيين”. كما يمكن أن يكون هدف الجدار عنصري بحت، ولعل مثال جدار الفصل الذي بنته إسرائيل هو الأقرب إلى الأذهان. لكن وفي بعض الأحيان، فإن الجدران تعبّر عن نزاعات إقليمية أو حتى داخلية. وفي هذه الحالة، تهدف السياجات الأمنية والجدران إلى تحقيق طموحات أو أطماع إقليمية لأحد أو لعدة أطراف، أو للفصل بين الأطراف المتنازعة أو حتى بين جماعات بشرية بعينها. والجدار الذي تحاول تركيا بناءه داخل الأراضي السورية بهدف عزل إعزاز وعفرين وربما ضمهما، هو خير مثال على هذا النوع من الجدران.
فالدول لها الحق في اتخاذ إجراءات لحماية مصالحها الأمنية المشروعة، وإن كنّا نصل ببناء الجدران والحواجز الأمنية إلى أحد أقصى المظاهر السلبية للسيادة، لكن مع ذلك لابد لهذه التدابير أن تتماشى مع القانون الدولي. وبما أن مبادئ القانون الدولي العام، لاسيما ميثاق الأمم المتحدة، تكرّس المحافظة على سيادة الدول في المجال الداخلي، وما دامت الجدران لا تتجاوز حدود أقاليم الدول المعترف بها دولياً، فإنه لا يمكن منازعة هذه الدول من الناحية النظرية في ذلك. ومع ذلك، فإن بناء هذه الجدران كثيراً ما يتسبب في انتهاكات جسيمة لقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.
انتهاك القانون الدولي لحقوق الإنسان
قبل كل شيء، إن وجود الجدران على الحدود كثيراً ما يتسبب في انتهاك الحق في الحياة! وعدد الوفيات من الأشخاص الذين يحاولون عبور هذه الجدران يزداد بشكل واضح. فعدد ضحايا الجدار الأمريكي على الحدود المكسيكية، على سبيل المثال، ارتفع إلى عدة أضعاف بين الأعوام 1995و2004. وفي الوقت الحالي، يموت العشرات من اللاجئين السوريين وهم يحاولون عبور الجدار التركي.
كما أن لـ “سياسة الجدران” هذه آثار كبيرة على الحق في حرية التنقل والحركة، والذي تكفله المواثيق الدولية. وبالتالي، فإن انتهاك هذا الحق يتسبب في انتهاكات أخرى للعديد من الحقوق المدنية والسياسية لاسيما الحق في الحرية والأمن. وإن كان للدول الحق في الحدّ من هذه الحقوق لحماية أمنها الوطني أو نظامها العام، فإنها ببنائها لهذه الجدران لا تحدّ فقط من هذه الحقوق، بل تمحوها تماماً.
من جهة أخرى، فإن العديد من الجدران في العالم تم بناءها استناداً إلى مبررات أمنية. لكن الجدل بين الأمن والحرية بدأ يأخذ منحى يخدم الحرية ويقدمها على الأمن. وهذا ما ظهر جلياً في رأي محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري سنة 2004 في قضية الجدار الإسرائيلي، عندما أوضحت المحكمة بأن هذا الجدار “يمس بشكل خطير العديد من حقوق الفلسطينيين”، حيث قامت بتطبيق عدد من أحكام القانون الدولي الإنساني ووثائق حقوق الإنسان على الحقائق. وبناء على المعلومات المقدمة إليها، استنتجت المحكمة، من بين استنتاجات أخرى، أن بناء الجدار الفاصل أدى إلى تدمير الممتلكات أو الاستيلاء عليها، وإلى فرض قيود كبيرة على حرية تنقل السكان في فلسطين، الأمر الذي يتناقض مع الالتزامات المترتبة على إسرائيل بموجب القانون الدولي.
كذلك، لطالما انتهكت هذه الجدران الحق في علاقات أسريّة طبيعية، حيث توجد عائلات وأسر على جانبي الجدار، مما يتسبب بتقليص وقطع العلاقات الأسرية. ولعل الجدار التركي والجدار بين الكوريتين خير دليل على انتهاك هذا الحق. كذلك، فإن الجدران الحدودية تنتهك حق الملكية، حيث يتم الاستيلاء على الأملاك الخاصة وتدمير المنازل والمباني الخاصة على طرفي الجدار لضرورات أمنية، ناهيك عن انتهاك الحقوق الاقتصادية، لاسيما الحق في العمل.
انتهاك القانون الدولي الإنساني
من شأن هذه الجدران، التي يمكن أن تجمّد نزاعاً، دون أن تقوم أبداً مقام أي حل سياسي، أن تكرّس العنف وأن تخالف صراحةً القانون الدولي الإنساني، لاسيما الحقوق المتعلقة بحركة النزوح واللجوء والإغاثة الإنسانية وكافة متطلبات الحماية.
فبحسب القانون الدولي الإنساني، فإن اللاجئين هم مدنيون لم يعد بإمكانهم الحصول على حماية دولهم. وبالتالي، فإن من واجبات الدول منح الفارين من بلادهم الحق في تقديم طلب اللجوء، مما يعني أنه يتعين على الدول تسهيل وصول هؤلاء الفارين وتوفير الخدمات الضرورية لهم ودراسة طلبات لجوئهم. كما أن من حق الفارين ألا يتم طردهم أو إعادتهم إلى بلادهم التي فرّوا منها طالما هناك ما يهدد سلامتهم. ويبدو جلياً أن الجدران التي تبنيها الدول تقف عائقاً أمام هذه الحقوق. وبالتالي، فإن الجدار الذي بنته تركيا، أو ذلك الذي شرعت في بنائه بولندا، يخالف صراحةً القانون الدولي الإنساني.
من جهة أخرى، تحدد اتفاقيات جنيف والبروتوكولان الإضافيان لها قواعد تضمن توفير الإغاثة المخصصة لضحايا النزاعات وتخفيف معاناتهم. وهذا يشمل مبدأ منع تجويع الأشخاص غير المشتركين بالأعمال العدائية، أو حدوث حالات نقص في السلع الضرورية والأدوية. وهنا أيضاً، يظهر جلياً كيف أن من شأن هذه الجدران أن تعيق أو تحدّ من وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة. والأمثلة على خرق مبادئ الحماية والمساعدة، التي يضمنها القانون الدولي الإنساني، بسبب هذه السياجات الأمنية والجدران لا تعد ولا تحصى في عالمنا هذا من آسيا إلى إفريقيا، مروراً بالشرق الأوسط وحتى بعض دول الغرب.
لكن وبالرغم من كل ما ورد، فإن تحريك المسؤولية الدولية للدول “بانية الجدران” ليس بالأمر السهل! فالواقع يُبرز بوضوح ضعف نظام المسؤولية الدولية للدول وعدم فاعليته، حتى في أكثر الأوضاع المثيرة للجدل. ومع ذلك، فإن تطور القضاء الجنائي الدولي في السنوات الأخيرة يدعو للتفاؤل، ويفتح آفاقاً جديدة باتجاه محاسبة الدول على تشييدها لهذه “الجدران العازلة للإنسانية”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.