الفساد المالي والإداري في العراق يمثل أحد أبرز الظواهر الخطيرة التي يعاني منها البلد خلال العقديين الماضيين، فهو معرقل أساسي في عملية البناء والإعمار والتنمية الاقتصادية، وعائق أيضا في وجه الاستثمار بشتى أشكاله، حيث تسبب هذا الفساد بهدر المليارات من الدولارات التي كان يفترض أن تشكل عماد الاقتصاد العراقي، فيما تذهب عشرات المليارات سنويا إلى فاسدين ومتنفذين حزبيين وميليشيات مسلحة، وفق مراقبين.  

في الوقت الذي يعيش فيه نسبة كبيرة من العراقيين تحت خط الفقر كشفت هيئة النزاهة العراقية مؤخرا عن أكبر فضيحة فساد في تاريخ البلاد حتى وصفت بـ”سرقة القرن “، والتي أعادت ملف شبهات الفساد التي تطال القطاع المالي الرسمي في العراق إلى الواجهة، فهي ليست الأولى من نوعها، إذ جاءت ضمن سلسلة طويلة من سرقات طالت هذا القطاع وخصوصا المصرفي منها.

رغم ارتفاع الإيرادات النفطية مؤخرا إلى مستويات غير مسبوقة، حيث أظهرت بيانات رسمية، بأن إيرادات الدولة من النفط في النصف الأول من 2022 تجاوزت 60 مليار دولار، إلا أن ذلك لم ينعكس إيجابيا على وضع البلد الاقتصادي، والذي يعيش أكثر من 40 بالمئة من شعبه دون خط الفقر، بحسب إحصائية للأمم المتحدة.

وفي تفاصيل سرقة القرن كشف كتاب رسمي صادر عن هيئة الضرائب أن مبلغ 2,5 مليار دولار، جرى سحبه بين أيلول/ ستمبر 2021 وآب/أغسطس 2022 من مصرف الرافدين الحكومي، عبر 247 صكا ماليا، حرّر إلى خمس شركات، قامت بصرفها نقداَ مباشرة.

 القضاء العراقي أوضح في بيان، أنه قرر استدعاء أحد أعضاء اللجنة المالية في البرلمان العراقي للدورة البرلمانية السابقة بتهمة الإضرار العمدي بأموال الدولة، في قضية “سرقة القرن”، وأن النائب السابق خالف القانون لإصداره توصية بصرف الأمانات الضريبية قبل إتمام التدقيقات من قبل الجهات الرقابية.

البنوك والمصارف تعتبر واحدة من أكبر الدوائر التي تستخدمها الأحزاب والميليشيات لتهريب الأموال إلى الخارج، بحسب حديث الكاتب والخبير الاقتصادي هشام الخالد، لـ “الحل نت”، إذ يقول إن “نحو 57 بالمئة من المصارف الأهلية في العراق وتحديدا في العاصمة بغداد، خاضعة لسلطة الأحزاب وهي مملوكة بشكل مباشر للأحزاب تحت عناوين مختلفة”.

“فضيحة العام المالية” هذه بحسب وصف المراقبين، كشفت عن حجم التلاعب في العقود المبرمة بين القطاع العام الحكومي والخاص في دولة تتصدر منذ سنوات لوائح الفساد العالمية.

فسادٌ تشرعنه الجهات السياسية

“سرقة القرن” تمت بتواطؤ بين مجموعة كبيرة من المسؤولين والموظفين في هيئة الضرائب ومصرف الرافدين، مع مسؤولين كبار في الدولة والبرلمان العراقي. القطاع المصرف العراقي يعاني كباقي القطعات في العراق من فساد كبير وخصوصا المالية منها، لأنها تدر الكثير من الأرباح.

الفساد يبدأ من مزاد العملة، والجميع متفق على أن العمليات المصرفية يشوبها الكثير من الفساد، بحسب حديث الكاتب والمحلل السياسي أحمد الخضر، لـ “الحل نت”، حيث يقول بأن “عمليات التزوير وعدم الوضوح، فضلا عن عدم الشفافية للرقابة الحكومية، هي أبرز سمات القطاع المصرفي، بالتالي فأن هناك تضخم هائل في ثروات أصحاب هذه البنوك، وخلال السنوات الطويلة الماضية وصل حجم التضخم إلى معدلات عالية دون أن يتم محاسبة الجهات الفاسدة.

ظاهرة الفساد في القطاع المصرفي، وفق أحمد، أصبحت من الظواهر الشائعة في العراق، وبين يوم وآخر نشهد هروب أصحاب البنوك والمصارف إلى خارج البلد وبحوزتهم مبالغ خيالية، مرجعا السبب في ذلك إلى “ضعف وتواطؤ الجهات الرقابية وحماية بعض الجهات السياسية لأصحاب هذه البنوك، كونها تمثل أحد مصادر تمويلهم”.

في 23 أيار/مايو 2021، قال الرئيس العراقي السابق برهم صالح في كلمة متلفزة، إن 150 مليار دولار هُّربت من صفقات الفساد إلى الخارج منذ عام 2003.

