يبدو أن الأزمة العراقية التي توالت فصولها تباعا تتجه نحو لحظة مصيرية بعد أن بلغت ذروتها، وفشلت معها كل المبادرات ومشاريع الحلول للخروج منها، فإضافة إلى الانسداد السياسي الذي يعيشه البلد مؤخرا، فقد تصاعدت الهجمات الصاروخية بشكل لافت خلال الآونة الأخيرة أيضا.

وزادت هذه الهجمات من اضطراب الوضع الأمني الداخلي وجعلته هشا، لتنعكس طرديا على واقع الاستثمار العربي والأجنبي في العراق، في وقت يعرف الجميع حاجة البلد للاستثمارات الأجنبية المباشرة لتدوير عجلته الصناعية.

استمرار مثل هذه الهجمات من المؤكد أنه قد يدفع ببعض الشركات للتوقف عن العمل في حال لم تعالج هذه المشاكل الأمنية في المستقبل القريب.

أربعة صواريخ من نوع “كاتيوشا”، استهدفت ناحية شيخان التابعة لقضاء سوران في محافظة أربيل، مساء الـ 5 من أيلول/سبتمبر الحالي، حيث يأتي هذا الهجوم بعد يوم واحد من إعلان الإمارات عزمها لاستثمار المنطقة.

قد يهمك: استثمار الغاز في العراق.. 300 مقمق بحلول 2023 فقط من حقل “الحلفاية”

هذا الاستهداف ليس الأول من نوعه ضد المصالح الاقتصادية الإماراتية في العراق، حيث طالت صواريخ مجهولة المصدر، خلال شهر حزيران/يونيو الماضي، حقلي “كورمور” و”جمجمال”، التي تديرها شركة “دانة غاز” الإماراتية، في محافظة السليمانية.

العديد من المصالح الاقتصادية التركية، تتعرض أيضا إلى هجمات أخرى، إذ تشير أصابع الاتهام، بحسب مصادر أمنية، نحو الفصائل المقربة من إيران، ضمن حرب المصالح الاقتصادية الإقليمية التي يشهدها البلد.

ضرورة الإصلاحات الاقتصادية؟

الإصدار الجديد من تقرير “المرصد الاقتصادي للعراق” الذي أنتجه “البنك الدولي” في حزيران/يونيو الماضي، أشار إلى أن العراق تخرج تدريجيا من الركود العميق الذي مرت به في عام ،2020 بسبب جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19) وما صاحبها من انهيار أسعار النفط. وجاء في التقرير أنه على الرغم من التوقعات بنمو الاقتصاد العراقي بنسبة 5.4 بالمئة في المتوسط سنويا بين عامي 2022 و2024، فإن توقعات الاقتصاد الكلي تحيطها درجة كبيرة من المخاطر نظرا للاعتماد الكبير على النفط، واستمرار أوجه الجمود في الموازنة، والتأخير في تشكيل الحكومة الجديدة. كما أن الاعتماد على النفط وحده يمكن أن يضر بالدوافع المحلية لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية، مما من شأنه أن يعمق التحديات الاقتصادية الهيكلية في البلاد.

الاقتصاد العراقي حقق نموا بنسبة 2.8 بالمئة في عام 2021، بعد الانكماش بنسبة تزيد على 11 بالمئة في عام 2020 مع تخفيف القيود التي فرضتها جائحة “كورونا” على التنقل، وجاء هذا النمو مدعوما بتوسع قوي في الإنتاج غير النفطي، ولا سيما في قطاع الخدمات. ومع الإلغاء التدريجي في تخفيضات إنتاج “أوبك+”، فقد بدأ إجمالي الناتج المحلي النفطي أيضا في النمو في النصف الثاني من عام 2021، كما دفع ارتفاع عائدات النفط إلى تحقيق فائض في الأرصدة المالية العامة والأرصدة الخارجية الكلية في العراق في عام 2021. ومع ذلك، تستمر أوجه الجمود في المالية العامة، كما تبقى المتأخرات غير المحصلة كبيرة، بحسب التقرير.

ما هي دوافع الاستثمار في العراق؟

رغم عدم وجود أي إحصائية رسمية توضح حجم الاستثمارات الأجنبية في العراق، إلا أن السوق الاستثماري، يشهد تصاعدا ضخما، بحسب تصريحات صحفية سابقة لرئيس هيئة الاستثمار، شاكر الزاملي.

العاصمة العراقية بغداد وحدها، بلغ حجم الاستثمارات المحلية والأجنبية نحو 15 مليار دولار ما بين أعوام 2010 و2017، بحسب الزاملي.

كان لتركيا دور رئيس في تلك الاستثمارات، بالإضافة إلى دول خليجية، وتصدرت الصحة، والسياحة، والزراعة، والتعليم، القطاعات الاقتصادية التي استحوذت عليها تلك الاستثمارات.

بهدف جذب المستثمرين الأجانب للمساهمة في إعادة إعمار البلاد التي تعرضت بنيتها التحتية إلى دمار كبير بفعل الحروب والتوترات، شرّع العراق قانون الاستثمار عام 2006.

يتمتع العراق بفرصة فريدة لإجراء إصلاحات هيكلية عاجلة وواسعة النطاق من خلال الاستفادة من الحيز المالي الناتج عن عائداته النفطية المفاجئة الأخيرة.

