في دراسة نشرتها الباحثة الأردنية لينا جزراوي حملت عنوان “صورة الفلسفة النسوية في الفكر العربي المعاصر”، سُلّط فيها الضوء على صورة الفلسفة النسوية في الفكر العربي المعاصر، وأوضحت وحللت صورة المرأة في الأسطورة والفلسفة، قبل الانتقال إلى شرح تاريخ الحركة النسوية في العالم الغربي.

الدراسة خصصت فصلا حول تشكّل النسوية العربية بدءا من عصر النهضة وحتى الفكر المعاصر، كما تتطرق إلى نماذج نسوية عربية من مدارس مختلفة مثل نوال السعداوي، وغادة السمان، وهشام شرابي.

رغم أن النسوية في أساس تكونها المعرفي، وجوهر انتمائها الفكري، ترتبط انبثاقا واتصالا بعالم الفلسفة ارتباطا لا مجال لدحضه، أو الارتياب فيه؛ فإنها لا تلقى في مشهدنا الثقافي العربي اهتماما فلسفيا واضحا يماثل ما تلقاه نقديا. ومن ثم لا نجد للنسوية موقعا فكريا واضحا وأكيدا في خريطة الفكر العربي المعاصر، باستثناء بعض المحاولات النادرة والفريدة.

النقد والفلسفة تجاه النسوية

لأن التلازم بين النقد والفلسفة في توطيد النسوية كفاعلية وكينونة، أمر مهم، يغدو ارتكان النسوية الأحادي إلى النقد وحده وتعويلها عليه، كذلك الذي يسير على قدم واحدة. وهو ما يجعل تقدمها بطيئا، فتغدو الطريق التي يمكن قطع مسافتها بخطوة واحدة تقطع بخطوتين أو ثلاث خطوات، وفق الحقوقية والناشطة النسوية سارا زايد.

فكيف إذا كانت هذه الطريق مفضية إلى ميادين ليست واضحة المناهج ولا الأساليب، دروبها ملتوية ومسالكها شائكة بالمطبات وممراتها غارقة بالمنعطفات والتفرعات؟ وهل بعد ذلك كله يمكن لنا أن نتساءل عن تقدم تحرزه النسوية العربية، وهي عرجاء تعول على النقد وحده، وتتكئ على النقاد، مستكثرة على نفسها الفلسفة التي هي أقرب إليها من النقد، وأولى بها منه، نظرا لما في النسوية من مسائل وإشكاليات معرفية تحتاج مزيدا من الاحتجاج والتوغل في الجدل والاستنباط، محتكمة إلى كل ما هو منطقي وعقلاني. وما دامت الفلسفة في منأى عن الخوض في النسوية كمفاهيم ومصطلحات وطروحات وملابسات، فلن تحرز النسوية العربية تقدما وهي تتحرك بحركات ناقصة وغير أكيدة.

إن النسوية كفكر ليست مجرد خطاب ينبني أساسا على الصراع ضد ما هو ذكوري أو التمييز الجنسي، بل هو فكر يسعى إلى دراسة تاريخ المرأة و إبراز صوتها والمطالبة بإعادة التفكير جذريا في جميع بنيات المجتمع السائدة، بحسب زايد، كما أنه موضوع ليس حكرا على النساء فقط، بل هو موضوع تمتد جذوره لتمس مختلف البنيات المكونة للمجتمع، لكن هذا الفكر تعرض للعديد من العراقيل والصعوبات في العالم العربي باعتباره فكرا غربيا تم رفضه من مختلف أنساق المجتمع ثقافيا، دينيا، وأكاديميا.

تعد نوال السعداوي من بين الشخصيات النسوية الأكثر تأثيرا في العالم العربي، فقد حملت ومنذ زمن بعيد لواء الانتصار لكل ما هو أنثوي، سواء كانت مطالب مشروعة (كمناهضة ختان الإناث خاصة في صعيد مصر وقراها) أو متطرفة كدعوتها إلى ضرورة إقامة العلاقات الجنسية قبل الزواج والمساواة التامة بين النساء والرجال، وتقنين الدعارة كوظيفة رسمية.