نواب وسياسيون طالبوا الادعاء العام وهيئة النزاهة بالتصدي لطرق الفساد المبتكرة، والمتضمنة إبرام عقود تحتوي على خلل متعمد، ووضع شرط جزائي لجعل الشركات قادرة على تغريم الدولة.

في نهاية عام 2019 كشف مركز العراق للتنمية القانونية “أي سي أل دي” عن سبعة عشر شبهة فساد في عمل البنك المركزي العراقي على مدى السنوات الماضية، مطالبا بالتحقق من المصارف التابعة لجهات سياسية أو المدعومة من قبلها.

أداة تستخدم لتهريب الأموال

المسؤولين في الحكومة العراقية، وفق الكاتب هشام الخالد، على إطلاع لما يجري في عمليات البنوك والفساد الكبير، ونوهوا إليها مرارا، لكن مصادر القرار في العراق هي في الأصل حزبية، وبالتالي فأن هناك مشكلة في الحد منها ومواجهتها.

البنوك والمصارف في العراق بحسب الخالد، هي السبب الرئيسي في تهريب ملايين الدولارات والعملات إلى إيران وسوريا تحديدا، تحت ذرائع وحجج مختلفة منها مايرتبط بالإستراد والتصدير، ومنها مايتم عن طريق نقل كتل نقدية كبيرة إلى الخارج.

مصدر في البنك المركزي العراقي، كشف في ‏13‏ آب‏/أغطس من العام الحالي، على أن البنك المركزي، منح رجل أعمال عراقي أكثر من 321 مليار دينار لتمويل مصارفه، في فضيحة أخرى تكشف عن فساد مريع في البنك، وبحسب وثائق نشرتها وسائل إعلام محلية، فأن هذا الرجل مالك لثلاثة مصارف، وهي القابض والأنصاري والشرق الأوسط.

الأمر الذي أكدته النائب عن دولة القانون، عالية نصيف في تصريحات صحافية بينت من خلالها، أن هذه الفضيحة تأتي ضمن ما وصفته بـ “مسلسل الفساد” وسلسلة الكوارث المصرفية التي يتم الكشف عن تفاصيلها، من بينها قيام البنك المركزي بمنح مصارف “الغلمان” أكثر من 321 مليار دينار، حولت إلى إيران تحت عنوان التجارة، وهي جزء من مسلسل الفساد الذي كانت بدايته في مزاد العملة والذي حذرتُ منه منذ عدة سنوات.

يأتي هذا في وقت تتحدث فيه تقارير مختلفة، عن تراجع كبير في حصة العراقيين من القطاع المالي العراقي، حيث أشارت تقارير أنها تستنزف ما متوسطه 350 إلى 600 مليون دولار عبر صفقات البورصة ومبيعات البنك المركزي العراقي.

كردستان تدخل على خط الفساد

النائب في برلمان إقليم كردستان العراق علي حمه صالح، كشف في وقت سابق عن امتلاكه وثائق وأدلة تؤكد تهريب 330 مليار دولار من أموال العراق إلى الخارج عبر بنوك مختلفة في بغداد والإقليم. عادة ما ينتهي المطاف بالمتورطين بقضايا فساد في العراق إلى هاربين خارج البلد يتم العفو عنهم، بصفقات سياسية مختلفة.

بهدف الالتفاف على العقوبات الأميركية على طهران، أصبحت الأخيرة تستنزف خزينة العراق بمئات الملايين من العملة الصعبة (مزاد العملة) عبر صفقات وهمية وأخرى مشبوهة، حتى باتت تهيمن بشكل شبه كامل على الاقتصاد العراقي، حيث تمتلك نحو 11 مصرفا يعمل في العراق بشكل مستقل بحسب مصادر إعلامية.

اقرأ أيضا: فضيحة المصارف العراقية

 مصارف إيرانية اشترت حصة 6 مصارف عراقية أخرى، وبلغ إجمالي الأموال الخاصة بالإيرانيين في تلك المصارف أكثر من 70 مليار دولار، وحمل الكثير من هذه المصارف واجهات عراقية، لكنها بقيت تهرّب الأموال من العراق إلى إيران خلال العقوبات الاقتصادية الأميركية على طهران. عدد المصارف العراقية يتجاوز وبحسب التقارير، عدد مصارف دول بريطانيا والإمارات والأردن ولبنان مجتمعة.

مبعوثة الأمم المتحدة في العراق، جنين بلاسخارت، قالت في مطلع تشرين أول/أكتوبر الماضي، إن “الفساد المستشري يشكل سببا جذريا رئيسا للاختلال الوظيفي في العراق.”

رغم تحقيق البنك المركزي العراقي أكبر إحتياطي في تاريخه وارتفاع الإيرادات النفطية مؤخرا إلى مستويات غير مسبوقة إلا أن الخاسر الأكبر من كل هذه الأرقام هو المواطن العادي الذي أصبح ضحية الصراعات الحزبية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.