بعد أربع أعوام من انخفاض حدة المعارك والتوتر العسكري في سوريا بشكل كبير، طفت على السطح بشكل أكبر نتائج الحرب، لتتعالى الأصوات من قبل المؤيدين لحكومة دمشق قبل غيرهم عن سوء الأحوال المعيشية والتردي الاقتصادي التي وصلت إليه المناطق التي تسيطر عليها حكومة دمشق.

لقد كان المبرر الرئيس لحكومة دمشق بأنها منشغلة بالمعارك التي تخوضها على الجبهات ولكن كان واضحا بالنسبة للمواطن السوري بأن الوضع المعيشي لم يتحسن مع انحسار المعارك بل ازداد سوءا، وإن كل عام يمر على السوريين داخل مناطق سلطة دمشق يتحسرون فيه على العام الذي قبله، بل الكثير منهم أصبح يتحسر على الأيام التي كانت فيها دمشق منشغلة بالمعارك على الجبهات لأن الوضع الاقتصادي والمعيشي كان أفضل بحسب وصفهم، لتعود دمشق وتبرر ذلك بأن العقوبات الدولية عليها تحول دون تحسن اقتصادها.

ولأن المصائب لا تأتي فرادى فقد جاءت جائحة “كورونا” ومن ثم الحرب الروسية على أوكرانيا لتزيد من معاناة السوريين في الداخل، وترفع بذلك أسعار السلع الأساسية على مستوى العالم ويضرب الاقتصاد السوري موجة من التضخم غير مسبوقة، ليأتي الحل من حكومة دمشق بالضغط على التجار والصناعيين لخفض أسعارهم.

بحسب بيان صادر مؤخرا عن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك السورية، فإن الوزارة ليست مع الإجراءات التي تتخذها الحكومة في الضغط على التجار والصناعيين من أجل خفض الأسعار، حيث اعتبرت هذا الإجراء سيؤدي إلى كارثة فقدان المواد من الأسواق.

وبينت الوزارة أن موضوع الأسعار يشغل الحكومة والمواطن والوزارة بشكل خاص ولكن التاجر الذي سيتم إلزامه بالبيع بخسارة سيلجأ لإخفاء المواد وسيتوقف عن التعامل بها وستفرغ الأسواق وتحصل أزمة غذائية كبيرة بحسب وصف الوزارة.

وفي نفس البيان شددت الوزارة على أنها لن تلجأ للتسعير الجبري وإنما ستسعر المواد بشكل عادل وستفرض استخدام فواتير صحيحة وحقيقية وتزيد المنافسة لخفض الأسعار.

تجدر الإشارة إلى أن نسب التضخم في سوريا قد قدرتها البيانات الرسمية عام 2020 بحوالي 163 بالمئة، وأن الرقم القياسي لأسعار المستهلك قد وصل إلى 2107.8 بالمئة حتى شهر آب/أغسطس من العام 2020 وذلك مقارنة بعام الأساس 2010، أي أننا أمام ارتفاع في الأسعار بشكل جنوني وغير مسبوق، أما نسبة التضخم في العام الماضي 2021 قدرتها بعض الدراسات بـ 246 بالمئة.

وفي السياق ذاته قال رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال، جمال القادري، إن “هناك حاجة ملحة لزيادة الرواتب إلى 7 أضعاف حتى يستطيع العامل أن يؤمن نفقاته المطلوبة”.

تأتي هذه الأرقام بالتزامن مع تخلي أغلب الأسر السورية عن 80 بالمئة من احتياجاتها الأساسية، لتبلغ نسبة الفقر في سوريا أكثر من 90 بالمئة.

ويتساءل مراقبون حول قدرة سلطة دمشق على إنتاج وتصدير الحبوب المخدرة إلى عدد من دول العالم، بمقابل عدم قدرتها على معالجة الكارثة الاقتصادية التي تمر بها البلاد إلا بالضغط على التجار واستخدام العصا الأمنية.

يذكر أن العديد من دول العالم ضبطت كميات ضخمة من الحبوب المخدرة واتجهت أصابع الاتهام نحو حكومة دمشق وبأن هذه المواد المخدرة تأتي من النوافذ البرية والبحرية الخاضعة تحت سيطرة سلطة دمشق.

من جهته الباحث الاقتصادي في مركز “جسور للدراسات” خالد التركاوي، يشرح خلال حديثه لـ “الحل نت” بأن كمية السلع المنتجة في سوريا هي بالأساس قليلة، وبأن الضغط سيكون على المستوردين لأنهم الغالبية وليس على الصناعيين، كذلك فإن المستورد الرئيسي للسلع الأساسية هم الشركة “السورية للتجارة” مع بعض التجار التابعين لسلطة دمشق، وبالتالي هناك فائدة لسلطة دمشق من الأرباح الناتجة عن الاستيراد ولا يمكن الضغط عليهم بشكل كبير، ولكن الضغط والتسعير الجبري سيكون على طبقة التجار التي تليهم وصغار التجار.