تقول في كتابها “أوراقي …حياتي”، “تبدو اللغة غريبة، كلماتها مبنية للمجهول، حروفها مقدّسة تخاطب المرأة بصيغة المذكر، كل شيء مذكر في اللغة، حتى الإله والشيطان والموت”. إن هوس النسوية جعلها ترى الوجود مذكرا، وتتساءل لماذا أُغفل دور المرأة؟ فلو لم تكن النساء، ولو لم تكن عشتار إلهة النماء والخصوبة لما استمرت البشرية.

النسوية العربية

تؤكد السعداوي أن “قضية المرأة أصبحت عِلما يُدرّس في جامعات العالم مثل العلوم الأخرى ولم تكف النساء في بلادنا أو في بلدان العالم عن النضال الطبقي الأبوي منذ بداياته في العصور القديمة، حتى عصرنا الحديث وما بعد الحديث؛ فالحركة النسائية التحريرية متصلة في التاريخ، تضرب بجذورها في كل بلد، وليست هي حركة غربية أو أوروبية”. فالنساء جابهن السيطرة والهيمنة* الذكورية منذ تاريخ قديم، وظفرن بمكاسب خلّدها التاريخ؛ منذ الحضارة الفرعونية والبابلية واليونانية…إلخ

ربطت نوال السعداوي قضية تحرير النساء “بتحرير الوطن؛ لأنهن نصف هذا الوطن ولا يمكن تحرير الوطن دون تحرير النساء” فنحرر الوطن من أيادي الدكتاتوريات والانتهازيين والخونة ونحرر النساء من قيود نظام أبوي الذي أحكم قبضته، وحاصر كل تصور يرفض الاستبداد.

بيد أن النسوية العربية لم يكن لها على طول مشوارها بزوغ مؤسس على القصدية ولا برامج تتسم بالجماعية، وإنما هي توجهات ذاتية ودعوات فردية تقدمية، تقوم بها في الأغلب كاتبات واعيات، في شكل مشروع ميداني أو كتابي. ولا تحفل بالمواصلة إذ تنتهي بمجرد انتهاء الكاتب، أو الكاتبة من الدعوة إليها وتأكيد أهميتها. والأسباب وراء الانفراد والانقطاع في الاشتغالات النسوية العربية لا مجال لحصرها، لكثرتها وتشعب صورها، ولكن من الممكن التعريف بأهم تلك الأسباب، ومنها ما طرحه المفكر عبد الرزاق عيد حول فكرنا العربي، مهتما بإحدى سماته، وهي مركزية العقل الذي له السلطة والخلافة التي فيها للجسد قوة متصلة بالعالم المحسوس للرعية والرعاع. فيصير السلطان أو الخليفة هو العقل المتوسط بين الله وعباده، أي بين العقل الأعلى والجسد الخاطئ. ولا يتوانى هذا المفكر عن تشخيص مناحي المأساة في حياتنا. هذه المأساة التي لا تحاكي الناس، بل تحاكي الفعل هاجيا بسبب ذلك الزمن العربي.

ومن الأسباب أيضا العقلية العربية نفسها، التي ترى أن من سمات الإنسان العربي المعاصر ارتباطه الجينالوجي المتجذر وغير الواعي ذهنيا ونفسيا وفكريا بالآباء المؤسسين، الذين سبقوه حتى لا تتقدم في أي خطوة ولا نهوض ما لم يكن هذا التقدم مبنيا على جذر يمتد إلى الماضي، رابطا التراثي بالمعاصر، والقديم بالجديد حتى إن كان هذا القديم يمتد إلى مئات السنين مرتهنا بمواضعات ذاك الزمان، فضلا عن أصحاب الفكر المتزمت والعقلية الأصولية، الذين يرون في السلف الماضي ـ خارج مواضعات الاعتدال الديني ـ نموذجا صالحا ومثالا لا يمكن إلا أن يحتذى بطريقة وضع الحافر على الحافر، معممين الجانب الديني على سائر مجالات الحياة، متناسين أن العصور تتنوع والأزمان تتبدل، ومعها تتبدل حاجات الإنسان ونوازعه ومبتغياته.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.