وتُعد إعادة توجيه الإنفاق الحكومي نحو البرامج التي تعمل على تحسين النمو أمرا بالغ الأهمية للتنويع الاقتصادي وخلق فرص العمل، وأيضا لمعالجة أزمة رأس المال البشري في العراق، بحسب ساروج كومار جاه، المدير الإقليمي لدائرة المشرق بالبنك الدولي.

لكن ما الذي يدفع الدول إلى الاستثمار في العراق، نظرا إلى عواصف الأزمات التي تواجهه، وتصنيفه ضمن أقل الدول جذبا للاستثمار الأجنبي خلال الأعوام القليلة الماضية، بحسب مؤشرات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد”.

اقرأ أيضا: الاستثمارات الأجنبية في العراق: تَوقُّف /6000/ مشروع بسبب تهديدات الميليشيات والعشائر

تمسك الدول باستثماراتها في العراق، ينبع بالأساس من إدراكهم لقدرة العراقيين على تحمل الأزمات المالية، نتيجة للتجارب الكثيرة التي مر بها، بحسب رؤية الباحث الاقتصادي في وزارة التخطيط، معتز السامرائي، خلال حديثه لـ “الحل نت”.

بالرغم من قوة الضرر الذي ألحقته الأزمة المالية بالاقتصاد العراقي، إلا أن المواطن بقي محافظا على نسب استهلاكه للمنتجات، وهو ما يصنفه كملجئ للشركات الاستثمارية من الأزمات المالية في بلدانها، وفقا للسامرائي.

الفساد السياسي يشكل حافزا آخرا لهذه الشركات الاستثمارية للبقاء في العراق أيضا، إذ أن قدرة الشركات في التحكم ببنود اتفاقها مع العراق، يمكنها من زيادة أرباحها، وتقليل الضرائب المفروضة عليهم، هذا التعاون يتم عبر سماسرة مختصين، في شراء ذمم المسؤولين، وبعض سياسيو الأحزاب، للدفاع عن مصالح شركاتهم الاستثمارية داخل البلد، مقابل منحهم نسب ربحية، بحسب مصدر في هيئة الاستثمار.

صراع إقليمي استثماري

إن الطموحات الاستثمارية التركية في العراق، باتت تثير حساسية إيران، ولا سيما أن العراق تحول إلى ساحة للصراعات الاقتصادية الإقليمية، وخاصة بين تركيا وإيران بحسب تقرير لموقع “ذا ناشيونال انترست” الأميركي.

التقرير المنشور في 11 أيار/مايو، يربط بين هذه الحساسيات والمعارك التي شهدها قضاء سنجار مطلع الشهر ذاته، بين القوات التركية والعراقية ومسلحي قوات الحماية الإيزيدية.

ولكن تركيا لم تكن لتنجح في مساعيها لولا تراجع الدور الأميركي في البلاد، وبحسب معهد “واشنطن لدراسات الشرق الأدنى”، فقد دعمت الإدارة الأميركية خلال الفترة السابقة، الوجود الاقتصادي التركي في العراق، ودفعت سياسيون عراقيون، لمنح مناقصة إعادة إعمار مطار الموصل الدولي إلى شركات تركية، بدلا من الإيرانية والفرنسية.

الموقف الأميركي ينبع بحسب التقرير من بناء حاجزا قويا عسكريا، وقادر جغرافيا على مواجهة النفوذ الإيراني في شمال ووسط البلاد، وتحجيمه.

الإمارات بدورها، تحظى بدعم أمريكي، لخوض غمار الاستثمار في العراق، وتعتبره البديل الأقرب لوجودها، وتشير مصادر سياسية إلى أن الأخيرة، أعادت علاقاتها الدبلوماسية مع طهران، منتصف شهر آب/أغسطس الماضي، من أجل التفاوض على طبيعة وجودها في البلد، ويستدرك بأن هذا التفاهم لا يزال قيد الدراسة حاليا.

صراع المصالح المالية والسياسية


حسب الاعتقاد السائد، فإن الأزمة السياسية الحالية، هي امتداد للصراع الاقتصادي الإقليمي، خاصة وأن الخصومة السياسية منشقة بين جبهة الإطار التنسيقي الموالي لطهران، وبين تيارات سياسية معروفة بولائها لتركيا ودول الخليج.

معظم المفاوضات تناولت سبل القواعد الاقتصادية للدول الداعمة لها، بحسب مصدر مقرب من طاولة المفاوضات السياسية السابقة، بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري، لـ “الحل نت”.

إيران حاولت ثني الصدر عن رغبته بتقليل النفوذ الاقتصادي الإيراني في البلاد، ولكن رفض الأخير، وتمسك الإطار التنسيقي بمطالب طهران، عكر سبل الخروج إلى الحل السياسي.

يتفق مع هذا الرأي، أستاذ العلوم السياسية المتقاعد عثمان الموصلي، حيث يرى أن الصراع لا ينبع من تحديد شكل الحكومة المقبلة، بقدر علاقته بشكل المصالح الاقتصادية الدولية، خاصة وأنها أصبحت تمثل المورد المالي الأساسي للأحزاب السياسية العراقية.

تمسك كلا من تركيا وإيران بمصالحها الاقتصادية في العراق، ورفضهما التنازل عن أطماعهم، ستنتقل تأثيراتها بلا شك إلى الحكومة العراقية المقبلة، بما يهدد وجودها، وفيما لا تزال معالم مستقبل العملية السياسية مجهولة حتى الآن، ولكن استمرارها لفترة أخرى سيكون واقعا لا شك فيه، كما أن حلها سيكون بيد القوى الإقليمية بلا شك.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.