وأضاف التركاوي بأن هامش الربح لصغار التجار هو ضعيف حيث يتم وضع اللوم على هؤلاء التجار لتبرر الحكومة فشلها. فيما ختم قائلا بأن حكومة دمشق لا تسعى لإيجاد حلول حقيقية لضبط الأسعار وانخفاضها وإنما همها الأساسي هو الحفاظ على هامش الربح المرتفع لدى طبقة التجار الكبار التابعين لها.

غياب الاستراتيجية الاقتصادية للتسعير في سوريا

من الناحية الاقتصادية يتم استخدام استراتيجية التسعير من قبل الحكومات من خلال تدخلها في الأسواق لتجنب المشاكل المؤدية إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير نتيجة التضخم وانخفاض قيمة العملة، أو لتقليل حدة حروب الأسعار التي يمكن أن تنتج عن انخفاض الأسعار بشكل كبير، ومع اتخاذ هكذا إجراءات من قبل الحكومة والتدخل في الأسواق يجب أن يكون هناك عوامل أساسية توفرها الحكومة تتعلق بالبنية التحتية الجيدة ورأس المال البشري ذي الخبرات وإقرار القوانين والأنظمة المرنة لجذب الاستثمارات وسهولة اتخاذ قرارات تخدم الاقتصاد بشكل عام ولا تضر بالمستهلك النهائي.

وإذا أردنا الحديث عن حالة الاقتصاد السوري فإن استراتيجية التسعير الجبري والتدخل الحكومي لخفض الأسعار بما يتناسب مع دخل المواطن السوري وضعف القوة الشرائية لا يمكن أن تطبق على أرض الواقع لأن البنية التحتية في سوريا مدمرة بشكل يصعب تصديقه، فلا يمكن للتجار أن يستغنوا عن هامش الربح بالتزامن مع ارتفاع التكاليف من أجل المنفعة العامة، وبالتالي فإن إجبار الصناعيين والتجار على التسعير غير العادل سيجبر التاجر على الخروج من السوق وبالتالي سيعاني السوق من نقص في المواد المختلفة.

وبالأرقام فإن إجمالي الخسائر الاقتصادية خلال تسع سنوات من الحرب بلغت أكثر من 530 مليار دولار أميركي، منها ما يقارب 65 مليار دولار أميركي خسائر في البنية التحتية، بحسب تقرير “المركز السوري لبحوث الدراسات” الصادر عام 2020.

هذا وتأتي الأنظمة والقوانين الاقتصادية المتزمتة التي تقرها حكومة دمشق والسوق الحر غير الموجود في واقع الاقتصاد السوري والمتعلق بسعر الصرف وحرية حركة الأموال لتحول دون جذب الاستثمارات نحو مناطق حكومة دمشق.

وعليه فإن على حكومة دمشق دعم القوة الشرائية لدى المستهلك، والسعي الحثيث نحو تطوير البنية التحتية والابتعاد عن القبضة الأمنية لحل المشكلات بشكل عام وخاصة الاقتصادية منها.

خط ائتماني جديد من طهران؟

لم يغب الملف الاقتصادي عن اللقاء الذي جمع الرئيس السوري بشار الأسد مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والمرشد الأعلى علي خامنئي، في نهاية الأسبوع الماضي خلال زيارة قصيرة قام بها الأسد إلى طهران.

وقد نتج عن اللقاء توقيع اتفاقية خط ائتماني جديد مع إيران، وإمداد الأخيرة دمشق بنواقل من المشتقات النفطية من المحتمل أن تصل قريبا إليها، بحسب أنباء تداولتها صحف محلية.

يرى محللون اقتصاديون أن هذه الزيارة جاءت لطلب الدعم الاقتصادي من قبل طهران لدمشق بعد التردي الكبير في الوضع الاقتصادي والمعيشي والنقص الشديد في المشتقات النفطية التي وصلت إليه مناطق الحكومة السورية.

وللمفارقة فإن هذه الزيارة تعتبر الثانية منذ عام 2011، وتأتي بالتزامن مع التصريحات لسياسيين غربيين حول قرب عقد اتفاق جديد بين طهران والولايات المتحدة الأميركية فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني ورفع العقوبات الأميركية عن طهران وما قد سينتج عنه من انفراج في الأزمة الاقتصادية التي تمر بها طهران منذ سنوات، وبالتالي فإن رفع العقوبات عن إيران بشكل كامل يمكن أن يسهل من عملية إمداد حكومة دمشق بالدعم الذي تحتاجه بحسب محللين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.